بين لندنوالعراق، يعيش اليوم المناضل السياسي والمحامي الدكتور عثمان الرواندوزي، ولد سنة1951، وترعرع في مدينة تدعى رواندز، وهي مدينة كوردية صرفة، تقع في منطقة المثلث الحدودي بين كل من العراق وتركيا وايران. متزوج وله ولدان وبنت، بالإضافة الى عمله في المحاماة. يقوم الاستاذ الرواندوزي بالمشاركة والإشراف على بعض البحوث والرسائل للدراسات العليا كأستاذ خارجي لعدد من الدارسين في إقليم كردستان العراق. عاش عثمان الرواندوزي مجموعة من الأحداث الداخلية للعراق وإقليم كوردستان العراق. التقى بشخصيات كبيرة، تأثر وأثر في مجموعة من الأحداث التي طبعت تاريخ العراق الحديث والمعاصر. لجأ الى المنفى الاضطراري بعدة دول أوربية وعربية، إما للتحصيل العلمي أو نفيا اضطراريا حفاظا على حياته. التقى صدام حسين وجها لوجه بعد العفو الشامل وتحاور معه وحاول إبلاغه حقيقة معاناة الشعب العراقي. أسس حركته «حركة» سرية نخبوية للتأثير في مسار الأحداث بالعراق إبان سقوط نظام صدام حسين. رفض أي دعم خارجي لحركته مهما كانت طبيعته. تكهن بسقوط نظام صدام حسين بتعداده لمجموعة من المؤشرات، وترابط العديد من الأحداث يرويها لنا بكل دقة وعمق بغية إماطة اللثام عن جزء من الأحداث التاريخية والراهنة للمنطقة، جدية وعمقا جعلتنا نغوص معه في مجموعة من القضايا التي يعرفها اليوم الشرق الأوسط من جهة من أحداث، ومن جهة أخرى ما تولد عما سمي ب»الربيع العربي» وما هي التكهنات التي يمكن استلهامها من تطور الأوضاع خاصة بسوريا والمنطقة المحيطة بعد التطورات الأخيرة. o هل يمكن أن نتكلم عن شخصية عصية الفهم مثلا؟ n كان ولا يزال هناك العديد من الأشخاص الذين وصفوا صدام بمواصفات مختلفة، وسموه تسميات متباينة وفقاً لرأيهم فيه ووجهة نظرهم تجاهه طبقاً للأسباب التي أوردنا بعضها من قبل، إلا أنني شخصياً لم أقتنع بأي من تلك التسميات. فمن خلال دراستي للحالة، وجدته رجلا فيه العديد من التناقضات، فتارة عصبي وأخرى حليم، وحيناً لين وحيناً شديد، ومرة ديمقراطي وكثيرا ما دكتاتوري، وفي موقف شجاع وفي آخر غير ذلك، ويوما مع اليمين ويوما مع اليسار، ومرة صديق وفجأة يتحول الى عدو وهكذا، فضلاً عن انه في مجتمع مليء بالتناقضات وفي عالم المتناقضات، لهذا سميته رجل المتناقضات في كتابي (استجواب صدام حسين- رجل المتناقضات) الذي أنهيته عام 2000 وطبع بداية عام 2002 في لندن، وأعيد طبعه من دون علمي وإذني في إيران عام 2004 بتسميته خطأ طبعة أولى مع إجراء تغيير صورة الغلاف. أما أولئك الذين لا يزالون يتعاطفون مع ماضيه ويعتبرونه بطلا قوميا مغواراً، فاني أعتقد جازماً انهم في واقع الامر على خطأ، وإن ذلك لا يتعدى الوهم أو قلة معلومات ومعرفة أو ضعف الشخصية أو بحكم الاستفادة منه، أو لاعتبارات أخرى غير حقيقية وغير صحيحة وغير واقعية، ويطبق عليهم ما أوردناه في مقدمة هذا الموضوع من أسباب. لو نظرنا الى ما فعله صدام للعرب أو المسلمين فلا يخرج عن ذلك النطاق الذي اشرنا إليه باستثناء المشاركة البسيطة غير المؤدية الى تحقيق أي نجاح معتبر في حرب عام 1973 ضد إسرائيل، والذي بدوره لا يعود إليه وإنما الى الحكومة العراقية بشكل عام حيث لم يكن صدام آنذاك يتمتع بكل ذلك الثقل الكبير في الدولة. كما وانه لم يتمكن من إلحاق الهزيمة بالدولة الاسلامية الجارة ايران بعد الحرب التي أنهكت العراق شعبا واقتصادا وحتى اجتماعيا الى درجة كبيرة. كما ولم يتمكن من اتخاذ أي رد ضد إسرائيل عن تدمير المفاعل النووي العراقي كما ورد ذكره في السابق، وأخيراً إطلاقه عدداً من الصواريخ بعيدة المدى على إسرائيل والتي وقعت جميعها دون أي تأثير يذكر على إسرائيل، بل العكس جعلت غالبية دول العالم تذرف الدموع على إسرائيل (المسكينة) وتقدم لها مختلف الدعم المادي والمعنوي والإسناد وتزيد من عدائها لصدام والعراق والعرب والمسلمين بشكل عام. أما موقفه وقت تقديمه للمشنقة، فلم يكن غريبا لمن يعرف شيئاً عنه، فهذا هو الموقف الوحيد الباقي له في الحياة، وعليه استثماره لصالحه، لأنه كما ذكرت في إحدى كتبي، انه لم يحسن ولم يوفق فيما كان يأمل فيه ألا وهو أن يعيش من أجل ما بعد الممات، ولهذا كان يأمر بالإكثار من كتابة اسمه على أحجار البناء في القصور والقلاع والأبنية الكبيرة أو ترميم التاريخية منها كي يذكره الناس بعد مماته أو بعد سنوات وعقود من السنين، وليقال كيف استرخص روحه وأبدى الشجاعة وقت موته. ولكن هل كان من المفروض أو الضرورة بالمحتم واللزوم أن يضع نفسه وعائلته وحزبه والشعب والبلاد وغيرهم في مثل هذه المواقف، ويتسبب في كل ما جرى، وأين العقل والحكمة والمنطق من كل ذلك؟! o ألا يعتبر ذلك قاسيا نوعا ما في حقه؟ n هذه حقائق ووقائع حصلت في أيامنا هذه وليست من أحداث التاريخ لنجهلها أو نتجاهلها أو نجعل من أنفسنا كالنعامات. فصدام لم يكن كخالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو طارق بن زياد أو عبد الرحمن الداخل أو صلاح الدين الايوبي، ولا كبسمارك أو ديغول أو تيتو، ولا جيفارا أو كاسترو ولا غاندي أو مانديلا، ولا حتى كصورة مصغرة من هتلر وستالين ولا فرانكو أو موسوليني، مع الفوارق بين كل هؤلاء والظروف والحالات والأزمنة. فما فعله صدام ضد شعبه وما فعله حتى مع الغير من العرب وغير العرب من مؤامرات ودسائس واعتداءات وما فعله بالدولة العربية المسلمة الجارة الكويت وما كان ينوي القيام به فيما لو نجح وبقي، وما حصل له ولعائلته وحزبه والشعب والبلاد وما نتج عن كل ذلك، وقارننا كل ذلك بما يعتبره هؤلاء القلة الذين لا يزالون في غفلة من أمرهم ويعتبرونه بطلاً قومياً مغواراً ليجد كل إنسان عاقل سوي يحمل ضميراً إنسانياً صحيحاً وصادقاً مع نفسه ومع الغير إنه على خطأ جسيم ووهم. ولو ان رأيهم هذا واعتبارهم ذلك لا يسعف ولا يغني عن شيء، فالأصل والأساس في الصحيح والخطأ في الأعمال والتصرفات، ومدى نجاحها وتحقيقها ونتائجها الآنية والمستقبلية الخاصة والعامة، لا في الفشل والخسارة ولا في الأقوال والشعارات. فأعمال صدام ونتائجها كانت وخيمة على الجميع لا في العراق فحسب، بل وفي المنطقة وأكثر من ذلك، ولا يقاس الأمر بما جرى في العراق بعده ولا يزال، إذ أن ذلك هو أيضاً من نتائج أعماله وتصرفاته وقراراته غير الحكيمة لا بل والجنونية. ولم يتمن أحد من العراقيين أن يكون هو وأفعاله وممارساته وقراراته ومصيره ومصير عائلته والبلاد مثلما حصل ولا يزال يحصل، إلا انه هو الذي يتحمل كل هذه النتائج بالدرجة الأساسية وقد دفع الثمن غاليا. o كيف تقيّمون وضعية العراق ما بعد صدام؟ سواء بالعراق أو بكردستان العراق وأنتم من أصله؟ n إن لم نذهب في عمق التاريخ نقول إن الدولة العراقية لم تشهد الهدوء والاستقرار منذ عشرينات القرن الماضي وإلى اليوم إلا إبان فترات قصيرة متقطعة، وكانت فترة الجمهورية للأسف أكثر الفترات دموية لاسيما منذ عام 1974 وما تلى ذلك. ولكي نقيم الوضع في العراق ما بعد صدام، يقتضي الأمر العودة قليلاً إلى فترة ما قبل ذلك. فالشعب العراقي في الداخل لم يكن مهيئاً للوضع الجديد، أي ما بعد صدام، باستثناء المنطقة الكردية التي كانت خارج سيطرة ذلك النظام، فوضعها وإن لم يكن مثالياً أو حتى طبيعياً بدرجة كافية، إلا أنها كانت تختلف وأفضل من غيرها من المناطق إلى حد ما. فبسبب السياسات الخاطئة لنظام الحكم والحكم الدكتاتوري الفردي المقيت كانت الدولة العراقية متهالكة ومدمرة من كل النواحي، لاسيما النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية. أما المعارضة العراقية التي كانت في الخارج فكانت غير موحدة وضعيفة لا وزن لها بعد. بعد غزو العراق للكويت عام 1990 كان الغرب يقوم باتخاذ الاستعدادات لإخراج القوات العراقية من الكويت وتشجيع العراقيين على التخلص من نظام حكم صدام. كنت أسمع آراء بعض أهم زعماء تلك المعارضة وتصريحاتهم من خلال الاذاعات الأجنبية، فاستنتجت بأن هؤلاء غير منسجمين فيما بين بعضهم البعض وبين التجمع والتكتل الواحد نفسه، وكل منهم يميل الى جهة مختلفة، فضلا على أن الغالبية العظمى منهم كانوا قد تركوا العراق منذ سنوات طوال ولم يكونوا يعرفوا إلا القليل عن الوضع الداخلي، ولم يكن لأغلبهم ثقل جماهيري داخلي، وان تصريحاتهم سلبية أو تنم عن قلة العلم بالسياسة أو الوطنية المزيفة أو التباهي الفارغ وما الى ذلك، وكلها لا تخدم العمل المعارضي في ذلك الوقت والموقف الحساس، ولا تتفق مع ما يدعون من نواياهم إسقاط نظام حكم صدام. فواقع المعارضة العراقية كان هكذا ابتداء، واستمر الحال للأسف على نفس المنوال طيلة أكثر من عقدين من السنين بشكل عام. وكانت المؤشرات تشير الى أنهم غير قادرين على إيصال العراق الى بر الأمان، وتجلى ذلك في كثرة الخلافات والحزازات بينهم، وقلة التنسيق والتعاون لدرجة وصلت المعارضة الى حالة تقترب من التلاشي لولا صدور قانون تحرير العراق عام 1998 من قبل الكونغرس الامريكي الذي أعاد الحياة والنشاط مجدداً الى المعارضة العراقية مع استمرار التباعد والخلافات بين البعض منها. ولما اقترب موعد مؤتمرهم في ديسمبر عام 2002 في لندن، واقتنعوا بأن الأمريكان جادون في إسقاط صدام أخذ كل طرف بترتيب أوراقه للحصول على نصيبه وحصته من كعكة اسمها العراق. ومنذ ذلك الوقت قسمت العراق ارضاً وشعباً وثروات بين الأحزاب والميليشيات دون غيرهم. أما القوات الأجنبية التي دخلت يوما باسم التحرير وآخر باسم الاحتلال فلم تكن لديها أو لم تقم بوضع الخطط اللازمة والمناسبة لإدارة البلاد بعد إسقاط النظام، وقد أصاب العراقيين خيبة أمل كبيرة نتيجة الفوضى الخلاقة وسوء خطط وإدارة البلاد منذ الأيام الاولى لدخول القوات الأجنبية الى العراق وإسقاط نظام حكم صدام، ومن ثم إصدار القرارات الخاطئة والتخبط الاعمى في إدارة شؤون البلاد. o لكن بعد إسقاط النظام تسلمت تلك الفصائل تدريجيا السلطة بالعراق؟ n بعد إسقاط صدام من قبل قوات التحالف دخلت تلك الفصائل وهؤلاء الزعماء العراق واستلموا تدريجياً قيادة البلاد والعباد والمناصب العليا والدنيا والبنوك والخزائن والعقود والاستثمارات، وفعلوا ما فعلوا، وبعد عقد وشيء من السنين لم يقدموا أبسط الخدمات للمواطنين. وجيء بالجهلاء والطفيليين لإدارة شؤون البلاد ومؤسساتها المختلفة في مناصبها العليا علماً بأن عدداً قليلا منهم سبق له العمل في دوائر الدولة، وقليلي الخبرة أو عديميها في شؤون إدارة الدولة أو الوظائف. فبرغم إقامة إدارة من العراقيين بينهم بعض كبار شخصيات المعارضة السابقة والعديد من عراقيي الداخل، وتشكيل المئات من الأحزاب والمنظمات، ومن ثم إجراء الانتخابات وسن دستور دائم للبلاد وإقامة حكومات مختلفة وفق توافقات سياسية وغير سياسية بين تلك الاحزاب والكتل وتوزيع الحصص والمقاعد في الوزارات وجميع مؤسسات الدولة، إلا ان الدولة العراقية أصبحت ككعكة تتقاسمها بعض الأحزاب والكتل بعيداً عن أي روح وطنية صادقة مخلصة. فتجمعت كل هذه السلبيات في إدارة البلاد وأدت الى وضع مأساوي وإدارة فاشلة سادها الاستقطاب الطائفي والمذهبي وحالات التشنج والتطرف الأعمى والفساد الهائل في جميع مفاصل ودوائر الدولة وعلى كل المستويات، وكلما كبر المستوى كلما كبر الفساد والمفسدين سواء في المال أو الادارة أو غير ذلك. وانتشرت العصابات الاجرامية وساد الخطف والقتل والسرقات والنهب وطلبات الفدية والرشاوى والاحتيال والتزوير في كل شيء وفي كل المستويات، والتفجيرات التي أودت بحياة مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء، بالإضافة الى إذكاء الشعور الطائفي بين المذاهب المختلفة، وتفشي ظاهرة القتل على الهوية وبسبب الاسم أو حتى اللبس والهيئة وما الى ذلك، الى جانب بعض القرارات التي حرمت مثات الآلاف من الناس من الوظائف والرواتب والتقاعد وامتلاء السجون بالأبرياء وحالات التعدي بأنواعها المختلفة داخل السجون على الرجال والنساء والقتل العشوائي في الشوارع من قبل قوات التحالف أو العصابات أو الأحزاب التي تشكلت. وظهرت أعمال مقاومة للأمريكان وجماعات أخرى مقاومة للحكومة وميليشيات مسلحة تابعة للأحزاب المختلفة تتقاتل فيما بينها. وبشكل عام أصبح وسط العراق بالدرجة الأساس كالجحيم. أما وضع جنوبالعراق وبعض أقسام شبه الوسط من الجنوب فكان أفضل بكثير من ناحية الأمن والاستقرار، أما النواحي الاخرى وبالذات الاقتصادية والإصلاحات والخدمات فلم يتحقق إلا القليل القليل الذي لا يذكر لحد الآن.