«المولود الإبداعي» الأول لعبد العزيز بنار، هو مجموعة قصصية اختار لها عنوان «جنائن معلقة فوق خط الاستواء « التي صدرت سنة 2014، وصمم غلافها الفنان عبد الكريم الأزهر. قدم للمجموعة الدكتور مصطفى يعلى الذي يرى أن هذا المنجز يجمع بين المعرفة والموهبة، ما سيسهم في إثراء هذا الفن الممتع والدفع به نحو آفاق تخييلية ذات بلاغة تشكيلية أكثر إبهارا، وعمقا دلاليا أثرى خصوبة. ويضيف الدكتور عثماني الميلود في شهادته على ولادة المجموعة بأنها «تجمع بين منطق النثر الأزلي والشعر الحالم...يفصح القاص فيه عن استراتيجية بنائية تؤلف بين سحر الحكاية وتركيبة السرد-التجريب، ولغة شعر طاعنة في كناياتها ولغة نثر تهوى صيد السمك.» القصة نفسها تلك الكبسولة التي يطلقها المبدع في وجه العالم، لم تعد تحولاتها السردية قادرة على التشظي أكثر من عالم يتفتت في الخصوصيات ليتشكل كليا من جديد في إيقاع واحد يبعث على الضجر ويعمق الاغتراب حيال الذات والآخر والفضاء والأشياء المترامية على حافة القيامة-الموعد الذي يتأجل كل يوم في انتظار صيغة تجرب عليه «بعثا» منتظرا. هي إذاً إشكالات الإبداع الذي لم يعد مطالبا بإعادة تشكيل العالم، أو بالبحث عن الممكنات من خلال الكائنات، ولم يعد يبحث عن نبتة «الخلود»، بل أصبحنا ملزمين بتأمله ككائنات ثقافية تحتضر وتتحول إلى تماثيل. قد نزور «سامراء» قبل أن نبحث عن الجنائن المعلقة فوق خط الاستواء،في قصة للكاتب الكبير غابريال غارثيا ماركيز تحمل عنوان» الموت في سامراء»: وصلَ الخادمُ مرعوباً إلى بيت سيده. قالَ. سيدي. لقد رأيتُ الموتَ في السوق وأشارَ إليَّ بإشارةِ تهديد. أعطاهُ السيدُ فَرَساً ومالاً، وقالَ له: -اهرُب إلى سامراء. هربَ الخادمُ. في بدايات المساء، التقى السيدُ الموتَ في السوق، فقال له: - أشرتَ هذا الصباح إلى خادمي بإشارة تهديد. -لم تكن إشارة تهديد. ردَّ الموتُ؛ بل إشارة اندهاش، لأنني رأيتهُ هنا بينما كان عَليَّ أن آخذهُ هناك بسامراء، هذا المساء بالذات.» ألسنا من يعيش عالما يتكّونُ من مجموعة تناقضات وجبريات ، وعلينا، على قاعدة شروط الجبر والحتميّة إيّاهما في قصة ماركيز، أن نتعايشَ معهما بتوازنٍ يّجنبنا خسارتنا لأنفسنا. ولأننا، هنا والآن، بصدد الحديث عن قواعد )بما تعنيه من ضوابط رابطة، و محدِدِة، وشارطة، ومتحكمّة، ولازمة، إلخ( بالتجاور مع الفن )بما يشيرُ إليه من انعتاقٍ، وانطلاقٍ، وانفساحٍ، وفضاءات مفتوحة، وتَوقٍ للخروج، الخ(. الكاتب عبد العزيز بنار يجرب في حديقته «جنائن معلقة فوق خط الاستواء» هذا التجاور من خلال كتابة قصص ممكنة بإحداثيات إنسانية، تتقمص فرادة الاغتراب من زاوية الاحتجاج على ما يقع من فظاعات تتجاوز حدود التخييل، بل تفرض على التخييل أن يصبح جزءا من واجهة ثقافة جديدة تتآلف فيها الصور العبثية لهذا العالم. نجد في قصة «الجثة والجنائن المعلقة» أ الصور تنقلب ، فتغدو قساوة الإنسان صورة تشبه بها الكائنات لا العكس (لكن البحر لا قلب له...مثل كثيرين لا قلب لهم)، وتتفجر لعبة النفي الدرويشية الشهيرة في أحضان القصة (لا ذكريات لهم، لا أصدقاء، لا إخوة، لاشيء...لا مغارات...)، هذا الفراغ القاتل يحول الشيء إلى نقيضه فالزمن «غدار» و»السنوات قاسية»...وكل ما تبقى للناس استلذاذُ الموت وحفظ ذكريات عن الموتى كجنائن (معلقة)، الموت وحده عزاء ، الموت خلاص. إنه سؤال البراءة الذي طرحه لودينسكي (لماذا حشرتني ضمن الكائن البشري؟) يبدو العالم في كل النصوص أكبر من القصة «العالم يصدمك بقصصه وكتبه وكتابه وصداقاته...» إذاً فالقصص هي صدمات لأن العالم صادم ففي قصة «رقصة الحصان الأدهم» (خرج الحصان الأدهم عند الفجر، ركبه والده. عاد الحصان وحيدا. كان العالم صادما...».) العالم أصبح أكبر من أن يُحلَم به ،، أكبرَ من براءة الطفل وأغزر من دمع الأم (رأى أمه تمسح دمع عالم من لهب ورماد وحطب...قبل أن يأخذه إليه في حلم سائب. عانق وطنه.بكى.نام فوق كومة أحلام واقفا على المرتفع...)ص91. ينسج القصاص العالم بعيون الشعراء ففي قصة «جاك حرا» (هذا العالم بلا أزهار جنائن معلقة في الأساطير والروايات. والخرافات حتى...) يجرب الكاتب بكثير من الإصرار تعليق الأشياء، وتحويلها إلى جنائن (رباه جزيرة معلقة منذ زمن في قلب البحر ما تزال هناك (من قصة موكادور)، وفي قصة (الركض وراء الظلال) يموت الجد أصل-القصة ؛ لكن الموتَ يقترن في ذروة تبئير جدلية العالم الصادم والحلم المعلق، (تحسست جدتي الفراش. أيقظته. وجدته قد غادر العالم...كتم موته عنا. ترك كل شيء معلقا. كانت الصدمة). هذا المقطع القصصي يختزل ما ذهبنا إليه سابقا، تجريب الكاتب لمقولات محددة وتشكيل المحكي وفق نسق جديد يعتمد منطق مجاورة الرؤية للعالم ومحاورة رهانات الوجود الإنساني وتعليق «الجنائن»، وهنا تشكيل جديد للمتن يتجاوز الحدث ويوقف الزمن ليتأمل تشكيلات اللغة القصصية ومن خلالها يولد المعاني. يتجلى ذلك بوضوح في حضور المنولوج المسرود في الصفحة 22 (يكبر المعنى. تولد قصة بألف رأس. تنمو على البدايات قصص أخرى...لاشيء معه الآن سوى أن يتمالك نفسه. أن يترك قصصه للآخرين). إن غربة العالم عنا، أضحت حقيقة، نحن غرباء...هذا العقل الكلي يقتلنا يوميا، يحولنا إلى جثث، يشكل خطوطا وإحداثيات، تتحول فيه الهويات إلى أوراق فتنفلت الأفكار لتشكل هويات أخرى ممكنة خارج الرقابة (أوقفه الشرطي لدقائق، فتش جيوبه وتأكد من هويته... تابع خطاه دون أن يعرف الشرطي ما كان يخطر بباله)، وحدها الأفكار إذاً لها أجنحة على حد قول جدنا ابن رشد. المجموعة القصصية «جنائن معلقة فوق خط الاستواء» مثقلة برمزية تمتح من عوالم زفزاف وشكري وفلسفات شوبنهاور وهيغل ومأساة فرجينيا وولف...تحلق بعيدا عن ضوضاء المدينة فوق ما تبقى من ذكريات البوادي المنقرضة...تسافر مع الليل وتناجي القمر...وتعود لتنتج أسئلة «معلقة» حبلى بالشك والاتهام...لا تنحو إلى القصة إلا لتعبرها بالتجاور إلى قصة أخرى...متعمدة خرق حدود الحدث إلى بناء مقولي يستند إلى لعبة تجريب ما يمكن أن يولد المعنى اللانهائي للإبداع.من هنا يدرك قارئ المجموعة ضخامة المشروع الذي انتدب بنار نفسه لتحقيقه في «فضاء نصي» مطبوع بالاقتصاد والإضمار ،فضاء تتجاور فيه أقنعة الوعي وصور الآخر وشظايا الذوات وانهيارها ، وتغمرنا جدلية الاستهواء بما هي اشتباك شرس لنوايانا ومقاصدنا ومعاكسات العالم. إن قراءة هذه المجموعة الأولى تبدو طاعنة في الوعي الفني والجمالي ، ومنها تبدو القصص حاذقة في الإشارة إلى الموت ، موت النظام والمتوقع والمألوف .