ضربة جديدة للنظام الجزائري.. جمهورية بنما تعمق عزلة البوليساريو    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    السجن المحلي بالقنيطرة ينفي تدوينات يدعي أصحابها انتشار الحشرات في صفوف السجناء    وهبي يشارك في انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب    كأس إفريقيا للسيدات... المنتخب المغربي في المجموعة الأولى رفقة الكونغو والسنغال وزامبيا    الصحف الصينية تصف زيارة الرئيس الصيني للمغرب بالمحطة التاريخية    نشرة إنذارية.. طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المملكة    التعادل يحسم ديربي الدار البيضاء بين الرجاء والوداد    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    يوم دراسي حول تدبير مياه السقي وأفاق تطوير الإنتاج الحيواني    MP INDUSTRY تدشن مصنعا بطنجة    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    أمريكا تجدد الدعم للحكم الذاتي بالصحراء    بينهم من ينشطون بتطوان والفنيدق.. تفكيك خلية إرهابية بالساحل في عملية أمنية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشروط الاجتماعية للحركة الدولية للأفكار (1)
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 02 - 2011

أحبذ اليوم أن أقترح عليكم بعض الأفكار التي تريد أن تفلت من طقس الاحتفاء بالصداقة الفرنسية الألمانية، ومن الاعتبارات المفروضة حول الهوية والغيرية. أعتقد أن الشفافية في مجال الصداقة، وفي كل مجال آخر، لا تتناقض مع المحبة، بل العكس هو الصحيح. أريد إذن، محاولة طرح بعض الملاحظات حول الشروط الاجتماعية للحركة الدولية للأفكار، أو، ومن أجل استعمال معجم اقتصادي، حول ما يمكن تسميته بالاستيراد والتصدير الثقافيين. أريد أن أحاول وصف، إن لم يكن القوانين ذلك أني لم أعمل بطريقة كافية حتى أتمكن من استعمال مثل هذه اللغة الدعية فعلى الأقل، ميولات هذا التبادل الدولي التي نصفها عادة في لغة هي أقرب إلى التصوف منها إلى العقل. باختصار، سأحاول اليوم عرض برنامج من أجل علم للعلاقات الدولية في مجال الثقافة.
كان بامكاني في مرحلة أولى، أن أستحضر تاريخ العلاقات بين فرنسا وألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وبالضبط، كل العمل الذي ثم انجازه على مستوى الحقل السياسي خاصة، من أجل تشجيع التواصل والتفاهم بين البلدين. يتوجب إذن القيام بتحليل تاريخي لا يعرف المجاملة للعمل الرمزي الذي كان ضروريا من أجل تحرير، على الأقل قطاعا معينا من سكان البلدين، من هلوسات الماضي. وإضافة إلى تحليل العمل الرسمي للسلطات الرسمية في بعده الرمزي والعملي، يتوجب القيام بتحليل يأخذ بعين الاعتبار التنوع الاجتماعي للأفعال المختلفة، التي ساهمت في تغيير مواقف الفرنسيين والألمان. يمكننا مثلا، في تموقعنا على مستوى الحقل الثقافي، وصف مراحل عمل هذا التبدل الجمعي، وفي نفس الآن، فيما يخص المثقفين الفرنسيين، المصالحة، ثم الانجذاب اتجاه المعجزة الألمانية، وصولا إلى المرحلة الراهنة، المطبوعة بنوع من الاعجاب القلق، الذي تم إعلاءه إلى نوع من الأوروبيانية الإرادوية، التي يحاول عبرها الكثير من عمال الساعة الأخيرة، العثور على بديل لقوميتهم البائدة. ولكنكم تفهمون أنه ليس بامكاني الاكتفاء بمثل هذه الاعتبارات السطحية والتبسيطية في آن.
ما الذي بامكاننا فعله اليوم، إذا كنا نحمل هم تدويل الحياة الثقافية؟ نعتقد عادة أن الحياة الثقافية هي من تلقاء نفسها دولية. ليس هناك ما هو أكثر خطأ من مثل هذا الاعتقاد. إن الحياة الثقافية هي مكان، مثل كل الفضاءات الاجتماعية الأخرى، للنعرات القومية والنزعات الامبريالية، والمثقفون ينشرون، تقريبا مثل الآخرين، أحكاما مسبقة وقوالبا جاهزة، أفكارا موروثة، وتصورات تبسيطية، أولية، تتغذى على وقائع الحياة اليومية، سوء الفهم، الخلافات، الجراحات (مثلا تلك التي يمكن أن تصيب نرجسية مثقف، حين يلفي نفسه غير معروف في بلد أجنبي). كل هذا يدفعني للاعتقاد، أن تأسيس دولانية علمية حقيقية، التي هي في نظري بداية كل دولانية، لا يمكن أن تتحقق من تلقاء نفسها.
لا أعتقد بالعفوية في مجال الثقافة، ولا في أي مجال آخر. والهدف من تدخلي هو أن أوضح كيف يقود منطق «دعه يعمل» في مجال التبادلات الدولية غالبا إلى انتشار الأسوأ والحؤول دون انتشار الأفضل. إنني أستوحي في هذه المجالات، كما في في مجالات أخر، قناعة علمية لم تعد من موضة هذه الأيام، ذلك أننا أصبحنا مابعد حداثيين... هذه القناعة العلمية تدفعني للاعتقاد أن إحاطتنا بالميكانيزمات الاجتماعية، لا تعني سيطرتنا عليها، ولكنها تزيد، ولو قليلا، من فرص هذه السيطرة، خاصة إذا ما كانت هذه الميكانيزمات تقوم على الجهل. إن هناك قوة مستقلة للمعرفة، قادرة على تحطيم الجهل إلى حد ما. أقول طبعا إلى حد ما، ذلك أن «القوة الذاتية للأفكار الصحيحة» تصطدم بعقابيل ترجع إلى المصالح، الأحكام المسبقة والعواطف. هذه القناعة العلمية تدفعني للتفكير بأنه من الأهمية إعداد برنامج بحث علمي أوروبي حول العلاقات العلمية الأوروبية. وأعتقد بأنه مكان وزمان الحديث عن ذلك، بما أني أعرف، ومن خلال النصوص التي عرض علي يوسف يورت قراءتها، أن أحد اهداف هذا المركز الذي تم تدشينه اليوم، العمل على معرفة مشتركة بالبلدين وبتقاليد البلدين. وأريد أن أقدم إسهامي، بأن أقول بتواضع، كيف سأنظر إلى المشروع، وماذا سأفعل لو كلفت بمهمة قيادته.
تخضع التبادلات الدولية لنوع من العوامل البنيوية المولدة لسوء الفهم. العامل الأول: أن النصوص تنتقل في استقلال عن سياقاتها. إنها قضية يطرحها ماركس، وإن بشكل متسرع، في البيان الشيوعي.. الذي لم تجر العادة على الرجوع إليه للبحث عن نظرية للتلقي... لقد أوضح ماركس بأن المفكرين الألمان فهموا دائما، وبطريقة سيئة جدا، المفكرين الفرنسيين، لأنهم كانوا يتلقون نصوصا هي بنت ظروف سياسية على أنها نصوص خالصة، ويحولون الفاعل السياسي، الذي يمثل أساس هذه النصوص، إلى ذات مفارقة. وهكذا، فإن الكثير من أشكال سوء الفهم في العلاقات الثقافية الدولية، يرجع إلى واقع أن النصوص لا تحمل معها سياقاتها. مثلا، وهو أمر سيفاجئكم ويصدمكم، أعتقد أنه فقط منطق سوء الفهم البنيوي، هو الذي يسمح بفهم هذا الحدث المدهش؛ أن يقوم رئيس اشتراكي للجمهورية الفرنسية بالحضور إلى ألمانيا، من أجل تقديم وسام فرنسي لإرنست يونغر. مثال آخر: احتفاء بعض الماركسيين الفرنسيين بهايدغر في الخمسينيات. بإمكاني أن أقدم أمثلة معاصرة، ولكن، وبما أني أنا الآخر غالبا ما أكون متورطا في هذه الأمثلة، فلن أقوم بذلك، ذلك أنه بإمكانكم حينئذ أن تعتقدون بأني أستغل السلطة الرمزية التي منحت لي مؤقتا، من أجل تصفية حسابات مع خصوم غائبين.
وواقع أن النصوص تسافر بدون سياقها، أنها لا تحمل معها حقل الانتاج حتى أستعمل معجما خاصا بي الذي تولدت عنه، وأن المتلقين، الذين هم أيضا مندمجين بحقل إنتاج مغاير، يفسرونها من جديد، وهذه المرة في ارتباط ببنية حقل التلقي، يولد أشكالا مدهشة من سوء الفهم. طبعا، يمكن أن نستنبط من وصفي الذي أعتقده موضوعيا نتائج متفائلة أو متشائمة: مثلا، أن الشخص الذي يمثل سلطة في بلده، لا يحمل سلطته معه. القراءة الأجنبية يمكنها أن تتمتع أحيانا بحرية لا تتمتع بها القراءة القومية الخاضعة لتأثيرات من نوع رمزي، للسيطرة، أو حتى لإكراهات. وهذا ما يدفع للاعتقاد بأن حكم الأجنبي شبيه تقريبا بالحكم الذي تصدره الأجيال القادمة. وعموما، إذا كانت الأجيال القادمة تحكم على الأشياء بطريقة أفضل، فذلك راجع إلى كون المعاصرين متنافسين فيما بينهم، ولأن لهم مصالح خفية في عدم الفهم، بل وحتى في الحؤول دون الفهم. الأجانب، شأنهم في ذلك شأن الأجيال القادمة، يمتلكون في بعض الحالات نوعا من الاستقلالية فيما يتعلق بالاكراهات الاجتماعية للحقل. لكن تأثير ذلك ليس كبيرا، فغالبا ما تتجاوز سلطات المؤسسة، ما يسميه باسكال «أمجاد المؤسسة»، الحدود. فهناك أممية للنخب المثقفة تعمل بطريقة جيدة. ونظرا لذلك، فإن معنى ووظيفة مؤلف أجنبي تتحدد بحقل التلقي، على الأقل بنفس القدر الذي تتحدد فيه بالحقل الأصلي. أولا، لأن معناه ووظيفته في الحقل الأصلي يظلان غالبا مجهولين. وأيضا، لأن الانتقال من حقل قومي إلى آخر، يتحقق عبر سلسلة من العمليات الاجتماعية: عملية اختيار (ماذا نترجم؟ ماذا ننشر؟ من يترجم؟ من ينشر؟) عملية طبع (لمنتوج هو قبل كل شيء «منزوع العلامة») من طرف دار نشر، السلسلة، المترجم ومقدم الكتاب (الذي يقدم الكتاب، الذي يتملكه ويلحقه برؤيته الخاصة، وفي جميع الأحوال، بإشكالية تنتمي إلى حقل التلقي، والتي لا تقوم إلا نادرا بإعادة بناء للحقل الأصلي. أولا، لأن الأمر تكتنفه صعوبة كبيرة)؛ عملية قراءة في الأخير، فالقراء يسقطون على المؤلف مقولات للإدراك وإشكاليات هي نتاج حقل انتاج مغاير.
سوف أتطرق بسرعة لكل من هذه النقاط. يعتبر الدخول إلى حقل التلقي موضوعا أساسيا وملحا، لأسباب علمية وعملية، من أجل تعزيز وتطوير التواصل بين البلدان الأوروبية. آمل أن أتمكن من إعداد ندوة تعمل على تحليل سيرورات الاختيار: من هم هؤلاء المكلفون بالاختيار، الذين تسميهم سوسيولوجيا العلم الأمريكية بالحراس (keepers-gate)؟ من هم هؤلاء المكتشفون؟ وما هي المصالح التي تختفي خلف اكتشافهم؟ أعرف أن كلمة «مصلحة» تصدم. لكني أعتقد أن الشخص الذي يتملك، وبكل حسن نية، كاتبا ما، ويقدم له، يفعل ذلك أيضا لمصلحته الذاتية. ومعرفة هذا الأمر ضرورية لفهم ما أنجزه وما سينجزه. (أعتقد أن التفكير في الأمر بقليل من المادية لن يضير شيئا ولن يؤثر سلبا بفعل الافتتان). الذي أسميه «مصلحة»، ربما يكون نتيجة لنوع من أشكال الألفة المرتبطة بتشابه المراكز في الحقول المختلفة: ليس صدفة أن تصدر ترجمة الكاتب الاسباني الرومانسي الكبير Benet عن دار النشر Minuit. فأن أنشر ما أحب، يعني أن أقوي مركزي في الحقل، سواء أردت ذلك أم لم أرده، أدركته أم لم أدركه، وحتى لو كان نتاج ذلك لا يدخل في مجال عملي. ليس ذلك بالأمر السيء، لكن يتوجب معرفته. الاختيارات المشتركة والخالصة تتم دائما وفقا لقاعدة التشابه في المواقع داخل الحقول المختلفة، التي تنسجم مع تلاق في المصالح وتشابه في الأساليب لفرق من المثقفين أو لتشابه في المشاريع الثقافية. يمكن أن نفهم هذه التبادلات كتحالفات، وإذن، داخل منطق علاقات القوة، مثل كل سبل تعزيز موقع مسيطر عليه أو مهدد.
وإلى جانب أشكال الألفة الاختيارية التي تجمع بين «المبدعين»، والتي أنظر إليها، كما تحسون بذلك، بنوع من التسامح، هناك نوادي المعجبين، التي تبدو لي أقل شرعية، لأنها تمارس سلطة من نوع زمني داخل النظام الثقافي، وإذا شئنا، سلطة روحية. وهذا هو نفسه التعريف الذي يقدمه باسكال للاستبداد. أفكر مثلا بأممية المؤسسة، أعني، كل أنواع التبادلات التي تتم بين أصحاب المراكز الأكاديمية المهمة: فعدد كبير من الترجمات لا يمكن أن تفهم، إلا إذا وضعناها في هذه الشبكة المعقدة للتبادلات الدولية بين أصحاب المراكز الأكاديمية المسيطرة، تبادل الدعوات، وشواهد الدكتوراة الفخرية، إلخ. يجب إذن أن نتساءل عن منطق الاختيارات الذي يقف خلف استفراد دار نشر أو كاتب معين باستيراد هذا الفكر أو ذاك. لماذا طبعت تلك الدار هذا الكتاب؟ إن هناك بالطبع أرباح التملك. استيراد الأفكار الشادة هو غالبا ما يكون من فعل المهمشين في الحقل، الذين يستوردون خطابا ما، موقفا قويا في حقل آخر، من أجل تدعيم مكانتهم في حقلهم الخاص. الكتاب الأجانب هم غالبا عرضة للاستغلال. إنه يتم استعمالهم لأسباب قد يرفضونها في بلدانهم. يمكن مثلا أن نستعين بأجنبي، من أجل الحط من قدر مثقفين ينتمون لنفس الحقل الوطني. أضرب مثلا بهايدغر. الكل يتساءل هنا لماذا اهتم الفرنسيون كل هذا الاهتمام بهايدغر؟ في الواقع، إن هناك أسبابا كثيرة... لكن هناك تفسيرا يقفز إلى السطح، ذلك أن حقل مثقفي الخمسينات سيطر عليه سارتر. وكما بينت ذلك آنا بوشيتي في كتابها: سارتر والأزمنة المعاصرة، تمثلت إحدى المهمات الأساسية لعملية استيراد هايدغر في الحط من سارتر (الأساتذة كانوا يقولون «كل سارتر موجود عند هايدغر، وأكثر). فهناك من جهة بوفري الذي كان معاصرا لسارتر في مدرسة المعلمين، والذي، كأستاذ بمعهد المعلمين، حقق لنفسه قيمة شبه فلسفية باستيراد هايدغر. ومن جهة أخرى، نجد بلانشو في الحقل الأدبي. وهناك جماعة ثالثة: أصحاب مجلة Arguments، نوع من الهرطقة الماركسية الصغيرة. ولأن الماركسية تم النظر إليها غالبا كخطاب سوقي، فقد حققوا نوعا من التركيبة الأنيقة بين الماركسية وهايدغر.
وغالبا، فيما يخص الكتاب الأجانب، ليس المهم ما يقولونه ولكن ما يمكن أن نقولهم إياه. لذلك فإن بعض الكتاب خاصة ينتقلون بين الحقول بطريقة مرنة. فالنبوءات الكبيرة متعددة المعاني. وهذا التعدد إحدى مظاهر قوتها. ولهذا السبب تنتقل عبر الأماكن واللحظات والعصور والأجيال الخ... إذن فالمفكرون الذين يمتلكون مرونة كبيرة، هم أشبه بالخبز المبارك، إذا صح قولي، بالنسبة لكل تأويل إلحاقي ومن أجل الاستعمالات الاستراتيجية. وتأتي بعد الاختيار عملية الوسم، التي تنهي العمل بشكل أو بآخر. إنهم لا يعطوننا فقط Simmel(عالم اجتماع ألماني)، بل Simmel مع مقدمة أحدهم. يجب القيام بعلم اجتماع مقارن لهذا النوع من المقدمات: إنها أفعال نموذجية فيما يخص تصدير الرأسمال الرمزي، على الأقل الأفعال الأكثر تواترا. مثلا: مورياك الذي كتب مقدمة لكتاب سورلز: الأخ الأكبر يكتب مقدمة ويصدر رأسمالا رمزيا، وفي نفس الوقت يظهر قدرته كمكتشف وحام كريم للأجيال الشابة التي يعرفها والتي تتعرف على نفسها فيه. إن هناك عددا كبيرا من التبادلات التي يلعب فيها سوء النية دورا كبيرا، والتي تجعلها السوسيولوجيا الوضعية أكثر صعوبة. لكن المعنى الذي ينتقل به الرأسمال الرمزي ليس واحدا. وهكذا، واعتمادا على قاعدة الجنس المعرفي التي تريد أن يتماهى مقدم الكتاب مع صاحبه، كتب ليفي شتراوس مقدمة لكتاب ماوس «الهبة»، مقدمة يتملك من خلالها الرأسمال الرمزي لصاحب الكتاب. أترككم تفكرون بهذا الأمر. (الناس عادة ما يقرأون بطريقة درامية هذا النوع من التحليلات: أريد أن أغتنم فرص الخطاب الشفهي، لكي أبين أن الأمر لا يخلو من تسلية، وأني أتسلى فعلا بذلك جيدا...).
ونتيجة لهذه العملية، فإن النص المستورد يحصل على شكل جديد. لقد كان له في السابق غلافا معينا: إنكم تعرفون الأغلفة المختلفة لدور النشر ولسلسلاتها، وتعرفون ماذا يعني كل غلاف بالنسبة لفضاء النشر الألماني. مثلا، لو تعوضون غلاف دار النشر سوركامب بغلاف سويل، فإن معنى الاشارة المفروضة يتغير كليا. إذا كان هناك تشابه بنيوي، فإن الانتقال يمكن أن يمر بطريقة جيدة، ولكن هناك غالبا اخفاقات ترجع للصدفة أو الجهل، وغالبا لأن هؤلاء الكتاب هم عرضة لعمليات الالحاق والتملك. وفي هذه الحال، فإن فعل تغيير الغلاف هو في حد ذاته نوع من العنف الرمزي. أعطيكم مثالا جيدا على ذلك: شومسكي الذي نشرته سويل في سلسلة فلسفية. بالنسبة لي، سويل دار نشر تنتمي «لليسار الكاثوليكي»، وعموما، شخصانية. وهكذا يتم وسم شومسكي بذلك، عبر استراتيجية للإلحاق نموذجية. نشر سويل لشومسكي في بيئة يسيطر عليها ريكور، يعني أن تتم مقابلة بنيوية «بلا ذات» كما كان يقال آنذاك، بذات مولدة، خلاقة، الخ.. وهكذا، عبر عملية اقحام في سلسلة معينة واضافة مقدمة إلى الكتاب وعبر مضمون المقدمة وأيضا عبر مركز كاتب المقدمة في الفضاء الثقافي، يتم القيام بسلسلة من التحويلات، بل والتشويهات للخطاب الأصلي.
وفي الواقع، فإن الأفعال البنيوية التي تنتج بفعل الجهل كل تلك التحويلات والتشويهات المرتبطة بالاستعمالات الاستراتيجية للنصوص والكتاب، يمكن أن تتم خارج كل تدخل مهيمن. الاختلافات كبيرة جدا بين التقاليد التاريخية، سواء تعلق الأمر بالحقل الثقافي في خصوصيته أو بالحقل الاجتماعي في مجموعه، حتى أن أي اسقاط على نتاج ثقافي أجنبي لمقولات للتلقي والحكم تنتمي إلى الحقل الوطني، يمكن أن تنتج تناقضات وهمية بين أشياء متشابهة وتشابهات خاطئة بين أشياء مختلفة. ومن أجل توضيح ذلك، يتوجب القيام بتحليل مفصل لما كانت عليه العلاقات بين الفلاسفة الفرنسيين والفلاسفة الألمان منذ الستينات، وتوضيح كيف أن نيات متشابهة كليا تم التعبير عنها، وفي ارتباط بسياقات ثقافية واجتماعية مختلفة، في مواقف فلسفية متناقضة. وحتى نقول الأشياء بطريقة صادمة ولكن أيضا بطريقة أكثر وضوحا، يتوجب على المرء أن يتساءل إن لم يكن لهابرماس أن يكون أقل ابتعادا بكثير عما قاله فوكو، على ما هو عليه في الواقع، لو أنه تكون وأقرّ كفيلسوف في فرنسا الخمسينات والستينات، وفوكو أقل ابتعادا بكثير عما كانه هابرماس لو أنه تكون وأقرّ كفيلسوف في نفس السنوات بألمانيا.(معنى ذلك، أن كلاهما، رغم شعورهما بالحرية فيما يخص السياق الذي ينتمون إليه، تجمع بينهما حقيقة أنهما تأثرا إلى حد كبير بالسياق الذي ينتمون إليه لسبب أو لآخر، مثلا، نية الهيمنة لديهم، لقد جابهوا تقاليد ثقافية مرتبطة ببلدانهم، ومختلفة جذريا). مثلا، وقبل أن نستاء مثل بعض الألمان من القراءة التي قام بها بعض الفلاسفة الفرنسيين (خاصة دولوز وفوكو) لنيتشه، يجب أن نفهم الوظيفة التي قام بها نيتشه، وأي نيتشه؟ نيتشه جينالوجيا الأخلاق لدى فوكو، في حقل ثقافي تسيطر عليه وجودية ذاتية وروحانية. إن جينالوجيا الأخلاق منحتهم الكفالة الفلسفية، جعلتهم مقبولين فلسفيا بالنظر إلى هذه المناهج العلموية القديمة، الوضعية، والمتجسدة في الصورة البالية لدوركهايم، علم اجتماع المعرفة والتاريخ الاجتماعي للأفكار. وهكذا، في مجهوده من أجل بناء علم تاريخي للأسباب التاريخية ضدا على عقلانية لاتاريخية (مع فكرة الجينالوجيا والابستمي)، ساهم فوكو فيما يمكن أن يبدو في المانيا، حيث نيتشه يملك صورة مغايرة، مثل إعادة بعث للاعقل، الذي بنى هابرماس ضده (وأيضا آخرين مثل أوطو آبل) مشروعه الفلسفي. واذا كان لي أن أتدخل كثالث في هذا النقاش، فلست متأكدا بأن تناقض المواقف راديكالي إلى ذلك الحد، كما يبدو للوهلة الأولى، بين العقلانية التاريخانية التي أدافع عنها مع فكرة تاريخ اجتماعي للعقل أو للحقل العلمي كمكان للتكون التاريخي للشروط الاجتماعية لعملية انتاج العقل وعقلانية الكانطية الجديدة، التي تحاول أن تتأسس كعقل علمي معتمدة في ذلك على المكتسبات المعرفية للسانيات، كما هو الحال عند هابرماس.النسبية العقلانية والاستبداد المتنور يمكن أن يلتقيا في الدفاع عن الأنوار... ربما لأنهم يعبرون عن نفس الرأي بخصوص النظام الحالي. أبالغ لا ريب في محاولتي «لوي العصا في الاتجاه الآخر»، لكني أعتقد عموما أن الاختلافات ليس البتة ما نعتقده، هذا الاعتقاد الذي يعود إلى الرؤية المشوهة التي تمارسها، سواء على حقل الانتاج أو التلقي، حقول المثقفين الوطنية، ومقولات الإدراك والفكر التي تفرضها وتعمل على ترسيخها بالأذهان.
ومن أجل هذا السبب، فإن النقاشات التي تتم اليوم بطريقة مباشرة (والتي تمثل في حد ذاتها تقدما بالمقارنة مع المرحلة السابقة التي لم يعرف فيها المثقفون الأوروبيون طريقا إلى الحوار المباشر فيما بينهم) تظل غالبا سطحية ولاواقعية: أفعال اللبس التي تنتج عن الاختلاف البنيوي بين السياقات تقدم ينابيع لا تنضب لجدالات سيئة النية وللاتهامات المتبادلة بالنفاق التي يبرع فيها الكتاب الرديئون وغير المسؤولين مثل صناع أسطورة «فكر 68»... يكفي أن يتوفر المرء على قليل من الثقافة التاريخية من أجل معرفة الميل الطبيعي لصغار المثقفين إلى أن ينصبوا أنفسهم قضاة، أو، وحتى نكون أكثر دقة، مثل فوكييه تنفيل أو جدانوف، من اليمين أو اليسار، والذين كما رأينا ذلك مؤخرا بخصوص قضية هايدغر، يحلون منطق المحاكمة مكان منطق النقاش النقدي، المرتبط بمعرفة الأسباب الكامنة وراء الفكر النقيض.
السياسة الواقعية للعقل التي لا أتوقف عن الدفاع عنها، يجب أن تعمل على إنتاج الشروط الاجتماعية لحوار عقلاني. ويعني ذلك، العمل على تطوير الشعور والمعرفة بقوانين اشتغال مختلف الحقول الوطنية، فتشويهات النصوص تصبح أكثر احتمالا كلما ازداد الجهل بالسياق الأصلي. مشروع قد يبدو تافها ما لم ندخل في تفاصيل إنجازه. إن الأمر يتعلق بإنتاج معرفة علمية بحقول الإنتاج الوطنية وبمقولات التفكير الوطنية التي تتولد عنها وبنشر هذه المعرفة بطريقة واسعة وخصوصا من طرف الأساتذة المكلفين بتدريس اللغات والحضارات الأجنبية.
ومن أجل إعطاء فكرة على صعوبة هذا المشروع، تكفي الإشارة إلى أنها ستواجه لا غرو أول حاجز في السوسيولوجيات العفوية للاختلافات بين التقاليد الوطنية، التي ينتجها ويعيد إنتاجها «المتخصصون» أساتذة الأدب الألماني أو الروماني مثلا في المبادلات الدولية، على أساس من ألفة مسلحة بطريقة سيئة وغير مفكر بها والتي تقوم غالبا على نوع من التسامح الضاحك، هو أشبه بعنصرية لطيفة (موقف يصادفه المرء كثيرا لدى المتخصصين باليابان أو الشرق عامة).
لا يمكن للحرية فيما يتعلق بمقولات التفكير الوطنية والتي عبرها نفكر في الاختلافات بين منتوجات هذه المقولات أن تتحقق إلا عبر التفكير في هذه المقولات وتوضيحها. يعني ذلك، عبر سوسيولوجيا وعبر تاريخ اجتماعي انعكاسي ونقدي بالمعنى الكانطي للكلمة الذي سيعمل على التحكم، عن طريق تحليل اجتماعي علمي، ببنيات اللاوعي الثقافي الوطني، والكشف، بفضل عملية الاسترجاع التاريخي للتاريخين الوطنيين وخاصة لتاريخ المؤسسات التربوية ولحقول الانتاج الثقافي، عن الأسس التاريخية لمقولات التفكير وللاشكاليات التي يستعملها الفاعلون الاجتماعيون (اللاوعي هو التاريخ، يقول دوركهايم) في عمليات الانتاج أو التلقي الثقافيين.
ليس هناك ما هو أكثر إلحاحا من القيام بتاريخ مقارن لمختلف التخصصات على النمط الذي تم تحت إشراف اسحاق شيفا وأوتس ييجل بالنسبة للانثروبولوجيا. وحده تاريخ اجتماعي مقارن للعلوم الاجتماعية من شأنه أن يحررنا من نماذج التفكير الموروثة من التاريخ، باعطائنا الوسائل التي تسمح لنا بتحكم واع بالأشكال المدرسية للتصنيف، مقولات التفكير اللامفكر فيها وبالاشكاليات المفروضة. وكما نرى ذلك جيدا في حالة الأنثروبولوجيا، المقارنة تظهر كل ما كان ينظر إليه على أنه أساسي، اعتباطيا أو مرتبطا بسياق تقليد عارض: الكلمات نفسها اثنولوجيا أو Volkskunde التي تشير إلى هذا العلم، تتضمن ماض بأكلمه من التقاليد التي تجعل من هذه الكلمات المتشابهة من الناحية النظرية، تفترق عن بعضها بسبب من التاريخ المختلف للحقلين. ويعني الفهم المناسب لمواضيع ومشاريع البحث المطروحة في هذين العلمين، فهم تاريخ العلاقة التي جمعتهما بالحقل السياسي. هذا التاريخ الذي يتلخص في الاختلاف بين الكلمة الفرنسية: populaire (متحف الفنون والتقاليد الشعبية)، والكلمة الألمانية: Volk، بين تقليد يساري مرتبط بالدولة ومحصن ضد تقليد يميني مرتبط بالفلكلور والشعب على طريقة لوبلاي، وتقليد محافظ يتماهى فيه الشعب بالأمة أو بالوطن أو الجماعة الفلاحية. يعني ذلك أن يفهم المرء مركز هذا العلم في الفضاء التراتبي للعلوم: إلى جانب العلوم الوضعية التي ينظر إليها بشيء من الاحتقار في حالة فرنسا، وإلى جانب «الأدب الألماني» في حالة المانيا، ومعالجة كل الاختلافات التي تتفرع عن هذه التناقضات المبدئية.
ويعتبر النظام التعليمي واحدا من الأماكن في المجتمعات المختلفة، التي يتم فيها إنتاج وإعادة إنتاج أنظمة التفكير. إنه المقابل لتلك «الأشكال البدائية للتصنيف» التي عمل دوركهايم وماوس على جردها بالنسبة للمجتمعات التي لا تتوفر على كتابة خاصة بها أو التي لا تتوفر على مؤسسة للتعليم. وتتسق مع الاختلافات البنيوية بين اليابس والرطب، الشرق والغرب، المطبوخ والنيئ، التي تحصيها قائمة مقولات الفهم البدائية، الاختلافات بين الشرح والفهم أو بين الكم والكيف التي زرعها التاريخ الجمعي لنظام تعليمي والتاريخ الشخصي لمسار دراسي داخل فهم كل منتوج مثقف للنظام التعليمي.
أنظمة الاختلاف هذه تتضمن ثوابتا (مثل تلك الاختلافات التي ذكرتها، والتي عبر تعليم فلسفي يسيطر عليه التقليد الألماني، والتي إذا صدقنا رينجر تكونت بداخله، تسربت إلى التعليم الفرنسي)، لكنها تتضمن أيضا متغيرات وطنية. أو، ومن أجل أن نكون أكثر دقة، التقاليد المسيطرة في كلا البلدين يمكنها أن تقدم قيما معكوسة لنفس الاختلافات. أفكر مثلا بكل تلك الاختلافات الثانوية التي تتحلق بذلك الاختلاف المركزي، الذي يملك أهمية كبيرة في الفكر الأكاديمي الألماني، على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية، بين الثقافة والحضارة، والذي يخدم التمييز بين التقليد الألماني، النبيل والأصيل، والتقليد الفرنسي الفاسد والسطحي: الاختلاف إذن بين العميق (أو الجدي) واللامع (أو السطحي)، أو الاختلاف بين العمق والشكل، بين الفكر (أو الاحساس) والأسلوب أو (الروح) بين الفلسفة (أو فقه اللغة) والأدب، الخ. اختلاف يستغله التقليد المسيطر في فرنسا، ولكن هذه المرة عن طريق قلب العلامات: العمق يتحول إلى بلادة، الجدية إلى حذلقة مدرسية، والسطحية إلى وضوح فرنسي. يجب أن يكون كل هذا حاضرا في الذهن أريد أن أقول في الوعي وليس اللاوعي من أجل فهم بأن هايدغر هو Alain في النظام الآخر والعكس صحيح. في الوقت الذي تم النظر فيه إلى الأول واستعماله كنقيض ممتاز للثاني...
وفي الواقع، وعبر حيلة من حيل العقل التاريخي التي تجعل من الصعب النفاذ إلى الحرية الثقافية، فإن الاختلاف الأسطوري بين التقليدين الفرنسي والألماني، قد فرض نفسه سواء على أولئك الذين ثاروا ضده في كلا البلدين أو على أولئك الذين عملوا على استرجاعه في سذاجة لصالحهم، وأولئك الذين وجدوا فيه شكلا من الحرية بالنظر إلى الأشكال الفكرية المفروضة، عن طريق القلب البسيط لعلامة هذا الاختلاف المهيمن... هكذا كان الحال عليه في ألمانيا طيلة القرن 19، وهذا هو الحال اليوم (وإلا كيف نشرح النجاح الكبير لبعض المابعد حداثيين). بعض المثقفين الشباب التقدميين بحثوا في الفكر الفرنسي عن ترياق واق ضد كل ما يكرهونه في الفكر الألماني. في الوقت الذي يقوم فيه الشباب الفرنسي التقدمي بنفس الشيء في الاتجاه المعاكس، وهذا ما يحول دون إلتقاء بعضهم ببعض...
وفي الواقع، إذا لم يكن هناك بد من إنكار وجود قوميات عميقة، قائمة على مصالح ثقافية قومية، يبقى أن الصراعات العالمية من أجل السيطرة في الميدان الثقافي، ومن أجل فرض مبدأ السيطرة المهيمنة أريد أن أقول: من أجل فرض تعريف معين للاستعمال الشرعي للنشاط الثقافي، القائم مثلا على أولوية الثقافة والعمق والفلسفة الخ، بدلا من الحضارة، الوضوح، الأدب، الخ تجد أساسها الأكثر رسوخا في الصراعات داخل كل حقل وطني، صراعات بداخلها يتم استعمال التعريف الوطني المهيمن والتعريف الأجنبي كأسلحة وكرهانات. ونفهم أنه في مثل هذه الظروف، يصبح تبادل المواقع وسوء الفهم هما القاعدة. إن المرء ليحتاج إلى الكثير من الاستقلالية الثقافية والوضوح النظري من أجل رؤية مثلا بأن دوركهايم، في ثورته ضد النظام الثقافي السائد الذي كان يحتل برغسون قمته، كان في «نفس الجبهة» مع كاسيرر (هذا الأخير يقترب بوضوح في ملاحظة له بكتابه أسطورة الدولة «أشكاله الرمزية» من «الأشكال البدائية للتصنيف» لدى دوركهايم)، والذي طور هايدغر ضده شكلا من فلسفة الحياة البرغسونية...يمكن أن نذكر الكثير من الأمثلة عن نتائج هذا القلب التعبيري الذي في عمله على قيام تحالفات أو صراعات قائمة هي الأخرى على سوء الفهم، يمنع أو يحد من نمو المكتسبات التاريخية لمختلف التقاليد الثقافية، و يقف حجر عثرة أمام تدويل مقولات التفكير التي هي الشرط الأولي لعالمية ثقافية حقيقية.
(1) محاضرة ألقيت بمناسبة افتتاح المركز الفرنسي بجامعة فرايبورغ (ألمانيا) يوم 30 من أكتوبر 1989، وقد تم نشرها بالمجلة الرومانية لتاريخ الأدب، هايدلبرغ.
Romanische Zeitschrift für Literaturgeschichte, 14-1/2, Heidelberg, 1990, p.1-10


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.