أولا، لا يميز هؤلاء بين ما يظهره الفيلم، أي ما يقدمه كمادة سمعية بصرية وبين موضوع الفيلم، وبينه وبين ما يريد أن يقوله الفيلم والمعنى الذي يريد أن يخلص إليه في النهاية. إنه فهم بسيط للعملية الإبداعية وللسرد السينمائي. فمجرد أن يظهر في فيلم ما، جسد عار، يصبح مخرج الفيلم من المدافعين عن الخلاعة، أو عندما تتفوه إحدى الشخصيات بكلمات متداولة في لغة اليومي يعتبر الفيلم ساقطا، مع العلم أن مقابل نفس الكلمات في اللغة العربية الفصحى لا يطرح مشكلا، ونجده مستعملا حتى في النصوص الدينية، وعندما يظهر رجل وامرأة فيما يوحي أنهما يمارسان الحب، يعتبر الفيلم مدافعا عن المشاعة الجنسية وتحريضا على الزنا ونشر الرذيلة في المجتمع، دون الأخذ بعين الاعتبار موقع هذا المشهد في سياق الحكاية والمعنى الذي يأخذه بهذا الموقع، ودون إِمهال الفيلم حتى يكتمل معناه واستعمال العقل ولو لحظة لمعرفة أن ما قد يعتبروه فيلما لا أخلاقيا، يمكن أن يكون في النهاية فيلما محافظا رغم كل شيء، ومع العلم أنه في فيلم لا يظهر أي شيء يمكن أن يخدش الحياء، أي نظيفا ناصع البياض والصفاء، قد يكون في عمقه انقلابيا يعيد النظر في المسلمات التي يقوم عليها المجتمع في صيغته المتعارف عليها ولا أخلاقيا بشكل متشدد، الفرق أنه في هذه الحالة يجب أن يُستعمل العقل وأن يَتوفر معامل ولو متوسط من الذكاء. لا يُفرق حراس الأخلاق بين زاوية نظر الشخصيات وزاوية نظر الفيلم، وكون أن ما تقوم به الشخصيات، و ما تقوله في الفيلم، لا يعني أنه كلام المخرج أو المؤلف لأن الشخصيات لها وجود مستقل عن مؤلفها، وقدرة المؤلف تتمثل في كونه يستطيع أن يبدع شخصيات مستقلة عنه ولا تعبر عن أفكاره ولأن أفكاره ومواقفه تتبلور من البناء العام ومن علاقة كل العناصر مع بعضها وانصهارها فيما بينها، وليس من مواقف الشخصيات وتصرفاتها بشكل منفصل حتى الرئيسية منها، التي من المفروض أن يتماها معها المتلقي لأن سياق السرد قد يدفعها ذاتها إلى إعادة النظر في أفكارها لأن فن الدراما في الأساس ينبني على مبدأ التحول، تحول الشخصية. تحاول الشخصية تحقيق الهدف الدرامي بالقفز على مجموعة من العقبات والحواجز التي لم تكن مهيأة لها من قبل، مما يجعلها تتحول بشكل تدريجي إلى التخلي النهائي عن أوهام البداية ،ويتحقق ذلك عبر متتالية من مواقف، تُقدم على أنها حقيقة، ولا نتأخر مع تطور الحكاية في اكتشاف العكس وصولا عند التحول النهائي الذي يصادف انتصار القيم الإيجابية التي تجسدها الشخصية الرئيسية أو مجموعة من الشخصيات في حالة البطل الجماعي . مثلا ما يقدم في الساعة الأولى من الفيلم على أنه علاقة حب مثالية نكتشف في النهاية أن الأمر كان ينبني على وهم أو خداع، مَن كنا نعتقد أنه المجرم نكتشف في النهاية أنه هو الضحية، ومَن كنا نعتقد أنه الضحية نكتشف أنه هو المذنب، بمنطق أن المظاهر خداعة، كما كان يلح على ذلك هتشكوك في جل أعماله. نرى من هنا أن الحكم على أي مشهد مهما كانت طبيعته، يوجد في الدقيقة عشرين أو حتى الستين أو أكثر من الفيلم مثلا هو فعل سابق لأوانه حتى في حالة مشهد قد يعتبر جريئا. المشهد السينمائي يوجد بقراءات متعددة وكلما تقدم الفيلم نعيد النظر في تأويلاتنا السابقة له، والمشهد يوجد لغاية ما، قد لا تجعلنا بنية الفيلم نعي بها في اللحظة ولكن يتبلور معناه ووظيفته بشكل استرجاعي من خلال تسلس الحكي وتطوره. عموما السينما، كفن الحياة، تُصور اللحظات الحميمة بمستوى ودرجة ولوجها لمختلف لحظات الحياة كالأكل والنوم ... بغض النظر عن موقعها في سياق الحكاية. لا يمكن الحكم على مشهد بشكل منفصل عن البناء العام للفيلم لأن المعنى لا يكتمل إلا في الدقائق الأخيرة أو بشكل تدريجي حتى هذه اللحظة، يمكن مثلا أن تجعلنا نهاية الفيلم نعيد النظر في مشهد أو الحكم عليه كلحظة تنتمي إلى الماضي أو لحظة خادعة، قُدمت لنا في لحظتها على أنها حقيقية، تعبر في النهاية عن وضع سلبي يعود إلى ما قبل تحول الشخصية إلى ما هو أحسن، إذا نحن نظرنا إلى الأمور من زاوية أخلاقية محضة. انطلاقا من هذا، لا يحق لأحد أن يتسرع و ينفعل في بداية فيلم ما ويخرج داعيا للتظاهر وقطع رقاب الممثلين والمخرج. فن الدراما ،عموما، هو فن أخلاقي بامتياز، تنحو كل عناصره نحو لحظة انتصار القيم الإيجابية وتحقيق قيمة كالعدل مثلا، وبلغة أكثر بساطة، انتصار الشخصيات الرئيسية على ما نصطلح عليه في المتداول الشعبي « الشر» ، أي الانتصار على الشخصيات الحاملة والمدافعة عن قيم تهدد استقرار المجتمع لتحقق نوعا من التسامح مع الذات والتخلص من الشك و الحيرة لرؤية العالم بعين جديدة، أي في النهاية خلق نوع من التطهير عند المتفرج حتى في حالة الأفلام الأكثر تجارية. من جهة أخرى، لا أعتقد أن فيلما ما كعمل وحيد أوحد يمكن أن يجعل شخصا كيفما كانت تركيبته النفسية هشة وغير مستقرة ذهنيا، أن يقرر بعد مشاهدة فيلم ما أن ينحل أخلاقيا أو أن يتخلى عن إيمانه وقناعاته أو أن يصبح منحرفا، وبالأحرى مجتمعا بأكمله، ربما إذا حضر أحدهم لحظة إنجاز عمل سينمائي والتحضير للقطة قد تعتبر «جريئة « وكل المجهود الذي تتطلبه ومعاناة الممثلين الذين من المستحيل أن يجدوا متعة في التعري أمام جيش من التقنيين وعرض حميميتهم أمام الملأ، هناك أكيد سيفهم أن الأمر جدي ويأتي كإجابة عن ضرورة ما، فنية أو موضوعاتية، ويحتاج إلى رد فعل لا يشبه الانفعال، ربما التفهم في أضعف الحالات. في المقابل، حينما يكون الهدف من مشهد أو فيلم هو الإثارة، تكون بنية الفيلم مغلقة على ذاتها ،لا تحيل على لا شيء ولا تحتمل أكثر من تأويل في مستوى الفيلم الإعلاني أي الهدف منه إثارة الرغبة الجنسية ليس إلا، ويتطور الفيلم بخطية مطلقة، بدون أي استرجاع. إن الحكاية وهي تتقدم لا تحتاج من المتفرج العودة بالذاكرة لما سبق من المشاهد للفهم، لأن بنية الفيلم تهيكلها متتالية من المشاهد، لا تربطها إلا شبه حكاية لها وظيفة مبرر لضمان أكبر عدد ممكن من الوجبات المتنوعة من الإثارة ليس إلا. مقاربة الفيلم من ناحية مطابقته أم لا للأخلاق السائدة دون أي مجهود فكري، منطق بسيط لا يذهب إلى عمق الأشياء، ولا يؤمن بتعقد الظاهرة الإنسانية وتعقد فعل الفن وصعوبة مقاربته بشكل موضوعي. العمل الفني عموما من محدداته أن يبقى مفتوحا على ما لا نهاية له من القراءات والتأويلات، إلى درجة أن العمل الذي كان يعتبر في زمانه مثلا ثوريا و مُجددا قد يعتبر بعد سنوات عملا رجعيا والعكس صحيح، التطور حتمية تاريخية مهما وصلت درجة المنع وحِدته فإن التاريخ لا يتأخر في إنصاف العمل ليحيا أكثر من الذين يطالبون بمنعه، وتصبح مطالبهم تبدو مضحكة، في بعض الحالات حتى منهم ذاتهم. يقول جون لوك كودار، الدم في السينما ما هو إلا لون أحمر ليس إلا، و يقول أيضا ما يصعب علي ترجمته بالعربية إلا تقريبيا وهو يحاول أن يعرف السينما: إنها ليست الصور الحقيقية ولكنها فقط صور Ce ne sont pas des images juste mais se sont juste des images. إن المنطق الذي يواجهه كودار بهذه المقولة لا يهم فقط المنتقدين أو المطالبين بالمنع، ولكن أيضا في حالات أخرى فئة من صانعي الأفلام الذين يأخذون القضايا التي يتناولونها بجدية وحماس مبالغ فيهما وهم يعتقدون واهمين، بوعي أو بدونه، أن الفيلم يمكن أن تكون له وظيفة أخرى غير السينما أي بتغيير الواقع أو إثارة من يعتبرونهم أعداء حرية التعبير، أنداك يسقط الفيلم في فخ من يواجههم ويجرد السينما من سينمائيتها ويحيد بها عن دورها الحقيقي. القضايا الكبرى، وأخص هنا بالذكر كل ما له علاقة بموضوع الطابو ،خصوصا المتعلق بالثلاثي المحرم (الدين والسياسة والجنس)، هي قضايا كبرى في الزمان والمكان وتتلاشى مع الوقت أي أنها مبرر فقط، إكسسوار تتلاشى أهميتها مع الزمن ويبقى العمل الفني بعمقه الإنساني وقدرته على فهم زمانه واستشرافه لآفاق أخرى إلى ما يعادل النبوءة. عندما يجعل فيلم من الإكسسوار موضوعا له يتحول إلى وصلة إشهارية تحسيسية للتوعية، وعندما تتوقف القراءة عند الإكسسوار نفسه وتجعله موضوعا للفيلم تكون على خطأ، ببساطة . ومن جهة أخرى، أتساءل ببداهة من الذي يُعطي لشخص بعينه ودون الآخرين تفويض أن يتحدث باسم المجتمع و باسم الله وأن يضع نفسه في موقع يجعله يقرر من تلقاء ذاته ودون أن يكون أحد قد طلب منه ذلك وترجاه، أن يكون مدافعا عن الأخلاق الحميدة التي هي من الضعف الذي لا تحتاج معه إلى من يدافع عنها، وما هو التكوين الذي يمكن أن يتبعه ويتلقاه الواحد ليتمكن من أن يلعب هذا الدور، دور أن يفكر بدل الآخرين وأن يعتبرهم قاصرين وأن يقرر بدلهم فيما هو صالح لهم أم لا. أن تكون إنسانا «على قدك» وأن تحس في داخلك بأن قناعاتك مشكوك في أمرها، لا تتحمل رؤية أشياء أولا تمتلك الجرأة على مواجهتها فهذا يخصك وحدك، ولا يهم المجتمع إلا في حدود كونك مواطنا، ومن حقك أن تتمتع بصحة نفسية وجسدية جيدة، لا أن تعتقد أن الناس يجب أن يتحولوا إلى مرضى، مثلك. عموما المقاربة الأخلاقية، المتسرعة بالضرورة، لسينما، لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الفن وخصوصياته، لا تفهمه ولا تحاول أن تفهمه، لأنه لا يهمها مهما كانت درجة نظافته إلا في حدود استعماله لتحقيق غايات لا علاقة لها بالفن، إن منطلقها الفكري تفكير بسيط إلى حد الغثيان، إلى حد اليأس، تفكير إنسان يريد للمجتمع أن يكون على مقاس عجزه وتناقضاته كأي إنسان، عجزه عن مواجهة ذاته أولا ثم المجتمع. إنسان يريد للناس أن يشبهوه لكي لا يرى في اختلافهم عنه ضعفه وعجزه وعدم اقتناعه بما يؤمن به وخوفه من أن نفضح حقيقة أنه لا يؤمن بغير ذاته لا غير .