حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آثار القصيدة القديمة في الشعر العربي المعاصر

يغلب ظني، أن الشعر امتداد في الزمان والحياة أيضا، باعتباره قيما جمالية ورؤيوية على صلة قوية بالوجدان والخيال. وهو بذلك حلقات، يمكن ضبطها إجرائيا ضمن السياقات الثقافية والتاريخية. وحين نستحضر هنا الشعر العربي، فإننا بلا شك في ظل ذلك نشير لماضيه وحاضره. وقد يمنحنا هنا النقد الأدبي وتاريخ الأدب الكثير من المحددات والاصطلاحات ، لتأطيره وتصنيفه إلى خانات. في هذا السياق،نرى أن ثنائية الشعر القديم والمعاصر غالبة في حديثنا عن الشعر العربي . فالشعر القديم يمكن الحديث فيه عن مسيرة حافلة بالتجارب والرؤى ابتداء من الجاهلية، مرورا بالمرحلة الإسلامية والأموية إلى العباسية؛ ثم فترة الانحطاط التي عمرت طويلا والتي راوح فيها الشعر مكانه بكامل الاجترار والتصنع...استطرادا، يمكن اعتبار الشعر الحديث بمدارسه وخياراته المتعاقبة (الكلاسيكية، الرومانسية) وسيطا يربط بين الشعر القديم والمعاصر الذي ظهر كنماذج وانعطافات ، ابتداء من الأربعينات من القرن السالف.
وحين نستحضر هنا سؤال العلاقة بين الشعر القديم والمعاصر، فإننا نقابله بالمواقف النقدية للشعراء المعاصرين من ماضيهم الشعري؛ بل من التراث بشكل عام . وبالتالي تتوالد الأسئلة من قبيل: ما هو موقف الشاعر العربي المعاصر من التراث الشعري العربي؟ كيف يقرأه ويتمثله ضمن سياق غاص بالتبدلات والتحولات السريعة والمتسارعة ؟ وإلى أي حد يحضر النص الشعري القديم كتجليات ومستويات في القصيدة العربية المعاصرة ؟
غير خاف، أن الشاعرالعربي المعاصر تحرر في تعامله وتفاعله مع التراث من الخنوع والتقديس الأعمى؛ وفي المقابل التحرك على مساحات خلاقة من السؤال وإعادة البناء، على ضوء تجدد القضايا و تعدد آفاق القصيدة المعاصرة كإدراك وحساسية مغايرة. وهذا يعني، أن الشعر المعاصر في جدل لا يهدأ مع القصيدة القديمة في نماذجها الراقية التي تمثل لكتابات شعرية جديرة بهذا الاسم، ليس في التراث العربي فحسب؛ بل في الآداب الإنسانية . وهكذا امتد تأثير الشعر القديم للقصيدة المعاصرة عبر مستويات عديدة ( الأفق الشعري، اللغة،الإيقاع، السبك، الصورة ..). الشيء الذي يوقع الباحث في حيرة من أمره في كيفية تحديد أثر وآثار القصيدة القديمة في الشعر المعاصر. لهذا اخترنا بعض المستويات ، وقمنا بفصلها إجرائيا فقط ، للإحاطة بتعدد الأثر .
الأفق الشعري:
اخترنا هذا الاصطلاح ، لنؤطر من خلاله ، مكانة الشاعر في الكتابة الشعرية . وبالتالي هناك هوية شعرية ، تطرح كصفات لصيقة بالشاعر، منها الإحساس الرهيف والدراية الدقيقة باللغة والثقافة الواسعة والرؤيا..وهي صفات تجعل الشاعر خارج الأنساق ، وفي مواجهة دائمة للعالم ، نظرا لاعوجاجه . هنا يمكن أن نقول بتلك الأنا الفائضة عن القبضة والموزعة في شرايين القصيدة ، وهي بذلك عصب العملية الشعرية . ف» الشاعر نص مفتوح أبدا . تتعدد سواحله ، قراءاته ، تجاربه ، جسوره. يغني للحياة أساسا . ومن تم قد يغني للذات وللآخرين ، تتعدد جبهاته ، لكنها جبهات انشغال الألم الإنساني» 1 . من هنا، نرى امتداد الأنا الشعرية كأفق للكثير من الشعراء العرب القدماء في ذوات وقصائد شعراء معاصرين . يمكن الحديث هنا مثلا عن الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في بعض صفاته ، كالتيه والهموم و الترحل الدائم... .وبالتالي امتداد هذه الصفات في أشعار وشعراء معاصرين. وطرفة بن العبد والنزعة الوجودية والخروج عن نسق القبيلة.. ومحاولة تحقيق المجد في القصيدة وبها. وفي العصر الأموي ، يمكن الحديث عن معارك جرير والفرزدق (شعر النقائض) . أما في المرحلة العباسية، فقد تعددت النبرات الشعرية ضمن الشعر المحدث المنفتح على حياة المدينة وقيمها الجديدة مع أبي نواس والبحتري ، والنفس التأملي الفلسفي مع أبي العلاء..فكثرت التأملات في الخمرة والمرأة والموت.
امتدت هذه المواضيع باعتبارها سند الشاعر في أي مكان وزمان؛ لأن المبدع الحقيقي يخوض دوما تلك المواجهة للإكراهات والاستلابات في شكلها الجماعي والفردي. فاستلهم الشاعر المعاصر تلك المعاني بروح جديدة وليدة العصر . هنا يمكن الحديث عن غربة الشاعر المعاصر في علاقته بوطنه وبالمدينة أو في تأمله للموت الذي تعدد إلى حد الالتباس . الشيء الذي يؤكد أن الشاعر المعاصر باعتباره غريبا ووحيدا ومطاردا ضمن مدينة مدفوعة بالاستهلاك ضدا على القيم الإنسانية التي ينادي بها الشاعر. فإنه يتفاعل مع التراث الشعري ويتمثله ( في نماذج الغربة والعزلة ) ، ثم ينتج شعرا جديدا ليس خاليا من أصداء السلالة الشعرية العربية. يقول الشاعر محمود درويش في نص بعنوان «رحلة المتنبي إلى مصر « 2:
كم اندفعت إلى الصهيل
فلم أجد فرسا وفرسانا
وأسلمني الرحيل إلى الرحيل
ولا أرى بلدا هناك
ولا أرى أحدا هناك
كما يمكن التوقف في هذا الجانب على تلك الوقفة للشاعر القديم على الديار بعد رحيل الأحبة ، تاركين ما يدل عليهم . هنا الشاعر مثل لصلة قوية للإنسان بالمكان؛ مما خلق جمالية خاصة، حولت مكان الفقد إلى مكان إنساني. في المقابل يمكن أن نعدد من النماذج الشعرية المعاصرة التي تمثلت تلك الوقفة في قالب جديد ؛ فكانت الديار رديفة للوطن ومكان الفقد . وظل الشاعر المعاصر يردد بعض الرموز المكانية التي رسخها الشعر القديم كالنخل والرمل..لكنها تحضر الآن في سياق شعري آخر ؛ فالنخلة رديفة وجود أمة وصمود متعدد الأصول والفروع.
اللغة الشعرية:
إن القصيدة التقليدية تتعدد حلقاتها ونماذجها ، تبعا للمراحل والاتجاهات . لكن الشاعر القديم كان على وعي حاد بالإطار الذي يبدع ضمنه والذي حدد النقاد واللغويون مقوماته في سبعة أبواب (مع المرزوقي مثلا ). وهي :
شرف المعنى وصحته
جزالة اللفظ واستقامته
الإصابة في الوصف
المقاربة في التشبيه
إلتحام أجزاء النظم والتئامها
مناسبة المستعار منه للمستعار له
مشاكلة اللفظ للمعنى ، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
أوردنا أبواب عمود الشعر العربي ، لنظهر أ ن الشاعر في القديم كان على دراية قوية بالإطار الذي يبدع ضمنه ، فكان نتاجه الشعري محكما في صياغته ومتجانسا في تعدده. وعلى هذا الأساس كانت العرب، كما يقر القاضي الجرجاني تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن. وفي المقابل فالقصيدة المعاصرة لا يعني تغيرشكلها وضع قطيعة مع القصيدة القديمة، إنما ظل الجدل قائما في مستويات التراث الشعري القديم ، باعتباره طبقات لغوية على قدر كبير من النظم والسبك البليغ ..وتعقد الأمر في بناء الصورة الشعرية في القصيدة المعاصرة، نظرا للتوترات اللغوية الوليدة تراكيب الانزياح والخرق بوجوهه العديدة كما يثبت جان كوهن في كتابة «بنية اللغة الشعرية».
وظل الصدى يتردد في التكثيف والصور في الشعر كما يقول عبد الله غذامي كحالة تمثل لغوي راقية، وتجسيد فني لأبلغ مستويات الإبداع اللغوي . لكن التجربة الشعرية المعاصرة لم تجادل التراث العربي وحده ،بل انفتحت على الاتجاهات الشعرية الغربية إلى حد المطاردة . فولد ذلك في الكثير من الأحيان نماذج مغلقة يطاردها الغموض والتجريب والاستنساخ الشعري ، فغدونا نقرأ نصوصا شعرية فاقدة للحرارة وسهم البوصلة . ولعل صرخة الشاعر محمود درويش في مقالة بعنوان « انقذونا من هذا الشعر» خير معبر عن هذا القلق حيث يقول : «على الشعراء والنقاد إذا وجدوا ، أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير ، فهذه هي فترة النقد الذاتي . إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشكيك بكامل حركة الشعر الحديث ، ويغربها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية ؟ . إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض ، حتى سادت ظاهرة ما ليس شعرا على الشعر». 3
فالسلاسة والفصاحة والبناء المحكم كلها خاصيات تأليفية (في القصيدة العربية القديمة) مصحوبة بترسانة نقدية ولغوية متعددة الاصطلاح النظري (النظم، مقتضى الحال، الفحولة، الطبقة، الصناعة ...). فقدم الشعر القديم تمظهرات لغوية وتخييلية تمثل للكثير من القيم الجوهرية في الكتابة الشعرية . فكان من الطبيعي الاعتراف الدائم للسابقين بهذه المقدرة المتعددة الاستعمال اللغوي الرصين والجمالي الموحي. وبدون توفرها كأساسيات إبداعية، لا يمكن الحديث عن أشكال وهياكل .
الإيقاع الشعري:
غير خاف ، أن القصيدة المعاصرة أحدثت تغيرات هامة وبنسب مختلفة في الجانب الإيقاعي ، فحافظت على التفعيلة ، مكسرة للوحدة على مستوى بحورالشعر والقافية والروي . وفي جانب آخر مع قصيدة النثر التحرر التام من تفعيلة الخليل بن أحمد والانتصار للإيقاع الداخلي . في المقابل نتساءل : هل تحررت القصيدة المعاصرة من الإيقاع ككتلة صوتية ملازمة في الشعر القديم ؟ . الأمر لا يسمح هنا بمجادلة طروحات نظرية حول الإيقاع الشعري ؛ ولكن أريد التنصيص على بعض المعطيات، منها :
كون القصيدة القديمة في بعض نماذجها ، حققت جدارة إيقاعية خليلية وداخلية دون تضايق لغوي وشعري . هنا يمكن الحديث عن مشاكلة اللغة للإيقاع دون تنافر . وقد مثلت بعض القصائد الشعرية المعاصرة هذا الملمح الإيقاعي خير تمثيل . «وإنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية ، ليست دعوة لنبذ الأبحر الشطرية نبذا تاما، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل وتحل محله ، وإنما كان كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه على جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة . ولا أظنه يخفى على المتابعين أن بعض الموضوعات تنتفع بالأوزان القديمة أكثر مما تنتفع بالوزن الحر».4
من هنا ضرورة الفصل بين العروض والإيقاع؛ كما أن موسيقى الشعر جزء من تجربة الشاعر . أكيد أن الشعر لا يمكنه الاستغناء عن الإيقاع كجزء أساسي من كينونته ؛ وقد انتبه القدماء للإيقاع الداخلي بخلاف بعض الدعوات التي لا تلتفت ولا تدقق . فهذا ابن سنان الخفاجي في كتابه « سر الفصاحة « يلفت النظر للقيم الصوتية والإيقاعية ،وبذلك انتبه إلى سر الموسيقى الداخلية . كما أن الشاعر أدونيس على الرغم من مغايرته واختلافه الشعري المثير للجدل ، فإنه ينصت لكينونة النص الشعري ، معتبرا الإيقاع شيئا أساسيا كمكون متضافر مع المكونات الأخرى .
التناص الذي لا بد منه:
وأنا أبحث في امتداد القصيدة القديمة في الشعر المعاصر، كنت دائما أواجه بجدل النص المعاصر مع النص القديم . لأن الشاعر عبارة عن شبكة من التواصل مع الشعر القديم؛ فيكون النص معبرا لنصوص عديدة، منها النص الشعري . هذه العلاقة لم تأت فقط في حديث المعاصرين ضمن ما أسموه بالتناص . وقد أقرالنقاد العرب القدماء بذلك في قولهم بالسرقات والاقتباس والتضمين (وهذا حديث آخر) . على أي ، فالنص تشكيل إبداعي جديد، يطوي على محاورات وعلاقات تذهب في التراث؛ بل في الأطر الإنسانية القبلية الماثلة في الوعي الجمعي والذاكرة المشتركة. بهذا الفهم ، يسلك النص الشعري المعاصر ما أسمته جوليا كريستيفا بالامتصاص والحوار . وما يسميه محمد مفتاح بالنص الغائب والتعالق النصي . الشيء الذي يخلق تكثيفا في التجربة الإبداعية ومنجزها الشعري . وفق هذا الفهم ، يمكن الحديث عن تناص متعدد المستويات . نورد هنا تعزيزا بعضا منه .
يقول امرؤ القيس:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب
يقول محمود درويش في قصيدة «جدارية» :
يا اسمي سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني و أحملك
الغريب أخ الغريب
هنا يظهر ذاك التوازي بين واقع الإنسان المعاصر وواقع الشاعر الجاهلي؛ فكلاهما يعرف عدم الاستقرار والترحال الدائم بطرق ومسببات مختلفة . لكن هنا ربما إلتقاء في مساحة الألم ، وفداحة الخسارة بأبعادها النفسية والوجودية أيضا. وقد تعددت محاورات الشعراء المعاصرين للشعراء الأقدمين، بل التماهي أحيانا مع شخوصهم كأقنعة . يمكن هنا أن نستحضر البيت الشهير(الذي ظل يتردد صداه في القصيدة العربية المعاصرة) لأبي العلاء المعري:
صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عاد ؟
بهذا المعنى فالقصيدة القديمة تمتد في الشعر المعاصر كصيغ ومستويات؛ نظرا لجدلها لقضايا ولكيفية التصوير ..
على سبيل الختم
لا يمكن في تقديري الانتهاء من هذه الجولة في الشعر العربي وجدله الداخلي مع الشعر العربي المعاصر لخلاصات يقينية، نظرا لاعتبارات متداخلة ،منها تعدد حلقات الشعر العربي قديمه وحديثه؛ وكذا تعدد الاتجاهات والحساسيات، بما أنها إدراكات وتصورات للذات والعالم. كما أن تناولنا لآثار القصيدة في الشعر المعاصر، يقتضي الوعي بإشكالية القديم والجديد ، في مراعاة تامة للترابطات والحدود بين الشعر والخطابات الأخرى من سياسية وتاريخية .. وهو ما يثبت أن الشعر يطوي في تكوينه على قيم جوهرية، وأخرى نسبية خاضعة للتغيروالتلون. وبالتالي ، ف «ممارسة التجريب التي اقتصرت عندنا على الأرجح على مقاربة الشكل الشعري فقط ، بوصفه يمثل الحداثة الشعرية أو الكتابة الجديدة . بينما في العمق من نظرتنا للحياة..لم تزل القيم والعواطف والانفعالات هي ذاتها التي أسرت القصيدة التقليدية، فالتنقل من شكل شعر إلى آخر..لا يعني بالضرورة التجديد».5
تمتد آثار القصيدة القديمة في الشعر المعاصر عبر مستويات، بعضها يرتبط بالشاعر كأفق وهوية. من هنا تحدثنا بإيجاز عن تصادي التجارب وتراسلها ضمن رحابة إنسانية دون اجترار وذوبان الخصوصية. و بالتالي حاولنا في هذا الأفق التركيز على اللغة دون تركيز على الهيكل، وبالأخص ما يتعلق بالكثافة والصورة الشعرية. أما الأثر الثالث فمحورناه في الإيقاع بمعناه الواسع الذي يضم العروض والإيقاع الداخلي؛ وأن القصيدة المعاصرة تجادل القصيدة القديمة كممارسة إيقاعية أيضا. لننهي مشوار هذه الدراسة بالتناص، دون الضياع في تعدد الاصطلاحات أو قل باختصار علاقة النص بنصوص أخرى. ورأينا أن التناص مستويات أيضا؛ ويالتالي فالمحاورة النصية، تكون متعددة. وهو ما يستلزم الرؤيا الحاذقة والوعي المتقد للشاعر ، ليبدع نصا عميقا وجميلا، له تموقعه في الشعرية الإنسانية بشكل عام كعطاء وإضافة. وهي الصفة التي يطاردها الشعراء في نصوصهم؛ أعني الشعراء الإشكاليين الذين يخطون على درب القصيدة الطويل كخيارات جمالية ورؤيوية على قدر كبير من الجدل والامتداد . لهذا في تقديري تحضرنا أبيات شعرية ( بقوة لفظها ومعناها ) ضمن لحظات معينة حول الموت والفقد والحب والحرب والحرية والقلق الوجودي...دون النظر لهيكلها؛ نظرا لسبكها وصياغتها المتفردة ووقعها على النفس، بتعدد مستويات التلقي. فالشعر شعر وليس شيئا آخر؛ وهو ما يثبت ذاك الامتداد أو الانسياب في وجود القصيدة كتحقق لغوي وشعري مقيم وخالد ( في خلق الله طبعا ).
هوامش:
1 حسن نجمي، « الشاعر والتجربة «، دار الثقافة الدارالبيضاء 1999، ص 16
2 ديوان محمود درويش، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت 1994، ص 107
3 محمود درويش، «أنقذونا من هذا الشعر» مجلة الكرمل ،عدد 6 ربيع1982،ص 6
4 نازك الملائكة، «قضايا الشعر المعاصر» ، دار الآداب ، بيروت 1962، ص 47
5 محمد الحرز ، « الحداثة : من تاريخ المصطلح إلى تاريخ القصيدة الحديثة»، مجلة الجوبة ،عدد 26 شتاء 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.