يحيل لفظ العنف دلاليا على فعل الاقرار بحدوث ضرر. فما طبيعة العنف الناتج عن الديمقراطية؟ كيف لجلالتها أن تلحق ذلك بمريديها، الشغوفين بها؟ يحدث ذلك عندما يتم الخروج بالمنظومة لحظة إضراب الأحداث، عن نسق الصواب، منهجيتها. يحدث ذلك عند إقبارها داخل خطاب الشعبوية السلطوية Le populisme autoritaire كما تقول بذلك أطروحة Stuart Hall خطاب أصبح عماد الكثيرين من مبتكري ايديولوجية المجمل L'opacité"" . يستشف الباحث في محادثته للتاريخ السياسي كم هي - الديمقراطية - مثقلة بمحطات مأساوية، مارست خلالها عنفا، إذ قادت عند مطلع الثلاثينات رجلا أحسن العزف على وثر العرقية، فاتحا الباب للنزاعات القومية فزج بالعالم في بؤس لا نظير له. إن الأمور لم تتوقف إذ ستستمر صناديق الاقتراع في صناعة ذلك. فالديمقراطيون الفضلاء يصابون بالمرارة كلما استحوذت السلطة، شخصيات مثيرة للجدل. أليست الديمقراطية اليوم بصدد ممارسة عنفها الصادم، حينما ستدفع إلى الواجهة بحالة كالتي يجسدها "دونالد تروم" Donald Trum أو "برسولينو" Borsolino المرشح المتوقع خلال الانتخابات المقبلة بالبرازيل. إذا كان تداول القول عن أزمة الديمقراطية يبدأ بما سلف ذكره، فإن هناك مستوى تان لهذا العنف، نستهل الحديث عنه انطلاقا من ثنائية باربر بنجمان Barber Benjamin : الديمقراطية القوية مقابل الديمقراطية الضعيفة. فالقوية ترفض استغلال قلق الشعوب، تدعو لاحتواء ذلك بناء على رؤية اجتماعية بأبعاد مؤسساتية كما أنها تنحو باستمرار لترسيخ نظام فعلي في تركيباته ومشاريعه، غير مغلق، قابل للتجديد كلما أملت إقتضاءات الحداثة ذلك.. إن السؤال المؤرق من جهة علم الإجتماع السياسي يتحدد كالآتي: ماهي سبل بعث الروح في منظومة تمثيلية أنهكها مسارها البعيد في الزمن، ما هي سبل بناء هيكل أتعبته مسافة التاريخ؟ للإجابة، إنكب الباحثون: "م.فيوركا" M.Wieviorka ، "ج.فيار" J.Viard، "ب.روزنفلون" P.Rosanvallon و "روجي سو" Roger Sue الذي يكشف في هذا النص الإستفزازي مكامن الأزمة مقترحا آفاقا للتجاوز، تطالبنا بفعل التأمل. التسليم بأن ثمة صعود بالقوة للنظام الاجتماعي، للعمل الجمعوي داخل المجتمع وكذا بعمق الحركة الاجتماعية، بناء على فحوى الخطاب، السجالات المتداولة حتى بداخل المنظومة الاقتصادية نفسها، يدفع ببعض الأسئلة الجوهرية التي أضحت تفرض نفسها بدءا من المعطيات التالية: كيف يمكن تفسير ضعف، غياب رؤية اجتماعية مؤسساتية؟ كيف يمكن استيعاب الغياب النسبي أو الشبه المطلق للتفكير والنقاش السياسي؟ كيف يمكن بصيغة واحدة تأويل امتداد ذلك، حضوره المنطقي في إمكانيات ومكونات نظام سياسي قائم الذات؟ بمعنى نظام متعلق بديمقراطية جمعوية إنضمامية ترابطية، باعتباره الوحيد، المتصف حقيقة بالدمقرطة بحكم التركيب، فالكلمتين معا تحيلان تاريخيا على نفس نسق المجموعة الدلالية مصيرا وقدرا. إن واقع الأمر يبدو، حتما، عكس ذلك، فالمجتمع يظهر أنه مقبل على التفكك، نتيجة لغم يطلق عليه من حين لأخر "اللاتمدن"، العنف، "الخوف من الآخر"، "اللاأمن"؛ وقائع تتضمن بمجملها إقتضاءات تقر بعودة نظام يتبنى السلطة حتى لا يوصف من جهة بالسلطوي أو بالاستبدادي. فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ بالتأكيد وك مرتبطة بعامل الرؤية. إنها بحق أكبر عملية لنشر قيم الفردانية الجمعوية، باعتبارها أخيرا قيم الديمقراطية التي لا تقبل اليوم، واقعا اجتماعيا وسياسيا لا يلائم ولا يطابق هذه القيم. إنه التفاوت الحاضر، الكامن بين توسعات نموذج أكثر قربا، إذا ما قارناه بسابقه من الديمقراطيات المماثلة، ومجتمع لا يسمح له بتشغيل وسائل تعبيراته، والتي تعد في جانبها الأكبر مصدر القلق داخل الديمقراطية نفسها وبداخل مقولة العيش الجماعي. إن تفاقم ظاهرة العزوف على امتداد الانتخابات، تولدت في جزءها الأكبر، نتيجة الرفض وكذا التأمين أو التكفل بنظام بعيد كل البعد عن ذاتيات معاشة، عن الشعور الديمقراطي. إن صعود الذاتاوية حقق تجاوزا ومحاصرة لعالم السياسة المتحجر، الحائد، والعاجز عن الاستجابة لتطلعات الأفراد. ردود فعل السياسية: إن هذا لا يعني ومقتضى الحال أن تطور الأفراد وتطور مفاهيمهم للرابط الاجتماعي لم يجد له صدى، ترجمة سياسية وفعلية، إنما الأمر وحتى اللحظة كامن في انعدام القدرة على اتخاذ السبيل الأقوم وذلك بسبب غياب التفاهم أحيانا وفي الغالب بسبب عامل رفض التداول والحوار. إن الطبقة السياسية ليست على استعداد للاعتراف بهذه الحركية السوسيولوجية، ناهيك عن السماح لها بالتعبير والذهاب بعيدا إلى درجة إعادة تنظيم السلطات. ترتبط المسألة في جوهرها بالعلاقة بالسلطة، التي أضحت تعرقل لحد بعيد التطور الطبيعي داخل النسيج المجتمعي. إن طبقة مهنيي ومحترفي العمل السياسي ومن ينتسبون إلى كنفهم، يستمتعون ويستفيدون - إن القضية تعني العديد من الأشخاص - لذا فهذه الطبقة غير مستعدة لاقتسام الامتيازات، فهي ترغب في الإبقاء على واقع الحال واحتكار ما تمارسه أولا من جهة السلطة الشرعية، كما أنها تسعى من جهة ثانية إلى ترسيخ المفهوم الضيق للفعل السياسي. تتخذ السياسة بحق، بالرغم من الخطابات المتفق بشأنها، والمتعارف عليها، عند ممارسيها، طابع صيرورة المجال بسمة الحكر وصفة الخصوصية، بل الأخطر من ذلك، وأمام تعدد سمات التنصل والتنكر تجاه الطبقة السياسية، فإن هذه الأخيرة، وكرد فعل ارتمت في أكبر مقاولة للفضح، بل بلغ بها الأمر في بعض الحالات حد تجريم المجتمع المدني. * إن عدم القدرة على التجاوب، الاستجابة للتطلعات الديمقراطية، الاعتراف البسيط بالحق في العمل، الحصول على دخل قار، وفي المشاركة الاجتماعية، كأمور تعبر عنها التظاهرات المختلفة، المتعددة والتي تتسم أحيانا بالعنف سواءا من لدن العاطلين أو شباب ضواحي كبريات المدن، الشيء الذي يجعل الوضع أكثر تأزما. لقد فضل السياسي وارتأى استعمال لغة الاتهام وتركيز التوجه نحو العنف المرتبط بالحدث، بصيغة أخرى، الحديث عن نتائج العنف، لا مسبباته ودوافعه. يتم وفي نفس السياق التلويح والإشاعة لأطروحة العنف الموحد ضد الديمقراطية، الرامي في الآن نفسه وبحسبها المس بحقوق الأفراد. لذا الأمر ليس مهما ولا مركزيا، وإنما يتعلق بتغيير مفاجيء وتحول للوضع بعيد الاحتمال بمعنى غير محتمل الحدوث. فبهذا يكون المجتمع ذاته قد أضحى عنيفا، فوضويا واللاديمقراطيا، مما يستدعي ومن باب الاستعجال حمايته ضد نفسه. إن الطامة الكبرى وبدون أدنى شك، تتلخص في أن هذا الخداع السياسي يتم تقبله واستساغته بسهولة، فيصبح الجميع حبيس الإيمان والاعتقاد به. إنه نتاج إستراتيجية خضعت من جهة للتفكير العميق، ومن جهة أخرى للتداول المفرط حولها استنادا لنتائج يتعذر إحصائها.