أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. هو أقدم معارض جزائري وأحدث معارض جزائري وأصلب معارض جزائري، وأكثر معارض جزائري ثباتا على المبدأ ومثابرة على متابعة الهدف، وأكثر المعارضين صبرا وأوسعهم مصداقية. هو أقدم معارض جزائري لأنه جهر بمواقفه، بعد إعلان الاستقلال مباشرة، وهو أحدث معارض جزائري لأنه رفض التنازل عن مطالبه عندما لوحوا له في السنوات الماضية بإمكانية العودة مقابل التأييد والمشاركة، وهو أصلب معارض جزائري لأنه لم يسقط طوال هذه السنوات رغم ظروف الاغتراب الصعبة في إغراءات الارتباط أو التعاون مع أية جهة خارجية عربية كانت أو غير عربية، وهو أكثر قادة المعارضة ثباتا على المبدأ ومتابعة له لأنه ما يزال ينادي بنفس الأفكار والمبادئ التي طرحها منذ ربع قرن، وهو أكبرهم جَلْدا لأن كل عوامل اليأس لم تنل لحظة واحدة من إيمانه بحتمية انتصار الديمقراطية، وهو أوسعهم مصداقية سياسية لأن نظام بومدين ونظام الشاذلي بن جديد لم يستطيعا أن يسجلا عليه أو ضده، زلة من هذه الزلات الكثيرة التي ارتكبها بعض، إن لم نقل أغلب المعارضين المقيمين بالخارج، وأدوا ثمنها غاليا من سمعتهم ومن احترامهم في الداخل. وصاحبنا إلى هذا وذاك من الرعيل الأول الوطني أي من ذلك الجيل من المناضلين الجزائريين الذين بدأوا غداة الحرب العالمية يُعِدُّونَ العدة في صمت لقيام الثورة المسلحة. إنه الرئيس الأول «للمنظمة الخاصة L'organisation spéciale» أي تلك الهيئة السرية التي انبثقت من حركة انتصار الحريات الديمقراطية والتي نشأت منها جبهة التحرير الوطني، وهو عضو سابق في المجلس الوطني للثورة الجزائرية ووزير سابق في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكان هذا الرجل أول مخطط استراتيجي للثورة، كما كان أول دبلوماسي لها، وكما سيصير أول مناضل ديمقراطي في صفوف قادتها التاريخيين البارزين. كان أول مخطط استراتيجي بالمعنى الحربي الدقيق للكلمة لأنه تحمل مسؤولية تأهيل الكادر السري للعمل المسلح، وكان أول دبلوماسي عرف العالم الخارجي بواسطته مطالب الشعب الجزائري، عندما ذهب إلى مدينة باندونغ الأندونيسية بجواز سفر مصري ليمثل جبهة التحرير الوطني في المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز (1955)، وكان أول داعية ومبشر بالنظام الديمقراطي لكونه اعترض منذ اليوم الأول، بعد الاستقلال، على فكرة الحزب الواحد. هو واحد من «الأحرار الخمسة» الذين خلدتهم أغنية مصرية قديمة، لعلها للمرحومة أم كلثوم، أغنية رددتها أجيال العربية الفتية حتى حقبة الخمسينات، تعبيرا عن انفعالها بأحداث الثورة الجزائرية. وقد أطلق اسم «الأحرار الخمسة» في العالم العربي، مشرقا ومغربا، على مجموعة من القادة التارخيين للثورة الجزائرية، ذهبوا ضحية أول قرصنة تمارس ضد طائرة مدنية، في هذا العصر. ففي الثاني والعشرين من أكتوبر 1956، اعترض سرب من الطائرات الحربية الفرنسية طريق طائرة نقل مغربية وضعها الملك محمد الخامس رهن إشارة أعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني الجزائري، لتنقلهم من الرباط إلى تونس، حيث كان يفترض أن يعقد اجتماع قمة ثلاثي بين الجزائريينوالتونسيين والمغاربة للبث في موقف موحد من السياسة الفرنسية تجاه الجزائر. وكانت تلك الطائرة تحمل على متنها السادة أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد خيضر ورابح بيطاط ومصطفى الأشرف. لقد أرغم سلاح الجو الفرنسي طائرة الركاب المغربية على الهبوط بمطار الجزائر العاصمة، وأنزل منها ركابها الجزائريين، مكبلين بالقيود مثل مجرمين عاديين، واضطرت الحكومة الاشتراكية الفرنسية، برئاسة غي مولييه، تحت تأثير ضغط الرأي العام وخوفا من مغبة موت الخمسة تحت التعذيب على أيدي ضباط الجيش الفرنسي، اضطرت لنقلهم إلى فرنسا، حيث بقوا في السجون حتى استقلال الجزائر. بعد ربع قرن تقريبا وتحديدا في ربيع 1962، بغرفة الإستقبال في منزل ممثل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائريةبالرباط كان كاتب هذه السطور صحفيا مبتدئا بجريدة التحرير، جاء برفقة وفد من رجال حركة المقاومة وجيش التحرير بقصد التحية والتهنئة، وكان السيد حسين آيت أحمد، الذي حضر مباشرة من فرنسا إلى المغرب مع الزعماء الآخرين الذين أطلق سراحهم بعد اتفاقات أفيان، واحدا من أبرز الوجوه القيادية للثورة الجزائرية. وما تزال الذاكرة تحتفظ ببعض ما جرى في ذلك اللقاء وخاصة كلام السيد حسين آيت أحمد عن الدور الذي تنوي الجزائر المستقلة النهوض به لتوحيد المغرب الكبير. أما اللقاء الأخير، فقد تم في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 1988، بإحدى مقاهي شارع السان جرمان في الحي اللاتيني، بحضور الصديق محمد أيت قدور، ودار فيه الكلام مدة ثلاث ساعات عن نفس الإشكالية : وضع الجزائر بعد خريف الغضب الأخير واحتمالات تأثيره على المغرب العربي. بين اللقاء الأول الذي تم بإحدى «فيلات» الرباط في ربيع 1962، واللقاء الأخير حول طاولة خشبية صغيرة بالحي اللاتيني، عشرات اللقاءات بالجزائروباريس ولندن، والرجل هو هو، ما يزال يحتفظ بحيويته وذهنه المتوقد ورؤيته السياسية الواضحة. بدا لنا السيد حسين آيت أحمد، وهو يرافع بلغته العربية الفصحى ومسلح بلغته الفرنسية الراقية، وكأنه نفس الشخص الذي شاهدناه، قبل ربع قرن يشرح موقفه داخل المجلس الوطني التأسيسي الأول. سؤال : كيف تفسر هذا العناد في موقفكم؟ جواب : إنه إيمان وليس عنادا... سؤال : ما رأيكم في أن الجميع أصبحوا ديمقراطيين؟ جواب : ظاهرة التوبة من نظام الحزب الواحد جديدة في الجزائر. أما أنا فلست من التائبين، بالمعنى السياسي، لقد كانت الديمقراطية اختيارا دائما بالنسبة إلي. حاولت الدفاع عنها بأحسن ما أستطيع سواء داخل حزب الشعب، أو ضمن حركة انتصار الحريات الديمقراطية بل وحتى وأنا على رأس المنظمة السرية الخاصة ثم في المجلس الوطني التأسيسي. خلال تحملي لرئاسة المنظمة السرية، حرصت، وذلك أمر يعرفه ويذكره جميع الكوادر الذين ما يزالون أحياء، على توفير أجواء المناقشة الديمقراطية في الحدود التي تسمح بها طبيعة العمل السري. وقد وُفقنا في الحفاظ على السرية، وعلى حد معقول من الديمقراطية المسؤولة، دون أن تكتشفنا السلطات الفرنسية. ولكنني مع ذلك كله شديد الحذر والسرية ومن التشوه الذي تلحقه بالفكر والممارسة في المجال السياسي. ومن حسن حظي أنني أفلت من التشوه الذي كثيرا ما يلحق العاملين في حقل السرية... سؤال : ألا تعتقدون أن ما قمتم به بعد الاستقلال، هو عودة إلى السرية؟ جواب : أبدا، لقد اخترت التعبير العلني وجهرت بموقفي صراحة ضد الحزب الواحد، وقلت رأيي ودافعت عن حرية التعبير، وكان هدفي، هو قلب الآفاق التي فتحتها أزمة صيف 1962. ولا تنسوا أنني استقلت من الحكومة، بكل بساطة، تجنبا للصدامات الأخوية. كنت أريد أن أقدم مثالا وقدوة، لأن الأمر كان يتعلق بصراع حاد حول السلطة. سؤال : خصومكم السياسيون، اتهموكم آنذاك بمناهضة الاختيار الاشتراكي... جواب : أنا لم أكن مناهضا للاشتراكية، ولكنني وقفت ضد المفهوم الستاليني والشيوعي للإشتراكية، ولست أنكر ذلك الموقف بل أعتز به. ولا يفوتني أن أذكركم، مع ذلك بأنني وقفت أيضا ضد حل الحزب الشيوعي الجزائري وطالبت بالسماح له بالعمل. فعلت ذلك لأنني أؤمن بأن الديمقراطية يجب أن تتيح لكل تيار سياسي العمل في وضح النهار، ولأن غيابها يشجع ممارسة ما أسميه «استراتيجيات التغلغل السري المتبادل» التي تؤدي دائما إلى الخلط والالتباس... سؤال : كيف تفسرون أن «جبهة القوى الاشتراكية» التي أنشأتموها بقيت محصورة النفوذ في منطقة القبائل؟ جواب : لابد لي أن أشير أنني أنشأت جبهة القوى الاشتراكية عام 1963 بعد أن أُلغيت كل إمكانية لحرية التعبير وبعد أن أغلق المجلس الوطني السياسي كما يغلق مقهى أو كما تغلق علبة ليل. ولم يكن يكفيني أن أبشر بمبادئ الديمقراطية، وكان من المستحيل إقناع قادة الجبهة بها. وقد حتمت علي الظروف إنشاء حزب معارض، فبادرت، مع السيد محمد بوضياف، وهو أحد القادة التاريخيين للثورة، بتكوين جبهة القوى الاشتراكية. سؤال : في بداية عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، اتهمتكم السلطات ضمنا بأنكم مسؤولون عن الاضطرابات التي شهدتها منطقة القبائل الكبرى... جواب : لنعد إلى الوقائع كما حدثت حقا في الساحة. بدأت أحداث القبائل أو ما سمي لاحقا «الربيع القبائلي» يوم 10 مارس 1980 حين اتخذ والي مدينة تيزي وزو، قرارا إداريا مجحفا، منع بموجبه الروائي الكبير مولود معمري، من إلقاء محاضرة أمام طلاب الجامعة حول «الشعر القبائلي القديم...» وقد أيقظ هذا القرار السخيف حزازات قديمة موجودة لدى النخبة الجزائرية ذات الأصل القبائلي، أو فلنقل الأمازيغي، تجاه السلطات المركزية التي تحاول خنق الثقافة القبائلية وكبتها ومنع استعمالها في المدرسة. حاول الطلاب إلغاء القرار الإداري ووسعوا النقاش ليشمل إشكالية الثقافة الأمازيغية برمتها وما تتعرض له من اضطهاد وقمع وحصلوا بسرعة على تأييد تلامذة الثانويات في تيزي وزو وبجاية ذراع الميزان وعين الحمام وغيرها من المراكز الحضرية الكبرى في بلاد القبائل. وقامت مظاهرات سلمية شارك فيها الطلاب والتلامذة ورافقتها بعض التصرفات الاستفزازية مثل تكسير بعض الإشارات والواجهات والعناوين المكتوبة باللغة العربية. وقد امتدت الاضطرابات من تيزي وزو إلى العاصمة. وهكذا قامت الشرطة بقمع مسيرة شارك فيها الأساتذة جنبا إلى جنب مع الطلاب يوم 7 أبريل، أي بعد شهر تقريبا على منع محاضرة مولود معمري. جرت تلك المظاهرة في شوارع مدينة الجزائر العاصمة وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها : «من أجل الديمقراطية الثقافية»، «من أجل ثقافة شعبية»، أو «من أجل حرية التعبير...» وقد شهدت مدينة تيزي وزو مظاهرة مماثلة أُتلفت خلالها بعض الواجهات المكتوبة بخط عربي، كما نُظِّمت مسيرات تضامنية في باريس، من طرف العمال والطلاب والتجار الجزائريين، وانتهت الوضعية بإعلان إضراب عن الدروس في جامعة تيزي وزو وفي كلية الآداب بالجزائر العاصمة. وقد حضر السيد عبد الحق بْرَارْحِي وزير التعليم العالي إلى تيزي وزو وتناقش مع الطلاب المضربين ووعدهم بفتح حوار داخل الحزب والحكومة حول المسألة الثقافية. ولكنه أخفق في إقناعهم بالتخلي عن فكرة الإضراب. وفي يوم الأربعاء 16 أبريل كان الإضراب شاملا، بمنطقة القبائل وشارك فيه إلى جانب الطلاب والتلامذة ورجال التعليم، شارك فيه التجار الذين أغلقوا محلاتهم، وأصحاب المقاهي والفنادق، والعمال الذين لم يحضروا لا إلى المصانع ولا إلى ورشات العمل. وبعد بضعة أيام فقط من زيارة وزير التعليم العالي، بعثت الحكومة قوات الشرطة والدرك لاقتحام جامعة تيزي وزو، وفتح المستشفى بالقوة. ولم يؤد هذا التدخل العنيف إلى النتيجة التي أرادتها الحكومة، بل حصلت مواجهات دامية بين المتظاهرين والطلاب والأطباء والممرضين والأساتذة المعتصمين من جهة ورجال الأمن والدرك من جهة ثانية. حصل ذلك لمدة أسبوع كامل، عُزلت خلاله مدينة تيزي وزو عن بقية البلاد، وهبط مئات الشبان من القرى الجبلية المجاورة، وهاجموا مع سكان المدينة بعض المواقع الرمزية، مثل محطة القطار والمحافظة الوطنية للحزب، أي مقر جبهة التحرير الوطني الجزائري، تلك هي الوقائع، وقد حاولت أن أسردها لكم بأقصى حد ممكن من الدقة والموضوعية. وبالفعل اتهمتنا السلطات بأننا ساهمنا فيها، وزعمت أننا نحاول تحطيم الوحدة الوطنية الجزائرية. وأريد هنا أن أذكر، بأن هذه التهم وُجهت إلينا عام 1963 عندما حاولنا التعبير عن رأينا وحاولنا تنظيم معارضة سياسية ديمقراطية ضد سيطرة الحزب الواحد. ولكن هذه التهم لا تصمد لحظة أمام محك التاريخ. فمنطقة القبائل ليست فيها أي نزعة انفصالية، وكانت أثناء حرب التحرير معقلا حصينا من معاقل الثورة، وقبل ذلك كانت بؤرة قوية ومشعة من بؤر الحركة الوطنية. وأنا شخصيا مارست أغلب نشاطي السياسي سواء خلال فترة التمهيد السري للثورة، أو خلال العمل الخارجي، بعيدا عن تلك الجهة التي ولدت فيها. ولكن لهذه المنطقة وضعا جغرافيا وتاريخيا يجعلها ذات طبيعة خاصة ويجعل منها مركزا للمقاومة الديمقراطية.