يطرح تصوير مشاهد في منزل مغربي مجموعة من الصعوبات التقنية، ويفرض على الفيلم إيقاعه الخاص من خلال فرض شكل معين على العلاقة بين الشخوص، والمواجهة بينهم داخل المشهد. قبل أن نقف عند هذه الصعوبات، علينا أولا أن نحدد معالم هذا المكان، والطريقة التي يُؤَثَّث بها، خصوصا في الجزء الأكثر استعمالا وظهورا على الشاشة، أي الجزء الذي تجتمع فيه العائلة للأكل ومشاهدة التلفزيون أو للنقاش، والجزء الذي يخصص لاستقبال الضيوف، وبعض المناسبات الخاصة. غالبا ما يتم تأثيث الغرف بمضربات ملتصقة بالحائط في شكلU مع وجود الفتحة عند المدخل، ومخدات للاتكاء عليها، الشيء الذي يجعل الأشخاص المتواجهين متباعدين نسبيا، لتبقى إذن إمكانية التواصل بين الذين يجلسون بالجانب، مما يجعل التواصل في وضعية غير مريحة ونفقد وضع تكون فيه الشخوص وجها لوجه. يخلق هذا الوضع من ناحية التصوير، متاعب كثيرة لمديري التصوير وللمخرجين، لأن الجالسين في هذا الفضاء يكونون ملتصقين بالحائط ولا تفصلهم عنه إلا بضع السنتيمترات، أي مسافة عرض المخدة، فبالتالي نفقد عمق مجال الصورة (le profondeur de champ) و المنظور(la perspective) . ثانيا إن غالبية جدران غرف منازلنا المغربية ملونة بالأبيض أو بلون فاتح وفي بعض الحالات بصباغة لامعة أو زليج اصطناعي لامع هو الآخر، الشيء الذي يجعل هذه الخلفية تأخذ وتعكس كمية أكثر من الضوء بالمقارنة مع وجه الممثل وتأخذ بذلك مساحتها في الصورة انتباه عين المتفرج أكثر. من الناحية التقنية يجد مدير التصوير صعوبة في وضع الكشاف (projecteur) المعاكس الذي من المفروض أن يرسم حدود الشخصية(silhouette) ويجعلها تنفصل عن الخلفية، بحيث أنه في التصوير عموما، إذا اكتفينا بإضاءة تأتي فقط من الأمام تكون الصورة نوعا ما مسطحة. أثار انتباهي في إحدى البرامج التلفزيونية على القناة الأولى أن مخرج السلسلة، ربما بقصد أو عن غير قصد، عندما يصور شهادات بعض الشخصيات في منزلها يضطر إلى وضعها على كرسي في وسط الغرفة، في مكان غير معتاد، أي الصالون، ليتمكن من الحصول على عمق المجال بإضاءة تساعد على ذلك باستعمال تقنية توالي الضوء والظل (le clair-obscur) ربما كإمكانية إجابة عفوية عن التصوير في مكان داخلي . تطرح هذه الجلسة مشكلا، من الناحية الإخراجية أيضا، وتجعل إمكانيات التقطيع واحتمالات مواقع الكاميرا جد محدودة. أولا يصعب أخذ لقطة عامة، تظهر الكل إلا بوضع الكاميرا في الخارج. اللقطة العامة الوحيدة الممكنة هي من فوق (plongée، الشيء الذي يكون ممكنا في حالة التصوير في منزل عتيق حيث السقف عال، أما في الشقق الحديثة فيصعب أخد هذه الزاوية ذلك لعدم وجود مسافة كافية. يهين الأمر عندما يتضمن شخصين يجلسان عند الزاوية لأنهما يكونا شبه متواجهين. نعرف مثلا أن مشاهد مآدب الأكل من المشاهد المتداولة كثيرا في السينما العالمية باختلاف جنسياتها، وهي من المشاهد المهمة من الناحية الدرامية حيث تُنسج علاقات جديدة على حطام ارتباطات كانت إلى اللحظة تبدو في انسجام مثالي، وتحل ألغاز قديمة وتكتشف أسرار بقيت لحد الجلسة متخفية... إنها لحظة تبرز فيها طباع الشخصيات وتناقضاتها، يساعد على ذلك أن الأكل، كل بصحنه، واستعمال السكين والشوكة، والجلوس على المائدة يسمح بالحديث ونوع من الحميمية، وفي نفس الآن المواجهة وإمكانية تبادل النظرات وحتى استعمال هذه الإكسسوارات للتعبير عن الحالات النفسية لشخصيات، ويسمح كذلك تعدد أنواع الأطباق بتمطيط الزمن كما شئنا حسب متطلبات الموقف. يمكن الإشارة هنا إلى عدد لا حصر له من أفلام تاريخ السينما، لا يحضرني منها الآن إلا فيلم A nos amours للمخرج الفرنسي موريس بيلا M. Pialat ، المشهد الذي تجتمع فيه كل العائلة وبعض الأصدقاء ويغيب الأب (الدور الذي يلعبه المخرج نفسه موريس بيالا) الذي سيفاجأ الجميع بحضوره في اللحظات الأخيرة لهذه لهذا العشاء، ويكسر ما كان يظهر أنه صورة لعائلة منسجمة وهو يواجه كل بحقيقته ويوتر الأجواء (والحقيقة أن دخول الأب لم يكن متوقعا في السيناريو ولم يكن يعلم به حتى الممثلون في المشهد). مع العلم أن مشاهد الأكل من أصعب المشاهد بالنسبة للممثل، خصوصا عندما يعلق الأمر بإعادة نفس الحركات مع الانتباه إلى الأكل أي الانتباه إلى الرابط وهذه قصة أخرى. في حالة تصوير نفس المشهد في وسط بعادات مغربية في الأكل، نجد أن هناك فصلا بين لحظة تبادل الحديث، ولحظة الأكل الذي يتم في صحن جماعي، فيجعل التركيز كليا على الأكل الذي تكون مدته، رغم تعدد الأطباق، قصيرة بالمقارنة مع وجبة أروبية جماعية ولا تسمح بذلك بأي استعمال درامي. بالإضافة إلى طبيعة الفضاءات الداخلية، يتميز بلدنا، باعتباره بلد الشمس بامتياز، بتوفر إضاءة قوية وبجدران المباني يستعمل فيها اللون الأبيض، باستثناء مناطق الجنوب، فتصبح واجهات عاكسة لضوء وتكون بذلك أكثر إثارة لانتباه العين من وجه الإنسان/الممثل، خصوصا وأن المغربي عموما ذو سحنة داكنة بالمقارنة مع الأوروبي. إن عمل مدير التصوير في هذه الحالة لا يكون بإضافة أي إضاءة، ولكن بالبحث عن طرق التقليل من الإنارة الطبيعية وتوجيها للحصول على درجة معقولة وصورة متوازنة. طرح هذا السؤال حول جزء من المعمار المغربي والتساؤل عن طرق تمثله سينمائيا، لا يعني أن أماكننا لا تصلح للسينما ولكن كإمكانية لفتح قوس للتفكير الجدي لإيجاد تقاليدنا الخاصة في التعامل مع المكان كل من جهته، بطرح السؤال بتكرار، أي بمناسبة أي عمل إلى أن نصل إلى بلورة لغتنا الخاصة، كما سبقنا إلى ذلك اليابانيون الذين فرضوا على الكاميرا أن تبقى على علو قصير من الأرض حيث من عادتهم الجلوس. عندما يهم أحدهم مثلا إلى فتح الباب لمغادرة الغرفة لا يفعل ذلك وهو واقف ولكن وهو جالس بحركات منتظمة ومتناسقة وكأنها طقس عليه أن يؤديه بخشوع، حتى نوع الأبواب المنتشرة في المنازل العتيقة اليابانية، هي أبواب منزلقة تجعل فعل فتح وإغلاق الباب، الدخول أو الخروج من غرفة ما، يحمل معنى ودلالة أخرى وحيث الفصل بين غرف المنزل الواحد يبقى فصل رمزي بالمقارنة مع منزل أوروبي، نظرا للمواد المستعملة في هذا التقسيم، الشيء الذي يفرض أسلوبا مغايرا في التقطيع ويفرض على الفيلم إيقاعا معينا يميز هذه السينما. شخصيا أتاحت لي تجربة فيلم «أفراح صغيرة» العودة لفترة إل البيت المغربي العتيق، والوقوف على خصوصياته وأن أتساءل ببساطة، كيف لي أن أخلق بعض الحركية وأن أتجاوز نوع من الرتابة يفرضها كون أن الشخصيات في هذا النمط من البيوت تكون في غالب الأحيان في وضعية الجلوس، دون أن أفرض على المكان تحركات، وسلوكيات اجتماعية لا تنتمي إليه. استغرق الجواب وقتا طويلا، إلا أنه جاء في النهاية بسيطا، بديهيا ومن داخل ومن العودة إلى ما راكمته من تجربة شخصية في التعاطي مع التقطيع التقني و تقطيع المكان. أحاول أولا ما أمكن أن لا أتبع المتتالية النمطية: لقطة عامة في بداية المشهد وحقل ضد الحقل، بعبارة أخرى، أفضل الدخول مباشرة في الحدث دون أن أحاول في البداية أن أموقع المشهد والتركيز على الشخصيات أكثر من خلال تبني زاوية نظرها في ألحكي بشكل صارم، وجعل الجو العام والتفاصيل المحيطة متضمنة في نظراتها وتمر من خلالها وأن تتولد اللقطات من هذا المبدأ دون اللجوء إلى استعمال لقطات إضافية لشرح أي Plan de coupe التي أعتقد أنها، في بعض حالات، تخرجنا من سياق ألحكي، حينما تكون لها وظيفة التوضيح فقط. ضبط زاوية نظر ألحكي يصبح، في الحالات ما، حلا لإشكالات تبدو لا علاقة لها بها. إنها البنية التي تهيمن على الكل وتطوع المكان وتحدد طبيعة الانتقالات في المكان والزمن، بحيث تجعل اللغة وكل العناصر تنسجم بشكل عضوي وتقدم إجابات عن الكيفية التي يجب أن تتمثل بها السينما المكان، لتنتقل به من معطى واقعي إلى مكان متخيل يصبح مع الزمن أكثر واقعية من الأصل. التعامل مع المكان كشخصية في حد ذاته يجب أن ينطلق من طبيعته، ومحدداته وليس كصورة بلاغية لا تجد لها أي جذور في الواقع واستعادة لسينيفيلية مغتربة تتعامل مع المكان بتحويره وفق أساليب سينمات أخرى، بدون أن تراعي شروط الواقع. يفرض علينا المكان وقفة لمعرفته ومساءلة خصوصياته المعمارية، والكيفية التي صُمم بها، والطريقة التي يعبر بها عن تنظيم معين للمجتمع، والشكل الذي يؤثر بها على علاقات الناس فيما بينهم، مع مراعاة المسافة بين وظيفته وقيمته الجمالية، ثم التساؤل عن الطريقة التي نتناوله بها بابتداع حيل وتدابير فنية تجعله يترسخ في ذاكرة المتفرج كمكان سينمائي بامتياز.