لا شك في أن النهوض بهذا التحليل للنص النقدي والفكري الذي كتبه محمد برادة يتطلّب وضعه ضمن دائرة أوسع، هي الدائرة التي سمحت بإنتاجه، وهيأت المجال لتميزه على صعيد الرؤية والأداة والإجراء النقدي والمعايير، وهذا ما يستوجب وضع نصه ضمن إطاره التاريخي، وبيئته الاجتماعية والثقافية الحاضنة. إن النظر إلى هذه الشروط الحافة بتجربة محمد برادة النقدية قد يبعد هذه القراءة عن مسار القراءة الأدبية الخصبة التي يقع النص أو الخطاب في صميم اشتغالها كما أكدت على ذلك أغلب التيارات النقدية التي شهدها القرن العشرون منذ ظهور حركة الشكلانيين الروس إلى الاستقصاءات البنيوية وما بعدها، غير أننا نرى بخلاف ذلك، لأن فهم الخطاب النقدي البرّادي من خلال معرفة العلامات المائزة للحقل الأدبي المغربي والعربي منذ أواخر الستينيات، سيمكننا من التعرّف على خصوصية النقد الحواري المزدوج الذي ظل مرتبطا أشد الارتباط برؤية هذا الناقد للعالم والإنسان. فالنتاج الجمالي والفكري على الرّغم من فرديته غير القابلة للنقض، يبقى جزءا من العصر الذي أنتجه وصدر فيه- والمفارقة هي أن لا يكون جزءا منه1. وبهذا المعنى فالتقصّي في منجز الناقد الذي ارتبط بعصره أشد الارتباط، سيتيح لنا أن نتلمّس ليس فقط الأهمية التي تكتسيها هذه الأعمال التي تلتقي فيها هموم الذات بمواجع وأحلام الوطن والأمة والإنسان، وإنما كذلك الأهمية التي ينطوي عليها فعل القراءة في حد ذاته، من حيث المقصدية التاريخية والفلسفية التي تحرّكه، لأن الإنتاج النقدي الذي بلوره محمد برادة على مدى خمسة عقود، قد واكب تحولات الأدب العربي المعاصر منذ سبعينيات القرن السابق التي طبعها التناغم بين السياسي والثقافي، وتشييد قومية عربية واحتضان فلسطين، إلى المرحلة المعاصرة المثقلة بالهموم والأوجاع والتوترات والخيبات والانهيارات التي تطاول الكثير من القيم المادية والرمزية والآمال والتطلعات، والتي يواصل في خضمها الأدب، منفتحا على حوامل تعبيرية جديدة، مهمة، بلورة قيم إنسانية تبث وعيا انتقاديا، كما ترسّخ الحلم اليوتوبي بواقع أفضل. لنقل إن التأمل في المنجز النقدي البرّادي يتيح فتح منفذ للإصغاء للحظة قوية من تاريخ الفكر العربي المعاصر، وأثر الفكر الماركسي فيه. يتعلّق الأمر إذن، بأفكار النهضة الثانية التي لم يكف خلالها محمد برادة عن الحضور الذي يخلق المعاني الرصينة في الأدب والنقد والعمل الثقافي، من خلال ربط النص بالمجتمع عبر القراءة والتأويل، متجاوزا بذلك الأطروحات المتصلبة سواء تلك التي لا ترى في العمل الإبداعي سوى إعادة إنتاج للبنية التحتية، أو تلك التي تعتبره وجودا مكتفيا بذاته منطويا على مكوناته الداخلية التي تحتاج للوصف. لقد ظل محمد برادة منذ أواخر الستينيات إلى اللحظة الرّاهنة وفيا ل نقد أدبي لا يفصل بين المسؤولية العلمية للناقد والالتزام بما هو منوط به من أدوار ومهام، لاسيما تلك التي تتعلق بأسئلة المجتمع العربي وتطلعات الإنسان إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وإذا كان الناقد المغربي محمد الدغمومي قد لاحظ في دراسته اللماحة أن «فئة النقاد رغم محدودية عددها، وحجم عطائها منتجة لخطاب غير منسجم، فهي تظل معبّرة عن اختيارات مختلفة تتجلّى على مستوى المعرفة والإجراء، السبب فيها في أكثر الأحيان عدم استقرار الناقد وطموحه إلى بلورة تجربته2» ما جعله يصنف هذه الفئة في ثلاث اتجاهات حصرها في: الاتجاه الانطباعي، والاتجاه الجامعي، والاتجاه الواقعي، فإننا نرى أن النقد الحواري الذي شيد محمد برّادة صرحه الشامخ يتأبّى عن أن يوضع ضمن اتجاه بعينه من هذه الاتجاهات، فهو ينتسب إلى النقد الجامعي من حيث انخراطه في مسعى تفسير الأدب عبر الصدور عن مفاهيم وأدوات إجرائية محددة، وهي سمات مائزة للمقاربة الأكاديمية التي تنتسب إلى العلم، كما أنه ينتسب إلى الاتجاهين الانطباعي والواقعي من حيث إن هذه القراءة هي محصلة خبرة محمد برادة في اختيار النصوص وتذوقها، ووضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي الملائم. على هذا الأساس يكتسب النقد عند محمد برادة تلك الخصوصية التي يتعين بها نقدا أدبيا مختلفا. خصوصية الدلالة على دور المثقف العضوي الذي بما يمتلك من رصيد معرفي ورأسمال رمزي، مؤهل للتفكير في قضايا المجتمع، وما يجري فيه من تحولات. ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا إن محمد برّادة الذي احتك من موقع المثقف الملتزم بأسئلة المجتمع، وآمال الفرد والجماعة في التغيير والحرّية والديمقراطية، يتيح لنا خطابه النقدي من الأدوات والإمكانيات ما يسمح بتلمّس التصورات والمفاهيم الملائمة التي نحن في حاجة إليها لفهم الأدب بشكل مختلف، يعيد الحياة للنقد الأدبي الذي تراجع دوره في المجال العام أو أصبح حضوره باهتا في مرحلة مفصلية من مراحل تحول المجتمعات العربية وتطلعها إلى القطع مع السلطوية وما ترتب عنها من ضروب التخلف والتراجع على مستويات عديدة، خاصة فيما يتصل بالقيم الأصيلة للحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة الإنسانية3. إن اللغة النقدية التي يستعملها محمد برادة تبدو واقعة في صميم نقد أدبي ثقافي حواري يخترق الخطاب الإنساني بشكل عام بحثا عن ما يكتسي القيمة والمعنى. فهو يمزج بين ماركسية متجددة ومرنة، ونقد حواري ذي خلفية باختينية تحتفي باللغات والثقافات والنصوص المتعددة. وبهذا المعنى تؤدي القراءة التي تمكن الناقد من وضع أسسها، بما تمثله من دلالات اللقاء الضافي بمرجعيات فكرية حية ومتجددة، وبالنظرية النقدية الألمانية التي ما تزال ثمة حاجة كبيرة لتمثل نصوصها الأساسية، تؤدي تلك القراءة دورها المؤثر في الحقل الأدبي والثقافي، وتساهم في فتح أفق واسع أمام النقد، بقدر ما ينشغل فيه بالبحث في المقومات الفنية للعمل الأدبي، وما يستبطنه من إضافات جمالية، يهتم كذلك بوضعه في سياق المجتمع والتاريخ اللذين يتحقق فيهما من أجل إظهار وظيفته في نقد الأنساق والبنيات المضادة لما يتطلع إليه الأفراد والجماعات. ولا يمكن أن نقدر هذا النقد حق القدر إذا لم نتبنّه إلى الأبعاد الاجتماعية والسياقية التي ترسم هويته وتحدد ملامحه الأساسية. فهو نقد مستقل غير أنه ضد الاختزال والتقوقع والنزعة الأكاديمية التي تحنّط عمل الناقد في أدوار تربوية أو تعليمية أو تكوينية أو بحثية، «تظلّ رغم أهميتها المعرفية والتربوية، محدودة الآفاق، ومن دون الانفتاح المطلوب على محيطها العلمي والاجتماعي في ترابطاته المحلية والكونية إلا بالقدر الذي تسمح به بعض الملابسات والإمكانات والظروف وتحولات الواقع المعني4». إننا بقراءة محمد برادة نتأمل تجربة نقدية تتعين بوصفها محطة مهمة من محطات النقد الأدبي المغربي والعربي في المرحلة المعاصرة. فقد عمل على إتقان منهجه وتطويره لمواجهة الأسئلة العميقة التي يطرحها إنتاج الأدب وتلقيه ضمن الشروط الحافة بالحقل الثقافي المغربي. وإذا كان قد استفاد في بناء منهجه من النقاشات الغربية العميقة حول الثقافة والأدب والمجتمع، منذ طروحات الرومانسيين الألمان وتأملات مبدعين نقاد أمثال مالارميه، أندري جيد، مارسيل بروست، إلى النظرية الأدبية التي تشكلت ملامحها منذ النصف الثاني من القرن العشرين مع سارتر وبارت وبورديو والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وتطورت خلال الستينيات والسبعينيات السابقة في إطار البنيوية التي استفادت من الشكلانية الروسية، وتيارات ما بعد الحداثة التي أعقبتها، فإنه استطاع أن يغير بأعماله النقدية الحوارية مجال الدراسات النقدية التي كانت تسيطر عليها نزعات تين وبوف ولانسون العلموية، وكذلك الجهود المتأثرة بالبنيوية الفرنسية، وذلك بوضع الأدب في مركز الاهتمام، ومواجهة القراءات الاختزالية التي عجزت عن إدراك حتمية الأبعاد الاجتماعية فيه بعيدا عن المقاربة الانعكاسية التي تحلل النصوص على أساس من الأوضاع التاريخية التي تنتجها. بهذا الشكل يمكّن نقد النقد من تمهيد السبيل لفهم الملامح البنيوية للنص النقدي البرّادي، ليس فقط فيما يتعلّق بما يعنيه أن يكون المرء ناقدا أدبيا في ظل أوضاعنا الفكرية والثقافية والسوسيوحضارية الرّاهنة، وإنما كذلك في الالتزام بالمستقبل كما ألمح إلى هذه الدلالة الناقدان الثقافيان رايموند وليامز وإدوارد سعيد، وبصورة أكثر تحديدا، الالتزام بالظهور في هذا المستقبل، والإسهام فيه، بأشكال شتى جديدة من أشكال صياغته والتأثير فيه5. مراجع: 1 - إدوارد سعيد: عن الأسلوب المتأخر، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب2015، ص229. 2 - محمد الدغمومي: نقد الرواية والقصة القصيرة في المغرب، مرحلة التأسيس، شركة المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء2005، ص39. 3 - مصطفى محسن: خطاب الانتماء: ما معنى أن يكون المرء عالم اجتماع في أيامنا؟، مجلة إضافات، العددان 23-24، صيف وخريف2013، ص86. 4 - نفسه، ص87. 5 - إدوارد سعيد: مستقبل النقد، ضمن كتاب: تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر ديب، ط1، دار الآداب، بيروت2006، ص109.