(3) بالتأكيد، عندما يتكلم الأستاذ العروي على «الجميع» أن ينصت، ويمعنوا في الإنصات، لوزن الرجل الثقافي والفكري، ولعمق تحليلاته، ونفاذ بصيرته، وحجيته المعرفية، وتمرسه العلمي الأكاديمي التي أثبته بجدارة واقتدار على امتداد بناء مشروعه الفكري والإيديولوجي. فهو ممن يزينون كلامهم بميزان الذهب، وينصتون للتاريخ إنصات المحلل المقتدر؛ وهو فضلا عن ذلك، وبعبارة إدوار سعيد، «أفضل مؤرخ في شمال إفريقيا»( إدوار سعيد: الثقافة والامبريالية،242). وهنا تكمن الهيبة التي يحس بها كل قارئ لأعمال العروي، والرهبة التي تلازمه في ذلك، فيقع في إحراج التعالي بالمقروء، ومحظور تأويله، فيحصل سوء الفهم والاستيعاب، وهو مما اشتكى منه الباحث، منذ مؤلفاته الأولى، وتألم له، حتى من متاخميه من القراء ( خواطر الصباح،1967، ص24). ومع ذلك، وبالرغم مما تنطوي عليه هذه القراءة من مغامرة وتجرؤ على قامة معرفية من حجم الأستاذ العروي، فالإنصات الجيد لمثل هذه القامات العلمية، عندما يتكلمون أو بالأحرى يكتبون، ينطوي على «حكمة» بليغة، سواء أأدركناها أم لم ندركها بعد. وتلك مهمة صعبة على أي قارئ، ومن أي موقع، ولكن لا تعفيه من كسر «قوقعة السلحفاة»، ومن محاولة المغامرة المحسوبة، والتقدم حتى في «حقوله الملغومة»، لاستجلاء موقفه من المسألة الأمازيغية بالمغرب، وكيف عالجها، والسيناريوهات الممكنة في هذا الاتجاه، في ظل ما عبر عنه: «احنا المغاربة «(الديوان، ص 22)، الذين رضعنا اللغة من أم غير الأم العربية، وتربينا تربية غير التربية الأولية ( يعد مفهوم التربية الأولية أو تربية الأم من المفاهيم الإجرائية والمركزية التي أقام عليها الأستاذ العروي كتابه «الديوان». ويختلف مضمون هذا المفهوم على امتداد الكتاب، لكن لا يخرج عما يندرج ضمن العقلية العامة، أو الذهنية السائدة أو التقاليد والأعراف أو السلوك العام، أو الشخصية النمطية إلخ.، ص 22 23 ...) التي ترباها بعض المغاربة ممن سحنتهم «بربرية»، و»لون حدقتهم»، ولسانهم عربي؛ وكذا ممن لغتهم وثقافتهم الأولية هي الأمازيغية، بصرف النظر عن «سحنتهم» ولون حدقتهم، وحملوا ثقافتهم إلى التعليم النظامي وتفاعلوا مع اللغة العربية، ومع باقي اللغات الأخرى تفاعل اندماج وانصهار لا انفصام فيه. (4) وأخير، يتكلم الأستاذ عبد الله العروي عن المسألة الأمازيغية، وربما تحت فعل الزمن، فالزمن، كما يقر هو نفسه، «مخلاف، يغير فينا كل شيء، يغير مواقفنا من الكون والمجتمع والسياسية والأخلاق. يغير علاقتنا بالطبيعة وبالجسد وبالأسرة وبالسلطة..» ( السنة والإصلاح، ص:88) فلماذا انتظر الأستاذ العروي كل هذه المدة، ليفعل فيه الزمن هذه الأفاعيل، ويرغمه على التكييف مع المسألة الأمازيغية، وقد كانت نصب عينيه لولا أفاعيل الزمن نفسه، وعماء الإيديولوجيا وجحودها وقت ذاك، وهي توهم بالوحدة بين الشرق والمغرب؟ يقول في فصل وسمه ب»الأمازيغية» في كتابه:»الديوان»، وبعدما دشن حواره مع الصحفي الأمازيغي في الصفحات الأولى من الكتاب في الموضوع :»كاذب أو منافق من يدعي أنه يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي، أو الملاحظ المتجرد، أو الباحث الموضوعي. كل منا، حسب وضعه الاجتماعي وتربيته الأولى، يوالي الدعوة أو يعاديها تلقائيا، ثم بعد حين، بعد التفكير والتروي يميل إلى الاعتدال والنقاش الهادئ.» (من الديوان ص53.) لقد حصل الاقتناع عند الأستاذ العروي ليناقش المسألة الأمازيغية بالمغرب، وربما استوت معالمها الكبرى، ليضعها الباحث تحت مجهره العلمي والتاريخاني، بعيدا عن أي طرح متسرع أو ديماغوجي، وتحسبا لكل العواقب الممكنة، واستئناسا «بتجارب دول أخرى، قريبة وبعيدة»، إشارة إلى أوضاع إسبانيا، (الباسك وكاطالونيا) وإنجلترا(استكتلندا وبلاد الغال). وهي خطوة إيجابية أولى متقدمة ومحمودة، إن لم تكن نوعا من النقد الذاتي المبطن والمطلوب، للانتقال من وضع «المتفرج اللاهي» في فلكور بدوي أو ثقافة بدوية ( العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص:114)، أو «الملاحظ المتجرد» الذي لا يعنيه أمر المسألة الأمازيغية البتة، ولا يدخل في نطاق وجدانه وتربيته( الميلودي شغموم: المواطنية والمعاصرة، ص71)، أو حتى «الباحث الموضوعي» الذي يتخذ المسافة اللازمة لخدمة الحقيقة في صيرورتها، وخلقها المتواصل والمتجدد، إلى وضع الاعتراف بوجود مسألة اسمها المسألة الأمازيغية، على خطورتها، ومناقشتها بهدوء واعتدال وترو، وواقعية وتبصر، وبوعي نقدي، وأساسا، بالخضوع للفكر التاريخي، بكل مقوماته ( العروي: العرب والفكر التاريخي، ص:226). أما الخطوة الإيجابية الثانية، وبعد الإقرار بوجود ما يسمى بالمسألة الأمازيغية بالمغرب، وبصرف النظر عن موقفه منها، إيجابيا كان أم سلبيا، فهو نزوله إلى الواقع المتموج للتأمل واستجماع المعطيات لبناء الموقف، واستشراف مستقبل اللغة الأمازيغية في «سوق اللغة» بالمغربي الراهن، بما هي بناء رمزي، وسند ثقافي ووجداني للناطقين بها، والمنتمين لها، بل وبما هي إطار مرجعي لإنتاج المعرفة، والرؤى للإنسان والعالم وما بعده، تستوجب الاعتراف فالإنصاف. (5) نزل الأستاذ عبد الله العروي إلى الميدان، وشمر على ساعد الجد، وانخرط في رصد الراهن المغربي، وبالتحديد واقع اللغة الأمازيغية فيه. وهكذا نزل إلى مقهى شعبي، وهو ما يطيب له القيام به بين الفينة والأخرى، لا ليشرب قهوة، كعادة كثير من زوار المقاهي والمترددين عليها، ولكن ليراقب الزبناء ويستمع إلى ما يقولون (ص5). قد يكون القصد هو جمع مادة لبحث علمي في موضوع اللغة الأمازيغية التي انتزعت الاعتراف الرسمي، وشغلت الناس، وخاض فيها المثقفون، و»استثمر» فيها السياسيون. وقد ساقه القدر، هذه المرة، كما يحكي، ومن حسن طالعه، إلى الجلوس بجوار محرر صحفي شاب بجريدة أسبوعية تعبر عن مطالب ثقافية وسياسية للغة الأمازيغية، وهو يقرأ صحيفة مكتوبة بالتيفناغ. وجرى الحوار الآتي بينهما: - العروي/ قلت له: هل تقرأ الحرف بسهولة؟ - الصحفي/ أجاب: نعم. - العروي/ قلت: تفضل، اقرأ الصفحة الأخيرة.» ص:6. (انتهى الحوار.) قد يكون لقاء العروي بالشاب الأمازيغي مدخلا جيدا للحوار البناء والمنتج، لبلورة موقف مقنع حول وضع اللغة الأمازيغية، وما يرتبط بها، متى افترضنا «أولا (حسن النية)، وإرادة التفاهم، وافترضنا قبل كل شيء فكرة الاعتراف بالآخر، الاعتراف بحقه في الوجود، والاعتراف بحقه في الحياة وبحقه في التميز والاختلاف، لا الاعتراف فقط بالتفوق وبحق الأقوى والأغنى والأعلم في فرض رؤيته على الآخر»، وبالتالي متى سلمنا بأن «الحوار الحقيقي ينطلق من مسلمة أساسية هي مسلمة التساوي في الوجود وفي الحق»( محمد سبيلا، نفسه). غير أن شيئا من هذا لم يحصل. فقد كان اللقاء مناسبة مفتعلة لتدشين حوار مغشوش، بانتفاء شروط التفهام والتساوي والاعتراف، والتخاطب «من أجل الالتقاء في موقع على المسافة الفاصلة بين المتخاطبين»(العمري: دائرة الحوار، ص57)، أي بين المحاور/العروي والمحَاوَر/ الصحفي الأمازيغي. فالعروي في هذا اللقاء/الحوار وما سيتلوه، يظهر أنه يبخس الناس «أشياءهم»، وينصب الفخاخ لمحاوره، ويصادر على المطلوب، وكأنه حدد هدف الحوار سلفا، وهو رفضه لمسألة اسمها المسألة الأمازيغية، باعتبارها مسألة زائفة غير ذات مردود، في الأفق القريب والبعيد. فقد سأل العروي ذاك الشاب الصحفي والأمازيغي قائلا: - هل تقرأ الحرف بسهولة؟ وقد وظف السائل/ العروي في سؤاله حرف الاستفهام «هل» لطلب معرفة خبر يجهل العلم به، لطلب التصديق، ولا يجاب عنه سوى بنعم أو لا. وقد أجاب المجيب بنعم. ففهم السائل معنى لفظ «بسهولة»، فهما قد لا يطابق فهم المجيب. وهو مما يدخل في إطار التغليط بالألفاظ، أو مغالطة الاشتباه والغموض، «متى لم يطابق القول المعنى بشكل يجعل دلالة اللفظ مشتركة. وهذا الوضع يشكل إحدى الحالات التي يستغلها المغالط، سائلا كان أم مجيبا للتمويه وسوق المحاور إلى ما لا يرغب فيه. ولهذا يشترط أن يفهم من كل من السائل والمجيب من اللفظ معنى واحدا حتى تكون دلالته عندهما واحدة.» (الباهي:» الحوار ومنهجية التفكير النقدي»، ص: 174-182..) «السهولة» عند العروي ضد «التهجي»، وقد تكون عند المجيب غير ذلك، مما يحول دون فهم المقصود، فيتعطل الفهم والإفهام ، ويحصل التشويش والتعتيم والالتباس، ويضيع التواصل المنشود. فقد تفضل الشاب الصحفي الأمازيغي بقراءة الصفحة الأخيرة التي يشرف على نشرها، كما طلب منه السائل، متعاونا معه، وبدأ يقرأ «يتهجى ببطء ملحوظ»، فاستنتج السائل/العروي، ومن جهة واحدة، ودون تحفظ يذكر: - العروي: «قلت: ليس الأمر هينا إذن». ويبدو، وكأن هذا الاستنتاج أو بالأحرى هذا الاكتشاف من نوع: «وجدتها !... وجدتها !... أوريكا !.... أوريكا» !. هو استنتاج كاف ودامغ بالنسبة للعروي للإقرار بالفشل الذريع لمن اختار حرف تيفناغ حرفا رسميا للغة الأمازيغية، ومن راهن عليه حتى من أصحاب الدعوة الأمازيغية أنفسهم. فهذا يبين بالحجة الدامغة أن شاهدا من أهلها، الشاب/المستقبل، قد فشل في أول امتحان أجراه المحاور لمحاوره. ويبدو أنه امتحان مبطن ومفخخ أجره الأستاذ العروي، ولم يقدر الصحفي المتعلم حتى أن يقرأ حرف تيفيناغ بتلقائية وطلاقة، وبالتالي لم ينجح في البرهنة، ومن معه، على سلامة اختيار الحرف وآفاقه المستقبلية، خاصة بعد «نقاش طويل حول الحرف واللغة والثقافة والتربية والهوية والانتماء، إلخ» (ص6)، وكأنه، وبعبارته الوارد في الصفحة 62 من الديوان، أراد أن يسمع من محاوره الأمازيغي ما يوده، أو يستطيع أن يسمعه». فالمسألة بالنسبة للعروي حيوية وعناصرها مترابطة، ويتعذر الفصل بينها. فالحرف مجرد مدخل لأزمة المسألة الأمازيغية والثقافة والمجتمع المغربي. فالعناصر متلازمة، تستدعي الخصوصية والانتماء والهوية، والتراث وغيرها، ف»الحرف يخدم اللغة واللغة تخدم الثقافة والثقافة تخدم المجتمع».(ص55). فسؤال السائل/ العروي للصحفي الأمازيغي أن يقرأ الصفحة الأخيرة من الصحيفة للتحقق من معرفته القراءة بحرف تيفناغ، هو وسيلة كيدية ليجد الحجة الكافية لإبطال دعوى مدعيه، وكأنه يصادر على صعوبة القراءة بهذا الحرف، ويبحث عما يؤكد ذلك فقط. وبالتالي فهو لا يسعى إلى حقيقة، ولا يرجو بناءها، ولكن ينحو نحو إقرار حقيقة عنده، وهي فشل اعتماد حرف تيفيناغ، وتسرع دعاته، ليضع محاوره الأمازيغي في موقع الكذب الصراح، ومن ثمة زيف أطروحة دعاة الأمازيغية أجمعين، فكأن المسألة الأمازيغية بالمغرب مسألة زائفة، وما يترتب عنها زائف بالضرورة. فقد ادعى الصحفي الأمازيغي الشاب أنه يعرف قراءة حرف تيفناغ بسهولة ويسر، لكنه لم يقدم حجة دامغة على دعواه، وسقط في امتحان قراءة الصفحة الأخيرة من جريدة أسبوعية هو من محرريها، إذ «بدأ يتهجى لكن ببطء ملحوظ». فالأمر، كما استنتج الأستاذ العروي وقرر، ليس هينا في الاعتقاد الساذج للشاب الصحفي الأمازيغي، إذ يتعذر أن يتعود المرء على حرفين مختلفين، مهما ادعى، ومهما كانت موهبته: - المعطى= الصحفي الأمازيغي لا يقرأ حرف تيفيناغ بسهولة - النتيجة = اختيار حرف تيفناغ اختيار فاشل. وحجة الفشل من أهلها وأحد دعاتها، والمشتغلين عليها، مع أن نتيجة الفشل متضمنة من المعطى/الحدث. ويظهر من خلال هذا المثال الذي أورده الأستاذ العروي، أنه ضحية آلية التعميم حيث لا يستقيم التعميم، إذ انطلق من حالة محددة، وقد تكون معزولة ليستنتج منها موقفا قويا وحاسما، كالذي استنتجه. وهو ما لا يستقيم عقلا ولا منطقا ولا حجاجا، حيث يغالط بإخفاء انحراف الاستنتاج، والإيهام بالشمول، وبالتالي التغرير بالقارئ، والاستخفاف بذكائه. فالعروي، على ما يبدو، هو الذي يدير الحوار ويتحكم فيه، ويرسم مساره، كما رئيس الجلسة في المحكمة. ولهذا السبب فالحوار لا يتم بمقاييس متساوية، بل قد تتحكم فيه اعتبارات شخصية»( الباهي، نفسه، ص236)، وقد تكون إيديولوجية صرف. وبهذا الصدد، وبعبارات الأستاذ محمد العمري، «لا فرق بين أن يُكرهَ «الظنين» على تحمُّل تهمة ملفقة عن طريق التعذيب البدني والنفسي، وبين العنف المنطقي المضلل/المعنت الهادف إلى الإكراه لإجبار الآخر المخالف على قبول أفكار أو مواقف زائفة. بل يمكن الاستئناس بما هو أكثر من ذلك بما نراه في المحاكمات الجنائية حيث يعترض المحامي والاتهام معا على الأسئلة الاستدراجية الهادفة إلى الإيقاع بأحد المتقاضين أو الشهود، وللقاضي أن يقبل الاعتراض وله أن يرفضه». وهكذا، فقد انزلاق الأستاذ العروي في طرحه من قضية صحفي أمازيغي لا يقرأ بسهولة بحرف تيفيناغ إلى قضية إيديولوجية صرف. فسؤاله من نوع الأسئلة المدخولة والفاسدة حجاجيا لأنها تنطوي على خدعة. فأنت أيها الشاب الصحفي والمسؤول عن تحرير صحيفة أمازيغية لا تقرأ الحرف بسهولة وطلاقة، أي تتهجى ببطء في قراءتك لصفحة من صفحات صحيفة أنت تشرف عليها، وتعبر من خلالها عن مطالب لغوية وثقافية وسياسية، فمعنى ذلك أن: - حرف تيفناغ مشكل - اختيار حرف تيفيناغ وترسيمه إذن اختيار فاشل - إذن فشل أطروحات دعاة الأمازيغية وزيف مطالبهم وهو ما يدخل في إطار ما يعرف القنطرة المنزلقة أو المنحدر المنزلق الناتجة عن استخدام عوامل من قبيل «بما ...إذن... «( الباهي:»جدل العقل والأخلاق في العلم»، ص:186.). بما أن الصحفي الأمازيغي محرر نشرة أمازيغية وبحرف تيفيناغ وبسهولة... إذن حرف تيفيناغ غير سهل، وبالتالي فاختياره وترسيمه غير مجد، وبالتالي فهو صفقة مفلسة مقدما ( انظر تفاصيل ملابسات اختيار حرف تيفيناغ عوضا عن الحرف العربي أو الحرف اللاتيني، ومسار ذلك الاختيار في كتاب أحمد عصيد:»رسائل إلى النخبة المغربية»، ص92.). وهو استنتاج فاسد، قائم على حجية حكاية فاسدة في التدليل، ب»حكاية المقهى» وبالتعيين مقهى شعبيا، أي فضاء خاص بالفئات الشعبية، وليس فضاء للنخب من طينة العروي. وهي حجة من أجل إفحام الصحفي الأمازيغي وتكذيبه وإحراجه، وإفقاده الثقة في نفسه ثم إقناعه بفشل اختيار حرف تيفيناغ وترسيمه، وتهافت دعواه، بل أخطر من حكاية المقهى الشعبي، ومحاورة الشاب الصحفي الأمازيغي ومحاججته هو العبور بها نحو دعاة الأمازيغية أجمعين بالمغرب، وكل المتعاطفين والمحتملين معهم، على «أقليتهم» في تصوره. على هذا الأساس يتوجه العروي إلى جماعة من المجتمع المغربي تقدر عنده بحوالي 27% ممن يتكلمون بالأمازيغية فقط لإقناعهم بفشل اختيار حرف تيفيناغ وبزيف القضية برمتها، مع ما يمكن أن يترتب عن كل ذلك من أعباء زائدة، على اقتصاد البلاد، من جهة، وما يمكن أن يصيب وحدة المجتمع وانصهار مكوناته، ووحدة نسيجه، من تفكيك تلك الوحدة، وتبديد ذلك الانسجام من جهة أخرى. فأصبحت الأمازيغية بذلك فزاعة للتخويف والتخوين، وبالتالي بمثابة «شيطان متربص بالبلاد»( أو ما عبر عنه أحمد عصيد بفوبيا الفتنة، انظر كتابه:»رسائل إلى النخبة المغربية»، ص61)، وكأنه بذلك يردد موقف الحركة الوطنية في نسختها السلفية، أو القومية، ويعيدها بلغة الماركسي التاريخاني. وكما هو واضح، فلم يجمع الأستاذ العروي مادته الحجاجية من»شريحة شائخة»( بنسالم حميش، نفسه، 193) وفي طريقها إلى الانقراض من بداة اللغة الأمازيغية الناطقين بها على السليقة، ولا جال في «المناطق المعزولة عن الحواضر والتمدن»، ولكن اكتفى بحدث موغل في الذاتية، ومحدود في المجال ? مقهى شعبي- متوسلا بالحكاية كأداة حجاجية، يصعب أن تكون نموذجا صالحا للتعميم، والاستنتاج الحجاجي السليم؛ إذ ماذا ستكون مصير تلك الاستنتاجات لو صادف المحاور/العروي شابا عاديا، أو حتى شابا «موهوبا» يتقن قراءة حرف تيفيناغ بسهولة وسلاسة ويسر، سواء بعد حصول التراكم الكافي لاستيعاب الحرف والتعود عليه، أو حتى قبله؟!. غير أن الباحث متأكد من صحة فرضيته ومطمئن لها، على أساس نسبة الناطقين بالأمازيغية، التي لا تتجاوز في نظره، ودون الإفصاح عن مصدر الخبر، 27% من المغاربة فقط. وبمقتضى ذلك فهم أقلية، في نظره، ما دامت الأغلبية منهم قد تعربت أو أصبحت مزدوجة اللغة. وهو الموقف الذي استخلصه في كتابه التاريخي: «الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية (1830/1912»)، وهو يتحدث عن الوضعية اللغوية بالمغرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبناء على دراسات استشراقية وقتها، اطمأن لها، وسلم بها منذ ذلك الحين، وبني عليه مواقفه. وكما هو معلوم، فالإحصاءات آلية من آليات المعتمدة في الاستدلال الحجاجي، لها قوتها الحجية فالإقناعية، وتنوب عن اللغة الطبيعية، وتستغل لمآرب مختلفة، كتلك التي سعى إليها الأستاذ العروي لما سلم بصحة ذلك الرقم، ليبرهن على أن ما يدعى بالمسألة الأمازيغية مسألة أقلية، أما الأغلبية فقد تعربت، بفعل «النزوح المتزايد نحو المدن التي يغلب على جميعها تقريبا التخاطب بالعربية»(الديوان، ص:53)، وبالتالي فزيف المسألة ثابت ويجب التوجه نحو الأمام، والتعامل مع الوضع بمنطق اليسر ومنطق الاقتصاد، ومنطق المصلحة. وبصرف النظر عن صحة تلك الأرقام، ومصدرها، ونوايا اعتمادها في استخلاص ما استخلصه، وحيثيات الاختيارات الأحادية، فمشكل الأمازيغية لم يرتفع، وظل واقعا قائما، وشاهدا ناطقا ينتظر حلا باعتباره جزءا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وإن أومأ إلى ما يمكن اعتباره حلا مؤقتا، ومتحكما فيه، فيما اقترحه من إقامة ديمقراطية محلية، وجهوية موسعة، في ظل دولة وطنية ديمقراطية، تقر بالدستور المحلي، والبرلمان المحلي، قد تجد للمسألة الأمازيغية حلا جهويا» (الديوان، ص:129/130)، وبالمنظور الذي اقترحه العروي، إذا تم اعتماده، ويظهر أنه بعيد المنال في المنظور القريب. يفضي هذا الموقف إلى أن العروي قد خَطّ خطا فاصلا بين من يهمه أمرهم، ومن لا يهمه أمرهم. اختار انتماءه وأفقه بعيدا عن المسألة الأمازيغية، وبالتالي عن أفق وطن اسمه المغرب تعايشت فيه، لمدى قرون، لغة أمازيغية سكنت أهلها وسكنوها، ولغة عربية لم تكن فكانت سكنا أخرى لهم أيضا. فقد اختار الأستاذ العروي مذ كان طالبا، وبحكم تربية الأم، الانتماء العربي والعروبي لما استغرب في لقاء آخر من لقاءاته الكثيرة، وحكاياته المختلفة؛ وهذه المرة لقاء كبير أساتذة الدراسات السياسية، ليس في مقهى شعبي هذه المرة، ومع صحفي أمازيغي لجريدة مغمورة، ولكن في عاصمة الأنوار باريس، وموطن الحداثة والتحديث، ومع أحد كبار العلوم السياسية، وأكثرهم شهرة. فقد بادر الأستاذ بسؤال العروي الطالب: - لاشك أنك بربري (أمازيغي) وأجب العروي/ الطالب، وباستغراب وبرودة: - كل ما أعلم أني عربي اللسان». وليكم الأمر كذلك، وللعروي الحق في اختيار اللسان والانتماء الذي يشاء، وله الحق في تقرير ميتافيزيقيا الأصول، مع صعوبة الإقرار بها، وله نفس الحق في القول بتنوع أجناس المجتمعات، وتكون الدول، بفعل الغزو، لكن لا يمكن أن يكون مقياسا لكل شيء، مهما علت قامته المعرفية وحجيته الثقافية، ومن ثم، يصعب إلغاء واقع مغربي قائم يتفاعل فيه اللسان العربي بالأمازيغي، منذ قرون طويلة، وفي انصهار قل نظيره.