إذا كانت كتابات التأسيس - الممتدة عبر سنوات الحماية، وبعضا من سنوات الاستقلال - قد ارتبطت بالمسرح عن طريق الممارسة المباشرة، وليس عن طريق المعرفة العلمية والفنية بأصول المسرح وقواعده، فإن الجيل الجديد قد أدرك من خلال كتاباته، ضرورة إيجاد المعادلة السليمة للتوفيق بين البعد الفكري والجمالي للمسرح. ولذلك سرت حُمى التجريب بين هذا الجيل من المسرحيين الذي انفتح على المسرح الغربي بتياراته، واتجاهاته، ومنجزاته، وتجاربه النظرية والتطبيقية الجديدة. وكان من أبرزها الإقبال على المسرح الملحمي البريختي، والمسرح السياسي، والمسرح التسجيلي، والمسرح الفقير، ومسرح الموقف... وغير ذلك من التجارب المسرحية العالمية. لقد اكتشف الكتاب الجدد المسرح البريختي، الذي يعمل من أجل أن يسير المتلقي جنبا إلى جنب مع عملية التشخيص، وأن يندمج معها مؤقتا حتى يستطيع فهمها. 1- هزيمة 67 وتبني مسرح بريخت وقد كان لهزيمة حزيران 1967 الأثر الكبير في نفوس الدراميين المغاربة. كما ذكت فيهم الإصرار على نبذ الشكل الأرسطي بقواعده الثابتة، ورؤيته المهادنة للواقع. فقد وجدوا في هذا الشكل بناء غير ملائم للخطاب الجديد، بقيمه المغايرة، الداعية إلى البحث عن أسباب الهزيمة، من أجل فهمها وتجاوزها، لبناء وعي قادر على المساهمة في تشكيل فكر، وواقع مغايرين، يعيدان الأمل المفقود للإنسان العربي، لتجاوز مرحلة الهزيمة، وتأثيرها النفسي العميق. إن الهزيمة، جاءت نتيجة الضعف الراجع إلى فساد الأوضاع الداخلية في المجتمع العربي. وهكذا سيختفي حلم النهضة، والثورة، والوحدة العربية الذي ساد العالم العربي قبل تحقيق البلدان العربية لاستقلالها، حتى بات كل شيء معلقا بتحرير فلسطين، واسترجاع الأراضي العربية المستعمرة أيام الهزيمة. ومن أهم العوامل التي وجهت المسرحيين العرب إلى المسرح البريختي ذي النزعة التعليمية الملحمية، ظروف العالم العربي الشائكة بعد النكسة، والقضايا القومية والعالمية التي وجد عليها الإنسان العربي. ورغم إعجابهم بهذا المسرح، فهم لم يتمثلوه تمثلا سليما في الكثير من الأحيان، " فنحن نراهم يكتفون بأمور تكاد تكون سطحية، كالدعوة إلى كسر الإيهام، وتغريب التمثيل، وأحيانا تغريب المؤثرات الصوتية أو الديكور، والمناداة بالتزام المسرح أو(تسييسه)، وترديد مصطلحات بريختية.» وبذلك سارت الكثير من العروض المسرحية العربية تجمع بين الأرسطية المسرح البريختي، بدعوى البحث عن العرض الجديد الملتزم بقضايا الجماهير الشعبية. لقد تعرف المشاهد العربي إلى مسرحيات بريخت منذ الستينات، إما نصوصا مسرحية مترجمة، وإما عروضا مسرحية. شاهَدَ عرض مسرحية (الاستثناء والقاعدة) التي أخرجها نور الدمرداش في مصر، وشريف خزندار في دمشق. وتتبع مسرحية (الإنسان الطيب) التي أخرجها سعد أردش في مصر، وتلتها (دائرة الطباشير القوقازية)، ثم توالى عرض مسرحيات بريخت في العالم العربي. ولاشك أن الظروف التاريخية والثقافية لتلك الفترة، هي التي فرضت الانفتاح على التجارب المسرحية ذات الحمولة السياسية الملحمية، التي وجد فيها المسرحيون العرب أنسب الأشكال لمعالجة القضايا الساخنة، وعرضها على المشاهد العربي. إن اكتشاف المسرح البريختي، كان بداية التعرف إلى المسرح السياسي الملتزم بقضايا الجماهير الأساسية. وموازاة مع ذلك، جاءت الدعوة إلى ربط المسرح بما يجري في البيئة المحلية، وتسجيله والتعبير عنه. بل تجاوز البعض ذلك إلى إعطاء مفهوما أبعد للالتزام، يتمثل في الإلحاح على مبدأ التغيير الذي انبثق كمبدأ، وشعار سار بين المسرحيين المؤمنين بدور المسرح في نشر الوعي، والرقي بالإنسان العربي إلى مستوى إدراك أبعاد الفعل المسرحي، وجماعيته، ووظيفته في التوعية الاجتماعية والسياسية، والبحث عن دور يساهم به في تغيير الواقع، وخلق الأفضل؛ ومن ثم اتخاذ مبدأ التغيير البريختي وظيفة جوهرية للمسرح. وبدلا من البحث عن النص المسرحي الجاهز والمكتمل، عَمدَ كُتاب هذه المرحلة إلى الإعداد المسرحي، سواء على مستوى النص أم الإخراج. وأصبح هذا المسرح «ينطوي على إشراقات جديدة، تدفع المسرح عموما إلى الارتقاء إلى مستوى رفيع يخول له تناول القضايا الشائكة، وتحطيم البنيات الشكلية العتيقة، قصد حشر تعددي لأساليب مستحدثة تتطابق ومستوى الخطاب المسرحي". وكان هذا المفهوم الجديد للمسرح، هو بداية إعلان القطيعة مع الشكل الأرسطي التقليدي، والاهتمام بالتراث بغية تأصيل الظاهرة المسرحية، والتحرر من هيمنة الأشكال المسرحية الغربية. وهكذا سار المسرح المغربي عبر هذا الاتجاه الجديد، المتمثل أساسا في مسرح الهواة، من خلال كتابات كل من محمد مسكين، وعبد الكريم برشيد، والمسكيني الصغير، ومحمد الكغاط، وأحمد العراقي، والحوري الحسين، ومحمد شهرمان، ويوسف فاضل، ومصطفى رمضاني، ومحمد قاوتي... وغيرهم إلى تشييد مسرح غنيّ بالمكونات الفنيّة، كاستعمال الرّمز، والصّورة البلاغية، والمبالغات الكاريكاتورية، والتعارض بين الأصوات المتعددة التي يزخر بها التّراث العربي، بهدف خلق مفارقات درامية، كاشفة للتناقضات التي تختفي وراء الواقع المزّيف، من أجل إبداع واقعية جمالية نقدية جديدة، لا تعيد محاكاة الواقع كما هو، بقدر ما توحي به وترمز له، وتوقظ الوعي بضرورة التفكير فيه. وبجانب مسألة التجريب في الكتابة الجديدة، ظهرت في فترة السبعينات مسألة التنظير المسرحي. وقد قام بها أساسا كتاب مسرحيون مغاربة، اقتداء بمنظرين مسرحيين عربا، أمثال يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وعلي الراعي، وسعد الله ونوس.. وغيرهم. ومن بين المسرحيين المغاربة الذين سارعوا إلى نشر بياناتهم التنظيرية منذ سنة 1976 الكاتب عبد الكريم برشيد والمسكيني الصغير ومحمد مسكين وحوري الحسين.. وكانوا مدفوعين بهاجس التنظير الذي «جاء نتيجة المفارقة، التي أحسّ بها المبدع المسرحي العربي.. هذه المفارقة التي تمثلت في غُربة الشكل المسرحي المتداول، لكن هيمنة فكرة التجريب على المسرحيين المغاربة في السبعينات تحول إلى هوس، جعلهم ينتقلون بين الاتجاهات والمدارس المسرحية دون استيعاب لها في كثير من الأحيان، أو دراستها وتأملها وإدراكها. وقد كان من سلبيات ذلك في نظر د. مصطفى رمضاني أنه "حال دون استقرار المبدع عند لبنة جمالية معينة، إذ إنه كلما ظهر اتجاه فنّي في الغرب إلاّ وحاول المبدع المغربي أن يقلده، ليكتسب بذلك جواز المرور نحو الحداثة حينا، والعصرنة حينا آخر." ولكن رغم سلبيات ذلك التجريب، فقد ساهم في البحث عن تأصيل ظاهرة المسرح. وقد سعى مسرح الهواة منذ بدايته إلى الثقافة المغربية، وجعل الكتابة المسرحية مفتوحة الآفاق، مشدودة إلى التراث العربي، مستنطقة لتراكماته المكتوبة والشفاهية. البحث المستمر، من أجل بلورة رؤى جديدة، لخطاب مسرحي مغاير عن المسرح الاحترافي الرسمي، وتعميق الموقع الطليع، بهدف بعث الوعي، وتعزيز التشبث بالهوية لدى المواطن المغربي، و"جعل الوظيفة التنويرية للمسرح في مقدمة كل وظائفه الأخرى". ويرى محمد أديب السلاوي أن "المسرح السبعيني الذي جاء كبديل قائم لمسرح احترافي، كلاسيكي محافظ، يتخذ من الواقع التاريخي منطلقا له، وهو واقع يرفض النكسة، وسياسة الاستسلام لها، ويكشف النقاب عن الحقائق البديلة". فهذا المسرح ثوري بطبيعته. فهو يعكس الوعي الحاد لفترة السبعينات بما كان يطالب به من ضرورة تصحيح الأوضاع العربية، ووضع القوى الاجتماعية الحقيقية في مركز القرار، وتحرر الإنسان العربي من الهيمنة الغربية، وتأكيد الصراع الذي أفرزته تناقضات الواقع، بتياراته الفكرية والاجتماعية والسياسية..» وهو ما جعل التجربة المسرحية في فضاء هذه المرحلة - وما بعدها - ساخنا، ومحمّلا بالأسئلة القلقة، وبالخطابات الصادقة، وبالشعارات السياسية التي كانت خلفية، تحرك مسرح الهواة بالمغرب، وتدفعها إلى تخطي الأجوبة الجاهزة، واليقينيات السائدة، والأنماط المعلبة في الإنتاج المسرحي السابق».