المناقشات التي تجري بشأن إعداد الدستور أو تعديله تجري بين القصر وفاعلين سياسيين بعيدا عن الرأي العام. ترى الاستاذة أمينة المسعودي أن الكواليس التقنية والتفاوضية بخصوص «الروتوشات» الأخيرة لوثائق الإصلاحات الدستورية تظل رهينة السر ويصعب الإطلاع على فحوى المفاوضات إلا ما تسرب من نتائجها وتضيف أن المناقشات التي تجري بشان إعداد الدستور أو تعديله، إنما تجري بين القصر وفاعلين سياسيين بعيدا عن الرأي العام. وفي مقابل ذلك ترى أن المذكرات التي تقدمت بها أحزاب الكتلة للملك الراحل الحسن الثاني في شأن الإصلاحات الدستورية، سجلت مرحلة جديدة اتسمت بقوة الحوار بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، كما اتسمت بترجمة أغلبية مطالب هذه الأحزاب في صلب النصوص الدستورية الجديدة. منذ بداية القرن التاسع عشر والمثقفون والمختصون الدستوريون يولون اهتماما للشأن الدستوري. ولعل مشاريع الإصلاح الدستورية المختلفة في مطلع القرن المذكور دليل على هذا الاهتمام. ومنذ حصول المغرب على استقلاله، استمر المثقفون والباحثون في مناقشة مختلف الجوانب الدستورية باعتبار الدستور وثيقة تؤطر جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لقد انعكست آراء مختلف هؤلاء المثقفين على النقاشات التي رافقت وضع الدساتير المغربية. وقد سبق للملك الراحل، الحسن الثاني أن ركز على دور الباحثين القانونيين في الإصلاحات الدستورية المعمول بها عندما صرح بقصر الإيليزيه أمام أعضاء الحكومة والهيئة الديبلوماسية وفاعلين آخرين، بأن المغرب الذي يتفهم انتقادات القانونيين سيجري تعديلات على قانونه الأساسي. ونسجل فيما يتعلق بالمرحلة الراهنة أن المواضيع الكبرى في الإصلاح الدستوري أصبحت شبه معروفة، وبالتالي فإن الباحثين انخرطوا بصفة تلقائية في مناقشتها وفي الإدلاء بآرائهم بشأنها، وعديدة هي اللقاءات التي ما زالت تخصص لنقاش مواضيع الإصلاح الدستوري وهي مؤطرة إما من طرف الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو الأوساط الأكاديمية. غير أنه تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن المناقشات التي تجري بشأن إعداد الدستور أو تعديله، إنما تجري بين القصر وفاعلين سياسيين بعيدا عن الرأي العام. كما أن مشاريع الدساتير لا تحظى، قبل عرضها على الاستفتاء، بنقاش واسع ومفتوح لجميع المواطنين، ولا تكون بالتالي موضوع توافق وطني. بهذه الطريقة، تكاد تكون الصناعة الدستورية من صنع فئات معينة فقط من المجتمع، كما أن الكواليس التقنية والتفاوضية بخصوص «الروتوشات» الأخيرة لوثائق الإصلاحات الدستورية تظل رهينة السر ويصعب الإطلاع على فحوى المفاوضات إلا ما تسرب من نتائجها.. صحيح أن تعقيد مسطرة مراجعة الدساتير الصلبة إنما تهدف إلى ضمان استقرارها لأنها تشكل الركيزة الأساسية والمادية للمنظومة القانونية في كليتها، كما أنها تلعب دور التوحيد لهذه المنظومة وانسجامها وأي إصلاح دستوري قد يمس بهذه المنظومة. غير أن الاستقرار الشكلي في حد ذاته، لا يعتبر هدفا للدساتير، بل ينبغي تطبيقها قبل كل شئ وأن تتحول بالتالي إلى عنصر انسجام المجتمع لأنها تعد رمز المبادئ والقيم المشتركة بين جميع فئات المواطنين. من هنا نجد أن المهم ليس هو التوفر على وثيقة دستورية في حد ذاتها، بل المهم هو ما يدور حول هذه الوثيقة من نقاش من طرف جميع الفئات وما يعلق عليها من آمال في سبيل إرساء الانسجام داخل المجتمع. سلوك السياسيين هناك عوامل مختلفة تحكم سلوك الفاعلين السياسيين تجاه الدستور. فطريقة وضع الوثيقة الدستورية وكيفية صياغتها وإعدادها يعتبر عاملا مؤثرا وحاسما في شكل وكيفية تعامل الطبقة السياسية مع النص السامي، كما أن موقع الفاعلين السياسيين من الحكم يؤثر أيضا في طريقة التعامل هذه، فوجود الأحزاب السياسية في الحكومة يؤثر لا محالة على نوع المطالب التي تطالب بها بخصوص الإصلاحات الدستورية ، بمعنى أن حدة ووقت المطالبة بإصلاحات دستورية إنما يرتبط بمدى تواجد الفاعلين السياسيين في الأغلبية أو المعارضة. منذ صدور الدستور الأول والحديث عن إصلاح وتعديل الدستور يثير نقاشا ساخنا بين الفاعلين السياسيين هم بالخصوص مطلب إعادة التوازن بين المؤسسات. غير أن تفاعل الطبقة السياسية مع الدستور لم يكن على نفس المستوى. إن الإصلاح الدستوري لا يعني شيئا واحدا بالنسبة للفاعلين السياسيين، فقد اقترن النقاش حول الإصلاح الدستوري في عقد الستينات والسبعينات بالمطالبة بإعادة النظر في الوثيقة الدستورية ومن بين النقط التي ثار حولها النقاش آنذاك، صلاحية جمعية تأسيسية في وضع وثيقة دستورية، في الوقت الذي كانت أحزاب سياسية أخرى ترى بأنه لا مجال لتعديل وثيقة حظيت بالموافقة الشعبية بواسطة الاستفتاء. بعد ذلك، ونتيجة ما تميز به عقد التسعينات من تضافر عوامل داخلية وخارجية فرضت تعاملا خاصا مع الوثيقة الدستورية ومع مطلب الإصلاح السياسي والدستوري، تجلت بوضوح في إستراتيجية الفاعلين السياسيين بخصوص الدستور، بالأساس أحزاب المعارضة، آنذاك، المجتمعة في الكتلة الديمقراطية، والتي كانت دائما وراء المطالبة بهذه الإصلاحات. فقد تبين من خلال مبادرات هذه الأحزاب، سواء المبادرات الثنائية [حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال في 1991] أو مبادرات الكتلة الديمقراطية في 1992 و1996 تصورات مختلف مكونات الكتلة من مسألة الإصلاح الدستوري. كانت صلاحيات وموقع مؤسسات مختلفة ضمن مطالب الإصلاح الدستوري الواردة في مذكرات أحزاب الكتلة الديمقراطية، من تعزيز دور البرلمان في التشريع والمراقبة إلى تقوية مؤسسة الحكومة والرفع من صلاحيات الوزير الأول إلى منح استقلال أكبر للسلطة القضائية وتعزيز دور الجهة والمطالبة بترسيخ حقوق الإنسان ودعمها المؤسساتي... لقد سجلت المذكرات التي تقدمت بها أحزاب الكتلة للملك الراحل الحسن الثاني في شأن الإصلاحات الدستورية، مرحلة جديدة اتسمت بقوة الحوار بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، كما اتسمت بترجمة أغلبية مطالب هذه الأحزاب في صلب النصوص الدستورية الجديدة. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن بعض المطالب الواردة في المذكرات السابقة لم تؤخذ بعين الاعتبار، لا في دستور 1992 ولا في دستور 1996 وبالتالي فهي تشكل، في رأينا، أرضية للمطالبة في الإصلاح الدستوري المقبل. بعد اعتلاء ملك جديد عرش المملكة ودخول الألفية الثالثة، احتل النقاش حول الدستور وإصلاحاته مساحة إعلامية واسعة، تجلى من خلالها كيفية انخراط الجميع في هذا النقاش من فاعلين سياسيين وهيئات المجتمع المدني وأكاديميين وباحثين على مختلف المستويات? اليوم، يلاحظ أيضا وجود مواقف مختلفة في صفوف الأحزاب السياسية سواء المتواجدة داخل البرلمان أو خارجه، بخصوص مطالب الإصلاح الدستوري. فبينما ترى بعض الفعاليات السياسية بضرورة إجراء إصلاح شامل وجذري للوثيقة الدستورية، يطالب البعض الآخر بتعديل بعض توجهات دستور1996 مع خلفية تعزيز مكانة كل من البرلمان والحكومة، وتذهب فئة أخرى من الفاعلين السياسيين إلى أنه لا داع لإصلاح الدستور في الوقت الراهن... غير أنه يتضح من خلال ما تسرب من معلومات حول أرضيات العمل المتعلقة بمطالب الإصلاح الدستوري وجود تقارب بين مختلف أحزاب الكتلة بصفة خاصة وتقارب آخر بين الأحزاب المكونة لليسار بصفة عامة. في كواليس التقنية تتعدد المستويات التي ترتبط بالمسألة الدستورية. فصياغة ووضع الوثيقة الدستورية وتفعيلها ثم تعديلها وكذا المطالب المتعلقة بالإصلاح والمناسبات الظرفية والزمنية المرافقة لهاته المطالب، كلها تشكل محاور مختلفة تهم القضايا الدستورية. إن اختلاف وتيرة المطالبة بالإصلاح الدستوري عند نفس الفاعلين السياسيين تثير أحيانا بعض التساؤلات من قبيل درجة تمسك هؤلاء بمطالب معينة دون أخرى ومدى أولوية الإصلاحات الدستورية بالنسبة للإصلاحات السياسية أم العكس.. إلخ, كما أن عدم تفعيل جميع الفصول المتعلقة بمراجعة الدستور يثير تساؤلا آخر. فرغم منح الدستور لكل من الملك ومجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، لم يسبق لحد الآن أن استعمل مجلس النواب صلاحيته هذه رغم أن الأحزاب السياسية الممثلة داخله تطالب بمراجعة الدستور في مستويات أخرى وخارج المؤسسة البرلمانية. تزامن المطالبة بالإصلاح الدستوري مع اقتراح الدولة إقرار حكم ذاتي في أقاليمنا الجنوبية ، يطرح التساؤل عما إذا كان هناك تلازم بين الأمرين. أثار انتباهي في الشأن الدستوري كذلك ظهور مسلك سلكه المشرع المغربي يتجلى في تصويته على قوانين عادية تكمل بعض الفصول الدستورية، ولعل هذه تقنية يلجأ إليها المشرع لأول مرة منذ صدور الوثيقة الدستورية الأولى. فقد صوت البرلمان على قانون للأحزاب السياسية، موضحا فيه شروط تنظيم هذه والتي يحيل إليها الفصل الثالث من الدستور، كما سبق لنفس المؤسسة البرلمانية أن صوتت على قانون للحصانة يوضح جوانب من الفصل 39 المتعلق بالحصانة البرلمانية. فهذه التقنية الأخيرة تتطلب، في نظري، تعزيزا نظرا لأهميتها. إن هذه التقنية تساعد على توضيح بعض جوانب الدستور وتعتبر من بين الوسائل التي لا ينبغي التقليل من شأنها. فكما أن قانون الأحزاب السياسية استطاع أن يجيب عن تساؤلات عديدة من قبيل تنظيم وتسيير الحزب السياسي والذي من شأنه إتمام بل إغناء الفصل الثالث من الدستور، أفكر في قانون عادي آخر يكمل بعض الفصول الدستورية وبالخصوص المقتضيات المتعلقة بالحكومة، وذلك بخلفية توضيح وضع وتنظيم عمل المؤسسة الحكومية. ولعل الجواب عن الشروط التي يستلزمها تشكيل حكومة سياسية في المستقبل تكمن في تأطير تنظيمها وتسييرها بواسطة نص. وأذكر على سبيل المثال القضايا التي تهم مؤسسة الحكومة والتي يمكن تنظيمها بواسطة قانون عادي: مثل وضعية مختلف الفئات الوزارية وحالات التنافي المتعلقة بأعضاء الحكومة، وكذا صلاحيات الجهاز الحكومي أثناء تصريفه للأمور الجارية.. إلخ. إن تنظيم أو تأطير عمل بعض المؤسسات الدستورية عن طريق القوانين، هي تقنية معمول بها في أغلبية الدول الديمقراطية وهي تسعف في الجواب عن أسئلة تكون الدساتير قد سكتت عنها أو لأن مجال النص الدستوري لا يسع لاحتوائها. أستاذة بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس- أكدال