تمتد إفريقيا على مساحة شاسعة وتضم مكونات سكانية - إثنية وسياسية وجغرافية متباينة في تاريخها، ولهذا، فإننا نقتصر في مداخلتها على مجال إفريقيا الغربية أو ما يسمى تاريخيا ببلاد السودان. وسيتمحور تناولنا على دخول الإسلام إلى هذه المنطقة من خلال تتبع مسار انتشاره ومختلف أنماط التدين التي ستظهر خلال الحقبة الممتدة من العصر الوسيط حتى القرن الحالي مع التركيز على نمط الإسلام الطرقي ودوره كذلك كنمط تديني في تجاوز الانتماءات الإثنية والقبلية والوطنية إلى التأسيس لهوية بديلة تعتمد على »الأخوة« في الطريقة ومرجعية جغرافية تتجاوز الحدود الوطنية الضيقة في سبيل خلق أواصر وعلاقات ما فوق وطنية transnational. ونعني ببلاد السودان المجال الذي يمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى بحيرة تشاد شرقا وشمال خط الاستواء وجنوب الصحراء الكبرى. ولقد عرف هذا المصطلح منذ القرن العاشر في كتابات الجغرافيين المسلمين والذي نجد عند البعض منهم يمتد حتى نهر النيل والبحر الأحمر. وكانوا متأثرين في هذه التسمية بالبعد الإثني أساسا أي بلون البشرة ليميزوا هذه البلاد عن سكان الصحراء وشمال إفريقيا ذات البشرة البيضاء. إن معلوماتنا عن بداية الإسلام رهينة بما توفره لنا بعض المصادر القليلة عن المنطقة، إذا كنا نتحفظ من شهادة ابن الحكم الذي يعود بنشر الإسلام إلى فترة عقبة بن ناقع فإننا لا نعتبر أن الإسلام في المنطقة لم يبدأ إلا مع الحركة المرابطية أي النصف الثاني من القرن 11. فالكتابات التاريخية السائدة عن الإسلام في غرب إفريقيا تؤرخ لبداية الإسلام بالمنطقة بالحركة المرابطة في القرن 11 م وهو ما يتعارض مع المعطيات التي وردت في العديد من المصادر والتي تتحدث عن الإسلام وتجلياته قبل المرابطين. ولعل ربط الإسلام في إفريقيا بالحركة المرابطية ناتج عن إسقاط لدور هذه الحركة في شمال إفريقيا كحركة سياسية دينية حاولت لأول مرة توحيد جزء كبير من الغرب الإسلامي تحت سلطة سياسة ودينية واحدة. وقد نذهب إلا حد أن المذهب السني المالكي الذي أرساه المرابطون في المغرب كان وراء هذا التركيز على الحركة المرابطية كبداية الأسلمة في المنطقة ككل بمحاربتها للمذاهب السابقة شيعية وخوارج وبورغواطية. وفي بلاد السودان كان الإسلام المنتشر قبل الحركة المرابطية إباضيا بالأساس. أول منطقة عرفت عملية نشر الإسلام حسب المصادر العربية هي مملكة التكرور. ونكاد لا نجد نصا عن مسار إسلام هذه المملكة سوى ما كتب البكري وهو بدوره استقى معلوماته الجغرافية والتاريخية عن طريق التجار وبعض الرحالة والإخباريين الذين زاروا أو سمعوا عن بلاد السودان. وتقع مملكة التكرور على الضفة اليسرى لنهر السنغال، واشتقت اسمها من مدينة تكرور التي توجد مقابل مجال كنفدرالية صنهاجة وبالتحديد فرع جدالة. وبداية إسلامها كان نتيجة لاحتكاكها بهذه المجموعات الصنهاجية التي كانت بدورها حديثة العهد بالإسلام وبممارسة العقيدة. ولكن الذين لعبوا دورا مهما في نشر الدعوة في هذه الصحراء. هؤلاء كانوا أكثر تشبعا وتحمسا لنشر الإسلام. وأول من اعتنق الإسلام في التكرور هو ملكها وار ديابيت المتوفى سنة 1040. هذا الملك يعد أول ملك من ملوك السودان يعتنق الدين الجديد بل ذهب إلى حد إقراره دينا للدولة ولكن هذا لا يعني أن أغلبية الرعية تركوا دين أجدادهم واعتنقوا الإسلام. وهذا ما نستنتجه من شهادة البكري عن مدينة التكرور »وأهلها سودان وكانوا على ما سار السودان عليه من المجوسية وعبادة الدكاكير والذكور عندهم الصنم، حتى ولي عليهم وارجابي بن رابيس فأسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها وحقق بصائرهم فيها وتوفي وارجابي سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة (432 ه / 1040 - 1041 م ) فأهل التكرور اليوم مسلمون« البكري. ولكن رغم كلام البكري عن كون أهل التكرور مسلمون، فإننا نؤكد أنه إلى حدود هذه الفترة بقي الإسلام دين نخبة حتى وإن اعتبرنا هذه الدولة الإسلامية وسكانها حسب البكري مسلمون. ولم يكتف ملك التكرور باعتناق الإسلام بل أنه قام بالجهاد من أجل نشره لدى جيرانه وخصوصا مدينة سلي. المملكة الثانية التي ستعرف حضورا قويا للإسلام فيها هي مملكة غانا التي تقع شرق مملكة التكرور. ولقد عرفت بدورها الإسلام قبل الحركة المرابطية، حيث كان المسلمون متواجدين في عاصمة المملكة ولهم مكانة لدى ملك البلاد 5 ت 1064 وسار على نحوه خلفه الذي اعتمد على المسلمين في إدارة شؤون حكمه. وكان يتعايش في مدينة غانا عاصمة المملكة، السكان الأصليون الوثنيون والمسلمون ولهم فيها مساجد وفقهاء يشرفون على قيام الشعائر الدينية الإسلامية ،ومدينة غانا عبارة عن مدينتين سهليتين إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون وهي مدينة كبيرة فيها إثنا عشر مسجدا أحدهايجتمعون فيه وبه الأئمة والمؤذنون والراتبون و الفقهاء وحملة علم، والمدينة الأخرى كان يقطن فيها الملك، بها كذلك مسجد يصلي فيه من يفد على الملك من المسلمين. غير أن ملوك غانا رغم تشريفهم واحترامهم واعتمادهم على المسلمين في إدارة شؤون الدولة لم يعتنقوا الإسلام. إن الحديث عن المساجد يدل على أن الإسلام الوافد أصبح منظما وله أماكن عبادة بما يفرضه تواجد هذه الأماكن من تكوين وتأهيل أطر دينية قادرة على القيام بشؤون العبادة والتدريس والقضاء والفتوى، إننا نظن أن هذه الأطر لم تكن كلها من البربر والعرب القاطنين في المنطقة أوالذين يقيمون في البلد مؤقتا إبان صفقاتهم التجارية. إدارة المسجد تفترض أن أهل المنطقة أصبحوا قائمين بهذه الشؤون وخصوصا السونونكي الدينين يمثلون أغلبية سكان غانا. كان الملك يحيط نفسه بمسلمين لإدارة شؤون المال والإدارة والدين مما كان يفرض تملك هؤلاء للغة مكتوبة والتي لم يكن يتقنها إلا المسلمون لأن اللهجات الإفريقية غير مكتوبة. إضافة أن التجار والفقهاء المسلمين اندمجوا تدريجيا في النظام السياسي وأصبحوا يلعبون دورا مهما لدى الزعماء والملوك المحليين مثل دور رجال الدين التقليديين المحليين سواء من إبداء للنصيحة أو التبرك. وكان رجال الدين المسلمون يتميزون عن رجال الدين التقليديين الوثنيين بكونهم بإمكانهم لعب دور الوسيط لأنهم خارج النسق الاجتماعي. لذا لم يلبث أن تحول المسجد إلى مكان مقدس ومحل لحل النزاعات. وهذه الوساطة لا تقتصر على الداخل بل إنهم كذلك يلعبون دور الوساطة بين الملوك والخارج خصوصا مع المجالات الإسلامية المجاورة. فممالك السودان بارتباطها بتجارة الذهب كانت منفتحة على العالم الإسلامي الذي يشكل أول زبون لبضاعتهم. ولعبت تجارة القوافل دورا بارزا وجوهريا في أسلمة وربط علاقات بين هذا الأطراف والمراكز الاسلامية. هناك عامل آخر لعب دورا مهما في التسريع بانتشار الاسلام ويكمن في تحول المجتمع الإفريقي من مجمع يعتمد على الفلاحة إلى مجتمع يعتمد على التجارة وريعها. لذا، فهنا تكتل سكاني حول المراكز المستقرة وهذه الأخرى كانت محطة للتجار المسلمين ومركز السلطة أى بعبارة أخرى بؤرة للدعوة الاسلامية. وبما أن الاسلام هو دين بالأساس مديني ومدني فالاستقرار كان فرصة سانحة لانتشاره. نجد منذ القرن التاسع الميلادي ارهاصات تغلغل الاسلام في غرب افريقيا، حيث إنه منذ هذه الفترة وصل المسلمون إلى ممالك بلادالسودان، لكن اعتناق الدين الجديد كان محصورا إن لم نقل مقتصرا على قلة من الأعيان ورجال السلطة ومن يحتل قمة الهرم الاجتماعي أما الأغلبية الساحقة من الساكنة فإنها ظلت تمارس طقوسها الوثنية. إن عملية انتشار الاسلام في هذه البقاع لم تتم بواسطة حملات عسكرية بل تمت من خلال التجار وبعض الفقهاء الذين كانوا يجوبون المنطقة وأغلبهم -ينتمون إلى الطائفة الاباضية- آتون من شمال افريقيا خصوصا المملكة الرستمية في تهارت بالجزائر حاليا. اضافة إلى هؤلاء التجار الوافدين هناك عناصر من صنهاجة والقبائل المجاورة لمجال هذه الممالك السوداء. حيث أن كنفدرالية صنهاجية كانت نشطة في تجارة القوافل ولا يستبعد أن تكون لعبت دورا مهما في الارهاصات الأولى لنشر الاسلام في بلاد السودان قبل الحركة المرابطية. ثاني ملك سوداني اعتنق الإسلام هو ملك سيلا. لا نعرف عن هذه الشخصية، سوى انه اعتنق الإسلام في الفترة التي اعتنقه فيها ملك التكرور ،وإلى جانب هذين الملكين اللذين يعدان من الأوائل اللذين اعتنقا الأسلام حسب البكري يوجد بعض الزعماء المحليين الذين اعتنقوا الاسلام. ومن أهم الأطروحات السائدة والتي فندها أحمد الشكري في كتابه الاسلام والمجتمع السوداني تلك المتعلقة بنهاية مملكة غانا على يد المرابطين. وهو يبرز أن النص الوحيد الذي ارتكز عليه الدارسون في هذه الأطروحة هو نص ابن أبي زرع الذي تحدث عن غزو أبو بكر بن عمر لعاصمة غانا. كانت من أول الدول التي اعتنقت الإسلام هي التكرور في بداية القرن 11 ولكن تبقى مالي هي الامبراطورية التي سيتميز ملوكها بإعطاء دفعة للإسلام كدين ودولة واعتبروا من أشهر ملوك الإسلام في عهدهم. ولقد شكل حج الملك منسا موسى سنة 1324 حدثا بارزا في الحوليات التاريخية الإسلامية حول المنطقة، إذ نجده محط ذكر العديد من المؤرخين العرب وبعد عودته من الحج سيجلب معه مستشارين مسلمين ساهموا في تأطير بنيات الدولة. ولقد جدد هذا التقليد أحد أسلافه على رأس دولة سنغاي الملك أسكاكا محمد توري سنة 1495 حيث سيتم تعيينه بهذه المناسبة خليفة بلاد السودان وقدم معه بدوره العديد من رجال الدين المسلمين. كان إذا لدولة مالي ، دور مهم في نشر الإسلام في مجالات واسعة من بلاد السودان، وبين إثنيات متعددة. وشكلت حقبتهم فرصة للفقهاء المسلمين والتجار للمساهمة بفعالية في نشر الإسلام وقيمه وكذلك تكوين مراكز دينية علمية تخرج منها فقهاء وعلماء محليون ولم تبق الوظائف الدينية مثل الإمامة والإفتاء والقضاء من اختصاص المسلمين الوافدين من الخارج بل أصبحت على عاتق سكان البلد الأصليين. لم يكن لانهيار آخر إمبراطورية سودانية على يد السعديين 1511 تأثير على الإسلام. فلقد تكونت إمارات ودويلات محلية واصلت بدرجة متفاوتة ترسيخ الإسلام، ومنها من كان ذا أصول مغاربية مثل دولة الرمات في تمبكتو وهنا نركز على دور الإسلام في إضفاء الشرعية السياسية ونموذج الحكم لبعض الملوك. كانت هذه الدول السودانية تتضمن مجموعات إسلامية وأخرى غير إسلامية وأغلب المجموعات الأولى اعتنقت الإسلام طواعية مع المحافظة على بعض طقوس ديانتها السابقة. وهذا يشمل أيضا الملوك، فإذا كان لاعتناقهم الإسلام وجعله دين دولة، دور كبير في أسلمة رعياهم فإنهم ظلوا يحتفظون ببعض الطقوس الوثنية في تبرير شرعيتهم السياسية وفي علاقتهم مع رعاياهم. إذا كانت الدول والإمبراطورية السودانية قد هيمنت على الساحة السياسية إلى حدود القرن 16 فإن القرن 18 و 19 شهد ولادة إمارات ودويلات كنتيجة مباشرة للحركات الجهادية. ولقد كانت هذه الدويلات متشبعة بالنموذج الإسلامي في الحكم وكان قادتها مرشدين دينيين قبل أن تتحول سلطتهم إلى سياسية ويبسطون نفوذهم على أراض وإثنيات أخرى فارضين الإسلام بحد السيف. يجب أن نلاحظ أن بعض الزعامات المحلية والأعيان اعتنقوا الإسلام في سرية خوفا من محيطهم الاجتماعي الذي يهيمن عليه رجال الدين التقليديون ولأنهم كذلك يتخذون في شرعيتهم وقوتهم علة نسق اجتماعي وديني غير إسلامي. أي تغيير في المعتقد لا يمكن أن يمر دون أن يحدث تأثيرا على طبيعة السلطة ومرجعيتها وأسس شرعيتها. إن اعتناق الإسلام من طرف بعض الملوك والأعيان السياسيين لم يكن فقط يعبر عن بحث عن ملء فراغ روحي بل كان كذلك استراتيجية للحفاظ أو تقوية سلطة أو تحالف و ضمان تأييد نخبة ترى مصلحتها في هذا التحول الجديد. وفي ظل غياب معطيات دقيقة عن حيثيات وتفاصيل سيرورة اعتناق هؤلاء الملوك والزعماء والأعيان للإسلام لا يمكننا من الذهاب بعيدا في تحليل عميق لهذه الظاهرة. لقد تعددت طرق انتشار الإسلام في إفريقيا ولكن يمكن حصرها في أربعة عوامل 1 - عملية الجهاد 2- البنيات الدولاتية 3 - الأوساط التجارية المسلمة 4 - الطرق الصوفية ومشايخها. بالنسبة للعامل الأول فقد تطرقنا له سابقا. أما فيما يتعلق بدور البنيات الدولاتية فقد عرفت بلاد السودان نشوء عدة دول وتنظيمات سياسية مركزية أو شبه مركزية تنظم مجالا ترابيا معينا تضمن اثنيات مختلفة وكان على رأس هذه الدول مجموعات محاربة بالأساس وكانت هذه المؤسسات الدولاتية تقوم بحماية مجالها الترابي وطرق التجارة وجلب الموارد الأولية والعبيد لازدهار التجارة. وفي ظل الأمان التي توفره هذه الدول نشأت مراكز حضرية عرفت وفود تجار مسلمين وطورت علاقتها مع شمال افريقيا في إطار التجارة مما ساهم في قيام تبادل ثقافي وديني بين هذا المجال الوثني والمجال المغاربي الإسلامي. وكان لدخول أمراء وملوك هذه الدول للاسلام دور مهم وحاسم في نشر الدعوة. ولم يقتصر على اعتناقهم الاسلام بل نجد من هؤلاء من قام بفريضة الحج وجهز لذلك وفودا كبيرة صحبته في مسيرة الحج التي كانت تمر من عدة بلدان إسلامية مما وطد العلاقة بين افريقيا وباقي المجال الاسلامي في المشرق. العامل الثالث (التجارة) فلقد كان للتجار المسلمين القادمين من شمال افريقيا دور مهم في بداية نشر الاسلام. وإذا كان اغلبهم قد وفد إلى منطقة السودان قصد التجارة فإن هذا لم يمنع بان يكون لتواجدهم في أراض وثنية بداية صلة وصل بين الساكنة والدين الجديد. فالتاجر بقيمه ولباسه. ومعاملته يمثل قيما غريبة على المجتمع القادم إليه. وكان لهؤلاء التجار القادمين من شمال إفريقيا دور هام في بداية نشر الإسلام. وإذا كان اغلبهم قد وفد إلى بلاد السودان قصد التجارة فإن هذا لم يمنع بأن يكون لتواجدهم في أراض وثنية بداية صلة وصل بين الساكنة والدين الجديد. فالتاجر المسلم بقيمه ولباسه ومعاملاته يمثل قيما غريبة على المجتمع المضيف. وكان لهؤلاء التجار المسلمين تأثير قوي ومباشر خصوصا بين حاشية الملك والنخبة السياسية المحلية التي كانت ترى فيهم نموذجا حضريا يجب الاقتداء به للرقي الاجتماعي والاستفادة من تجاربهم في تنظيم التجارة وتسيير بعض شؤون الدولة. إن أول موجات التجار الذين جاؤوا إلى منطقة السودان كانوا في اغلبهم من تهارت وسجلماسة أي أنهم كانوا ينتمون للمذهب الخارجي الاباضي الذي حل محله تدريجيا المذهب السني المالكي منذ الحركة المرابطية. وأهم التجار الذين كانت لهم علاقة دائمة ومستمرة مع بلاد السودان هم تجار صنهاجة وبدرجة اقل التجار القادمين من شمال افريقيا. وتدريجيا، تكونت فئة تجارية محلية ، عناصرها من رجال دين، تركوا وظيفة حمل السلاح وانكبوا على ممارسة التجارة والفلاحة. ولقد لعبت هذه الفئة دورا مهما مماثلا للتجار القادمين من شمال افريقيا في علاقتها مع الاثنيات السودانية الوثنية المجاورة في نشر الدعوة الاسلامية، ومن أشهر الاثنيات التي لعبت دورا بارزا في نشر الإسلام في ديو ومالينكي والهوسا. *الإسلام الطرقي انطلاقا من القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر ستعرف إفريقيا غرب الصحراء أنماطا من التدين الجديد تميز بظهور الطرق الصوفية خاصة القادرية والتيجانية التي تفرعت عنها عدة طرق محلية اتخذت أسماء المشايخ الذين أسسوها. إن انتشار التدين الطرقي مكن من نشر الإسلام على نطاق واسع وسط مختلف الفئات الاجتماعية وحوله من دين نخبة الى دين عامة. كما أن هذا النمط من التدين الذي تمت شخصيته في الشيخ الكارزمي صاحب الكرامات والخوارق والوسيط بين الله والعامة كان اقرب إلى أشكال التدين التي كانت سائدة حينئذ في إفريقيا. إذ انه رغم أنماط التدين التي انتشرت سلما أو بحد السيف بما فيها الديانات التوحيدية كالإسلام والمسيحية ظل الإنسان في إفريقيا محافظا على معتقداته الاحيائية وغيرها من أشكال التدين والمعتقدات فاعتناق الإسلام أو ديانة أخرى لا يعني القطع مع ممارسات ديانة السلف فهو يقوم بأقلمتها وتكيفيها مع الممارسات والمعتقدات السابقة بدون أن يشكل ذلك نوعا من التناقض بل ينجح في خلق صيرورة لها وهذا هو سر انتشار الإسلام في إفريقيا لأنه كانت له قدرة على التكيف مع الديانات السابقة له واحتوائه من طرف الساكنة المحلية فالمجتمع الإفريقي في علاقته بالدين واللامرئي يقوم بعملية تركيبة. بريكولاج حيث ينطبق عليه مفهوم بول باسكون حول المجتمع المركب. فقد يمارس الفرد بإفريقيا عدة عبادات وطقوس حسب الحاجة. إذ انه يتبرك بقبور السلف وساحر القرية ويؤدي صلاته الإسلامية وقد يذهب حتى للكنيسة يوم الأحد من أجل ان يشفى من مرض أو أن يتجاوز محنة فردية أو جماعية. فهو في تدينه بركماتي إلى حد كبير. هنا أتحدث عن العامة وليس العالم الورع. ساعد هذا العامل على انتشار التصوف الطرقي في إفريقيا في وسط فئات واسعة من الساكنة. فهذا التصوف ظل بعيدا عن تصوف العالم أو تصوف التجليات والباحثين عن الخلاص الروحي في الخلوة الصوفية. بل اقتصر عند أغلبهم على ترديد أوراد وأذكار وتقديس أولياء لسلطتهم الكاريزمية وقدراتهم الخارقة التي انتشرت عبر الكرامات، انه بشكل من الأشكال استمرار للاعتقاد في ساحر القرية وقدراته السحرية الخارقة . فهناك تداخل بين المعتقدات التقليدية والإسلام الصوفي. وتكمن قوة الإسلام في قدرته على احتواء المعتقدات السابقة له و أيضا مطاطيته في تكيفه مع ما يجده أمامه من ممارسات دينية. اقترن الإسلام الطرقي بمشايخ تلقوا الورد القادري أو التجاني من متصوفة من المغرب أو موريتانيا ونشروه بدورهم في بلدانهم متقلدين مكانة الشيخ بما يحمله من دلالات في إنتاج المعنى الديني. أصبحت إفريقيا مع الطرق بمشايخها الدينيين بعد أن ظلت لقرون مرتبطة من الناحية القيادة بمرجعيات دينية من خارج المجتمع الإفريقي. وهذه الاستقلالية ساهمت في ظهور إسلام بمميزات افريقية شعر من خلاله الأفارقة بأن لهم دين وطني يشكل جزءا من هويتهم وخاصة في مواجهة المد الاستعماري الفرنسي والبريطاني الذي لم ينجح في نشر الديانة المسيحية التي صاحبت تغلغله. بل شكل الإسلام الطرقي حينها نواهج من المقاومة الثقافية والدينية في وجه الاستعمار كجزء من هوية المجتمع الأصلية. ومن معالم التحول في نمط ونموذج الإسلام مع انتشار الطرق أن عملية الأسلمة لم تعد فعلا خارجيا بل داخليا وحتى بواسطة السيف، إذ أن رجال الدين الطرقيين حملوا سلاح الجهاد في مجتمعاتهم الأصلية لينشروا ما اعتبروه إسلاما صحيحا ومعياريا ومحاربة من يعتبرونهم منافقين وكفرة.و قاد هذه العملية الجهادية عثمان بن فودي بمنطقة هوسا (خليفة سوكوتو) في أواخر القرن 18 عشر تحت تأثير الماغلي الذي كان من أوائل من نشر القادرية قبل أن تترسخ مع سيدي المختار الكنتي انطلاقا من ازواد. وكان من المتصوفة القادريين وألف في التصوف داعيا أتباعه للدخول في »سلاسل الأولياء .ويذهب إلى حد القول أن من لا طريقة له كمن لا أب له إذ أنه قاد حركة إصلاحية تحت شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة ما كان يعتبره بدعا وكفرا داعيا لتأسيس الخلافة الإسلامية ببلاد الهوسا. وستجد الحركة الجهادية بغرب إفريقيا تجسيدها في حركة الحاج عمر الفوتي (1864/1798) التجاني الطريقة . فالحاج عمر ينحدر من فوتا وحج عام 1828 وبها التقى بشيوخ التجانية مثل الشيخ محمد الغالي بعد أن كان بدأ يتلقن الورد التجاني عن عبد الكريم أدم الناقل الذي بدوره أخذ التيجانية من موريتانيا عن مولود فال. وبعدذلك بدأ عملية الوعظ الذي سيتطور بعدها إلى فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متأثرا بحركة عثمان بن فودي الذي كان على اطلاع بها خاصة أنه كان معاصرا لمحمد بل خليفة صكت ابن عثمان فودي. والذي قاد معارك بجانبه متأثرا بنهجه الإصلاحي عن طريق الجهاد الذي قاده في منتصف القرن التاسع عشر حيث أسس دولة إسلامية، مسيطرا على ممالك أعالي النهر ومنطقة سيكو ولم يقف أمام مده إلا الحاكم الفرنسي فيدرب الذي خاض ضده حربا على الواجهة الغربية محرضا الزعامات المحلية ضده. وهو ما دفع الحاج عمر لأن يتجه شرقا صوب ماسينا حيث أقام دولته، إذ لقيت الدعوة العمرية الإصلاحية الجهادية نجاحا موحدا بذلك منطقة السنغامبيا. إن التجربة الإصلاحية التي خاضها كل من عثمان فدو وابنه والحاج عمر، تعكس التحول الذي أصبح في التجربة الإفريقية في علاقتها بالإسلام فهو لم يعد يرد من طرف دعاة من الخارج والذين كانوا في معظمهم مسالمين بل من تجربة من الداخل وبطريقة عنيفة جهادية تهدف لنشر الإسلام بالسيف وفرض تصور ونمط إيماني معين. فالمجموعات التي حاربها عمر الفوتي لم تكن كلها من »الكفار والوثنيين فمن بينهم مسلمون. فالحركات الإصلاحية خاضت حربها باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنها تمثل الإسلام خالصا من المكونات الإفريقية لإسلام مثالي عاشه هؤلاء في المشرق أو تمثلوه من خلال نموذج مثالي للإسلام. فتبنى وجهة نظر إصلاحي هو في الواقع تمثل الإسلام المشرق الذي يريد هؤلاء تطبيقه في الواقع بخلق مجتمع مسلم خال من ممارسات الماضي العقدي والديني خاصة أنهم يعتبرون مجتمعاتهم الأصلية في ممارستها التدينية دون ذلك المستوى الموجود في المجتمعات المشرقية العربية التي تظل في نظرهم هي مصدر الإسلام المعياري في تصور وتمثل لا يخلو من مركب نقص. سنختم بأشكال التدين الجديدة التي عرفت مع استقلال هذه الدول. فالإسلام خرج من فترة الاستعمار بكونه دينا يغلب عليه الطابع التصوفي التقليدي الذي تحتل فيه الزعامات الروحية دورا كارزماتيا قويا ويتداخل فيه الطابع التقليدي السلالي في توريث المكانة الدينية في المشيخات الصوفية الطرقية ناهيك عن اعتبار أن هذه الطرق كانت متحالفة مع الاستعمار ومبررة له. مع الاستقلال ستظهر فئة جديدة من رجال الدين أغلبهم تكون في المشرق وتأثر بالمد الإسلامي الوهابي خصوصا بعد أن منحت السعودية عبر مراكزها الثقافية الدينية وبنائها للمساجد ومنحها للمنح الدراسية للطلبة للعديد من الشباب الإفريقي. هؤلاء الشباب يعودون بنموذج إسلامي مخالف لما هو سائد في أغلبية مجتمعهم الأصلي ويجعل بعضهم من محاربة الإسلام الصوفي على الطريقة الوهابية هدفا لدعوته الدينية. هؤلاء الشباب الذين يصنفون في السلفيين أو السلفيين الجدد ينتمون إلى تيارات من خارج الإسلام الإفريقي التقليدي ويعتبرهم البعض غرباء عن التقاليد الدينية الإفريقية ولكنهم بحكم جاذبية خطابهم الديني وسط فئة الشباب المتعلم يستقطبون عددا كبيرا من الأنصار داخل الوسط الحضري بينما ظل العالم القروي متمسكا بالتقاليد الدينية التي يمتزج فيها الإسلام بالمعتقدات المحلية. ورغم حدة انتقادهم ضد الطرق فإن نشاطهم كان في إطار دعوي سلمي لا يتجاوز في أقصى الحالات العنف اللفظي. مع ظهور الإسلام السياسي خاصة بعد الثورة الإيرانية، بدأ التجاذب والاستقطاب من طرف السعودية وإيران مع ظهور بوادر خطاب ديني ذا نبرة معارضة سواء في جانبه السلفي - السعودي أو السياسي - الإيراني بأقل نسبة. وبدأت أول الدول الإفريقية على الواجهة الشرقية من القارة تؤسس لتوجه إسلامي على مستوى الخطاب الرسمي في السودان مع الداعية حسن الترابي إثر تحالفه مع الجيش للاستيلاء على السلطة حتى وإن ظل تأثير هذه التجربة محصورا. لكن الإسلام الإفريقي ظل عموما إسلاما مسالما ونموذجا في التعايش في نظر العديد من الباحثين والمراقبين. فهو وليد خصوصية افريقية بعيدة عن التأثيرات الخارجية ذات الخطاب المتطرف. فحتى المد السلفي الوهابي لم يكن يثير التخوف لكونه ظل منحصرا في أقلية ونخبة لم يكن لها تأثير كبير على غالبية القاعدة التي ظلت وفية لنمط من التدين التقليدي (تطغى عليه الطرق) ومتفتح على المعتقدات المحلية ومتسامح مع أوجه التحديث التي عرفتها هذه البلدان بوتيرة سريعة بعد الاستقلال، مع تشدد أقل في ما يتعلق بالحريات الفردية مقارنة مثلا مع تدين شمال إفريقيا. فهذه الحركات الطهرانية mouvement pieux، وهي حركات كانت في أغلبها دعوية تركز على الجانب الأخلاقي والوعظ والدعوة إلى الالتزام بطريقة في اللباس تعتبرها هي الإسلام الصحيح دون أن تتجاوزها إلى خطاب سياسي معارض صريح، بل إن بعض أقطاب هذه الحركات السلفية كان من مناصري الحكم القائم ويستفيد من ريعه. في الستينيات وخاصة بداية الألفية الثالثة، بدأت إفريقيا الغربية تعرف تحولا في الممارسات الدينية مع ظهور فاعل جديد متمثل في الحركات الرديكالية الآتية من شمال إفريقيا والجزائر تحديدا قبل أن تصبح منتوجا محليا مع ظهور حركات جهادية إرهابية تستقطب أتباعها من وسط النسيج الإفريقي المحلي (بوكو حرام). لقد ظهرت حركات عابرة للهويات الوطنية والحدود الدولاتية في استقطابها وأنشطتها الميدانية المسلحة والاقتصادية (للتهريب) وتمويلاتها وخاصة ولائها. فهي تبايع قيادة القاعدة أو ما يسمى الدولة الإسلامية أو غيرها من الحركات الجهادية المتطرفة. لم يعد مفهوم الأمة الإسلامية الذي كانت تنخرط فيه الهويات الجامعة لمسلمين في إطار الأمة الإسلامية هو الذي يحدد هوية هذه الحركات ولكن في إطار حركات هامشية في المجتمع الإسلامي ولكن لها قدرة على خلق الحدث بأعمالها الإرهابية. من المبالغة فيه، اختزال الأنماط الجديدة في هذه الحركات التي تنشط في أغلبها في شمال مالي وتجد امتدادا لها في النيجر وحول بحيرة تشاد، فالأغلبية الساحقة من مسلمي غرب إفريقيا يجدون نمطهم التديني في الإسلام الطرقي أو غيره من التعابير الدينية الإسلامية وأنماط التدين المنفتحة على ممارساتهم ومعتقداتهم التقليدية في الوسط القروي عموما وأيضا تلك المتسامحة مع ممارسات منفتحة على الحريات الفردية في الوسط الحضري. *مدير مركز الدراسات الصحراوية، جامعة محمد الخامس، الرباط