بهذه الرواية يتعزز المشهد الثقافي بالريف بعمل إبداعي متميز لكاتب اختار أن يكون محكيه السردي منبعثا من رحم المنطقة التي ينتمي إليها، معبرا بخياله الأدبي الواسع عن محنة الإنسان الريفي، والنكبات التي حلت به في العصر الحديث. ومن هذا المنطلق، فقد نسجت الأحداثُ التاريخيةُ للريف خيوطَ الرواية، وتحكمت في مفاصلها، وامتلكت كثيرا من مفاتيحها. واستطاع الكاتب من خلال هذه الأحداث كشف معاناة الريفيين في العصر الحديث، والمآسي التي لحقتهم، كالاستعمار الإسباني للريف، وهجرتهم إلى الجزائر للعمل لدى المعمرين الفرنسيين، ومشاركتهم في الحرب الأهلية الإسبانية، وسنوات المجاعة التي أهلكت النسل والضرع في المنطقة. وبذلك تمكن من رصد ملامح الريف في العصر الحديث، وتقريب القارئ من التتضاريس التاريخية والجغرافية للمنطقة وما يرتبط بها من فن وتراث وثقافة. كما استطاع كاتبنا وباقتدار أن يجعل الرواية زاخرة بالثقافة الريفية والتراث الشعبي للمنطقة، ولا أعتقد أنه يتأتى ذلك إلا لكاتب تشرب الموروث الشعبي ونهل من معينه الذي لا ينضب. فالرواية تخترقها الأهازيج والأغاني الشعبية الجميلة، والأشعار المحلية المعبرة عن الآلام والآمال، والأساطير الريفية المنسوجة بإحكام، والحكايات الشعبية المتوارثة التي تناقلتها الألسنة عبر الأزمنة والعصور، والفنون المختلفة التي عرفها وبرع فيها الإنسان الريفي، والألعاب التي درج الأطفال في الريف على لعبها والاستمتاع بها. بالإضافة إلى التقاليد والعادات والأعراف التي تشتهر بها منطقة الريف. فالرواية تخترقها الألوان الثقافية من بدايتها إلى نهايتها. وبهذا الفسيفساء الثقافي، وهذا المزيج المختلط والمتشابك من المستنسخات الثقافية تمكن الكاتب من تجنيب الرواية السرد التاريخي الجاف والممل، وتثبيت عوامل الإثارة والانتباه التي تشد القارئ إليها شدا. ومن ناحية أخرى، فحتى وإن كانت الرواية قد كتبت باللغة العربية، فإن المعجم الريفي المرتبط بالفئات الشعبية وأنشطتها المختلفة، استحوذ على نصيب وافر من مساحة الرواية، ورَصَّعَ المعجم الروائي الذي تميز بالتعدد والتنوع. وبذلك، فإننا نجد العربية والأمازيغية والإسبانية والفرنسية... كلها متداخلة في نسيج محكم، يَنِمُّ عن التعدد الثقافي والحضاري، ويعكس ثقافة الإنسان الريفي المتسامح الذي يَقْبَلُ الآخر، ويُقْبِلُ عليه، ويمد معه جسور التواصل. ولعل أول ما يستوقف المتصفح لهذا العمل الإبداعي، هو عنوانها «أتلايتماس» المستوحى من التراث الأمازيغي، وهو اسم يعبر عن الفأل الحسن، إذ يطلقه الريفيون على البنت المزدادة لِتُتْبَعَ بالذكور. لكن هذا العنوان في الرواية يتجاوز مسألة الاسم، إذ تمثل «أتلايتماس» هنا الريف بأرضه وتاريخه وجغرافيته... تمثل المعاناة والمآسي والآلام التي حلت بالريف وأهله. وما الاخفاقات المتكررة التي حلت بتجربتها في الحب، وضياع آمالها التي تبخرت أكثر من مرة، إلا تعبير عن الإحباط الذي لا خلاص ولا فكاك منه. وما العثرات تلو العثرات التي اعترضتها واعترضت بقية الشخصيات إلا دليل على العقبات والمثبطات التي تمنع التقدم إلى الأمام وتعرقل المسير نحو المستقبل. فهذه الوضعية المأساوية تلاحق الأفراد والمجتمع الذي يحتضنهم، وأكثر من ذلك فقد أصبحت مستدامة وعابرة للأجيال، وحتى الذين غيروا الفضاء وآثروا الهجرة كمزيان وبوزيان لم يستطيعوا التخلص من هذا الإرث الذي يلاحقهم في كل زمان ومكان. وإذا كان الوصف هو عماد الرواية وركيزتها الأساسية، فإن كاتبنا يملك ناصية استدعاء الصور الفنية التي تؤثث ديكور الرواية، وتدبيجها في عمله الفني بفنية عالية. فالرواية تضم زخما من الصور المتراكمة والمتشابكة والمتتابعة، كأنك أمام فيلم سينمائي مكتمل الأركان، وهذا ما يجعلنا نأمل أن يتحول هذا العمل الإبداعي في المستقبل إلى فيلم سينمائي، خاصة وأنه يملك كل مقومات التشويق والإثارة، فبمجرد أن تنطلق في قراءته لا تستطيع مفارقته حتى إتمامه حتى النهاية. كما أن الكاتب استطاع أن يوظف تقنيات الوصف في استرجاع الذكريات الأليمة والقاسية ما دام أن للرواية حظ وافر من الماضي والتاريخ، فيستدعي الصور المتحركة بالطي والنشر، فيُجْمِلُ تارة، ويوغل في التفاصيل تارة أخرى، بما يقرب المشهد الإنساني القاتم والسوداوي للإنسان الريفي. وبتقنية التداعي التي تعتمد على الذاكرة والخيال تمكن من التوغل والنفاذ إلى أعماق الشخصيات وخصائصها الذهنية والنفسية والثقافية ورسم ملامحها التي تتراوح بين القتامة والصفاء.