حين ودع آخر فاعل مسرحي، فضاء المركز الثقافي"البافيون"، الذي شهدت عرسه الثالث اللقاء المسرحي العربي - مدينة هانوفر، قالت داكما كوسلوفسكي المكلفة بالاستعلامات في هذا المركز الثقافي:" الآن أصبح المركز ومعه المدينة يعيش تحت ثقل صقيع ثلوج يناير بعيدا عن تلك الحيوية والحياة، التي منحها المسرحيون العرب لهذه الفضاءات لمدة قرابة أسبوع كامل. كان هذا اللقاء مفعما بالحيوية والبساطة والحميمية.. وهذا يرجع إلى خصوصية اختياراته الفنية والتنظيمية، حيث الهدف من وراء تنظيمه، كما صرح مدير اللقاء، المسرحي المغربي عبد الفتاح الديوري للمحطة التلفزيونية الالمانية الثانية ZDF ، "هو لقاء التجارب المسرحية العربية فيما بينها من جهة ومع الألمانية من جهة أخرى بعيدا عن أجواء التنافس والتوتر سعيا وراء الجوائز، فكل المشاركين في هذا اللقاء هم فائزون باحتكاكهم مع الآخرين و بثراء مضاف إلى مسيرة تجربتهم الذاتية".. لقد زامن يوم افتتاح هذا اللقاء الثالث كاستمرارية مسرحية عربية يوم اختتام الدورة التاسعة لمهرجان المسرح العربي في مدينة وهران، يوم التاسع عشر من شهر يناير، وعلى الخصوص بالنسبة لفرقة أنفاس المغربية، التي جاءت للمشاركة في هذا اللقاء بمسرحية "الدموع بالكحل" مباشرة بأيام قبل إعلان فوزها في الجزائر بجائزة الشيخ سلطان بمسرحيتها "الخريف" كأفضل عمل مسرحي عربي . إن ميزة هذا اللقاء المسرحي، الذي ينظمه مرة كل سنتين المركز الثقافي لمدينة هانوفر هو أسلوب انتقائه للأعمال، التي غالبا ما تتم مشاهدتها من قبل الطاقم المنظم على خشبات عدد من المهرجانات العربية والجامعية وبتنسيق مع عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدارالبيضاء الدكتورعبد القادر كنكاي. لقد اعتبر الإعلام الألماني كما كتبت جريدة "هانوفر العموم" اللقاء بأنه:"خطوة جريئة وضرورية في نفس الوقت من أجل تقريب المنظور الفني والثقافي العربي إلى الجمهور الألماني، الذي يعرف تحولات اجتماعية وسياسية في المرحلة الراهنة." فاستجابة لهذه التحولات المرحلية اختار اللقاء موضوعه لهذه الدورة تحت شعار "الملاذ" حيث أقيمت في هذا الإطار ورشة مسرحية مع الأطفال، الذين لجؤوا من غير أوليائهم إلى مدينة هانوفر وضواحيها، تحت إشراف المخرجة الألمانية رغينا زينكبوش وبمساعدة وسام حلقوق. فقد قدم هؤلاء الأطفال عرضا مسرحيا في إطار محور الملاذ، عرضا صامتا، ميزته الدقة والبساطة في تأثيث الفضاء وتوظيف الإمكانيات المرئية. فحتى وإن كان موضوع الدورة الثانية، التي عرفتها المدينة سنة 2014 "المرأة والإبداع" فلم تكن المساهمة النسائية في هذه الدورة الثالثة إقل من المساهمة الذكورية. فمن بين عشرة أعمال من ستة دول عربية، التي شاركت في هذه الدورة بالاضافة إلى ألمانيا، والتي أسهمت بعملين، كان نصيب مشاركة المخرجات العربيات فيها النصف. فمن تونس المخرجة التونسية حبيبة الجنذوبي بمسرحية الطين، هذا العمل، التعبيري الذي استغنى عن اللغة ليترك المجال للغة الجسد المضمخ بالطين الطري، حيث تميل بنا الجنذوبي في هذا العمل إلى عوالم تقارب أجواء المسرح الفقير لكروتوفسكي. إنه الصراع الدائم بين الإنسان وذاته والإنسان والإنسان بشقيه الذكوري والأنثوي من أجل البقاء والسيطرة على الآخر. من لبنان مسرحية " الاقي زيك فين ياعلي" والتي أخرجتها المخرجة لينا ابيض، حيث تحكي لنا الممثلة والكاتبة رائدة علي طه جزءا من سيرة أسرتها الفلسطينية المتوزعة بين الوطن والمهجر،أحداثها تدور حول استشهاد والدها علي طه ومخلفات استشهاده على الأسرة. إنه عمل يتراوح ما بين التسجيلي والحكائي الميلودرامي مع توظيف تقنية الصورة الجدارية لتوثق لنا ما تم الإفصاح عنه. من ألمانيا قامت المخرجة ذات الأصول الفلسطينية ليلى سمعان بتقديم مسرحية "افهم شخص في الفسبوك" اعتمدت هذه المسرحية في طرحها المركب على رسائل الكترونية من سوريا لعبود سعيد، إنه حوار بين عوالم غير متكافئة، بين جيلين، الابن الذي من خلال الانترنيت خلق لنفسه عالما يطل به على المحيط الخارجي خلف الحدود والأم التي لازالت في مناخها القديم، هنا أيضا لجأت سمعان إلى الإشارات الانترنيتية لتجعل منها خلفية سينوغرافية فيتحول الفضاء المسرحي من القاعة إلى شاشة كمبيوتر شاسعة تعتمد رموز الفيسبوك والتويتر. اما من المغرب فقد كان للجمهور لقاء مع مسرحية "الدموع بالكحل" من تأليف عصام اليوسفي وإخراج أسماء الهوري، مسرحية عمدت إلى نوع من الأسلوب البسيط الممتنع من أجل سرد أحداث أربع شخصيات يتم التداخل بينها أحيانا والتنافر أحيانا أخرى لتشكل كلها معا شخصية واحدة بعدة وجوه وحدثا واحدا ذا تعبيرات متباينة. فمن خلال الخلفيات المؤثثة للفضاء المسرحي هناك الإشارات الاجدارية، التي هي الأخرى توحي بوحدة الزمان والمكان ووحدة المصير. على الجهة المقابل خمسة أعمال لمخرجين ذكور، فمن سوريا المخرج أسامة حلال، الذي قدم إلى هانوفر بشتات من الممثلين المتوزعين في لبنان، سوريا، تركيا وفرنسا، ليقدم عمله الصامت "فوق الصفر"، عمل يحمل في طياته ويلات الحرب، التشرد، العنف، الخوف والتجرد من الإنسانية، فقد اعتمد المخرج في بناء أوديسته السورية على أشعار الحرب وتجربة الخوف الإنساني مثل أشعار الشاعر الألماني بارتولد بريخت، التي تصبح قصائد مغناة على لسان الموسقيين المرافقين للعمل أو تعبيرا جسديا. " 3 في واحد" العمل الفلسطيني للمخرج إيهاب زاهدة، والذي حاول الاعتماد على الاختزال في الفضاء المسرحي حيث تنتقل المشاهد بين محطات متعددة الدلالات وحكايات تجري أحداثها بين الشارع، الفضاءات العامة أو الحميمية منها، حيث تسقط هناك الستائر والأسرار الكل يتم فوق الخشبة بعيدا حتى بيت الخلاء. إنه عمل يتحدث عن مجتمع الخليل وموقفه تجاه الفن المسرحي، في علاقته مع المحرم ويطرح أسئلة مثل لماذا يختفي الحب؟ ولماذا الكل بطل؟ ومع ذلك فالكل يعاني، أسئلة تبقى دون إجابة. من المسرح الوطني التونسي جاء المخرج نعمان حمدة بمسرحية "كاو" (الضربة القاضية) ليقدم لنا عملا ثنائيا علاقة امرأة تسقط ضحية عنف لفضي وجسدي فتستنجد بملاكم سابق منعزل في سرداب عتم ليعلمها العنف حتى يمكنها الدفاع عن نفسها فيرفض. غير أن إصرارها يفتح أمامنا كوة نطل من خلالها على حاضر ماضي تونس القريب، عن الأمل والخيبة، ففي غليان الحلبة يسعى كل منهما إلى نسيان الواقع وأزمات الزمن، الذي يغري ببريقه. لقد عمد نعمان حمدة إلى ملء الفضاء الشاسع لركح البافيون بأسلوب تعاقب الضوء والظلام، الحركة والسكون، الحوار المباشر والمنبعث من المكبر، ما أضفى على هذا العمل أجواء تأملية. قدم المخرج محمود الشاهدي من المغرب عمل "أخذ الكلمة" عمل فردي باللغة الفرنسية للكاتب عصام اليوسفي يتناول ذكريات صحافية تتحدث عن ما هو شخصي وما هو اجتماعي وسياسي. فهذا الحكي يضع المشاهد أمام خيارات مصيرية ويقدم رؤى عن السلطة والمجتمع والفن ومعاناة الفنانين والصحفيين. فقد حول الشاهدي في طرحه لكل هذه التداخلات الركح إلى حافظة للصور العائلية.. فمن خلال بث الصور على الجدار يتم استحضار تاريخ ذكريات الشخصيات وكأنها تستحضر تاريخها الذاتي. المخرج المصري إبراهيم السمان اختار مسرحية صلاح عبد الصبور "مسافر الليل" هذه المسرحية، التي وإن كانت قد كتبت سنة 1968 فحمولتها الفكرية بقية قائمة حتى الآن، حيث بروز السلطة بكل أجنحتها السياسية والاجتماعية والدينية والصراع المتواصل بين الإنسان والمجتمع من ناحية وبين الإنسان والسلطة من جانب آخر ومحاولة سلطة المجتمعات غير الديموقراطية توسيع الهوة بين الفرد والمجتمع. إنها أحداث مجتمع بفصائله العليا والسفلى تختزلها رحلة على متن قطار آخر الليل. فعن طريق الحكي والحكي المشخص حاول إبراهيم سمعان أن يجعل من عمل عبد الصبور نوعا من الأعمال الفرجوية للكوميديا السوداء، التي تعتمد على خفة الحركة منولوكات هزلية مضافة إلى النص الأصلي إلى جانب خلفية هي عبارة عن متاهة. فكل العروض، التي اعتمدت اللغة تمت ترجمتها إلى اللغة الألمانية وتم بثها على الجدار الالكتروني، كما شهدت نهاية كل العروض، التي تم تقديمها في هذا اللقاء المسرحي العربي حوارا مع الجمهور العربي والألماني، الذي أبدى اهتماما متزايدا من خلال حضوره المكثف، والإسهام في توسيع دائرة الحوار من أجل سبر أغوار الحيثيات المحيطة بإنجاز كل الأعمال. اختتم اللقاء المسرحي العربي يوم الخامس والعشرين من شهر يناير، لكن صداه ظل مرافقا للإعلام الالماني، الذي قدم عدة تقاريرعن اللقاء كما أعدت محطة الموجة الالمانية DW حلقة خاصة ضمن سلسلتها ضيف وحكاية مع مدير اللقاء. كما شكل الفاعلون المسرحيون العرب في إطار اللقاء مشاريع مسرحية سواء منهم المقيمون في البلدان العربية أو في المهجر. فقد شكل هذا اللقاء في هانوفر مكتسبا إضافيا، كما جاء في الرسالة التي بعثتها وزيرة العلوم والثقافة في ولاية ساكسونيا السفلى السيدة كبرييلة هاينن - كليياجيك إلى منظمي اللقاء المسرحي العربي في هانوفر. "تمثل في إظهار الكثير من المسارح العربية المكانة المتميزة، كمقياس لزلازل الأحداث الجارية والتي اكتسبتها بكفاحها.. وهكذا فإنهم كانوا وما زالوا، وبشكل يثير الإعجاب، على قدر من تحمل المسؤولية الفنية، التي تتطلبها هذه المكانة الرفيعة، ينسحب ذلك خاصة على التحديات المتمثلة في تفاعل الإبداع الفني مع تجارب اللجوء".