عندما يتعلق الأمر بتقديم تعزية في وفاة رجل من عيار المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم، فإنها تتوزع بين عدة أطراف معنية بهذه التعزية، بدءا بالأسرة والأقارب فالرفاق والأصدقاء والزملاء، ثم عامة المعارف من المواطنين وأجانب، فالمعزون (بفتح الزاي) كثر، والمعزون (بضمها) أكثر. إن فقدان مولاي عبد الله إبراهيم رزء لم يصب فقط أسرته التي غادرها عضو كان يغمرها بالعطف والحنان، ولا حزبه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي رزئ في أهم نشطائه الفكريين، بل إن رحيله خسارة للحركة الوطنية المغربية التي تفتقد برحيله واحدا من خيرة أقطابها، وللصف التقدمي الديموقراطي الذي غاب عنه رمز من أهم منظريه المرموقين، وأخيرا أن رحيل مولاي عبد الله إبراهيم غياب لعنصر كان يمثل القلة القليلة ممن اشتغلوا بالسياسة بشرف ونظافة. إذن فلتكن التعزية في وفاته موجهة للجميع، ولشرفاء السياسة ونظفائها على الخصوص. لقد فقدت المنظومة التقدمية الديموقراطية أحد المناضلين المساهمين في مجال بلورة فكرها الأصيل المتنور، والداعين إلى التقريب والتفاهم. وبفقدانه غاب عن الساحة سياسي محنك ومحاور مرن، ومؤلف واقعي متزن، هذا ما شهد به رفقاؤه وأصدقاؤه ومعارفه من مختلف التوجهات الثقافية والفكرية، سواء عبر وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة، أو بمناسبة إقامة الذكرى الأربعينية لوفاته من لدن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير بالبيضاء يوم 21 أكتوبر 2005، وكذا مبادرة اتحاد كتاب المغرب بتنظيم نفس الذكرى بالرباط يوم 26 من نفس الشهر. كانت هاتان المناسبتان فرصة للجميع لتبادل التعزية، فالراحل فقيد الكل وعزيز على الجميع. إن إقامة مثل هذه الذكرى التي التأمت فيها هيئات وأشخاص من مختلف الأطياف والتوجهات، لأكبر دليل على ما كان الفقيد يتمتع به من تقدير واحترام حيا، وما لايزال يكنه له الجميع من إجلال وتكريم بعد رحيله إلى الدار الآخرة. وإذا كانت إقامة مناسبات لتخليد ذكرى أربعينية أو خمسينية أو غيرها، تتم في نطاق ما أصبح متعارف عليه اليوم بمآتم تخصص لتكريم الشخص بعد وفاته من خلال الإشادة بخصاله وسلوكه، وبما أنجزه وهو على قيد الحياة، فإنها من حيث الهدف الحقيقي خطاب Message موجه للأحياء، ولاسيما من حضر الذكرى منهم، لأن كل واحد سيعرف مدى التقدير والاحترام اللذين سيحظى بهما إذا توفى وهو يتحلى بنفس القيم التي من أجلها قد كرم صاحب الذكرى الذي بالنسبة إليه، لا يعدو هذا التكريم أن يكون نوعا من المجاملة يقصد به مواساة أهله وأقاربه ومن رزئوا بفقدانه بصفة عامة ثم ينتهي الأمر. روي عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به» والفقيد مولاي عبد الله إبراهيم لا يعدم من يدعو له سواء من أولاده أو اصدقائه أو رفقائه، وحتى ممن لا يشاطره توجهاته. وهو في مجال النفع لا يشق له غبار كما يقال، فقد قضى حياته منذ شعر بأن هناك وطنا في حاجة إلى الانتفاع، مناضلا لا يني عن البذل والتضحية، فقيها لم يتوقف عن الجهاد بعلمه ومعرفته، مسؤولا لم يتردد في إنجاز ما اقتنع أنه لصالح شعبه وأمته، مفكر ما نضب معين فكره حتى الرمق الأخير من حياته، ومؤلفا لم يكف قلمه عن الكتابة إلا بعد أن شلت أنامله بفعل سكرة الموت، وأستاذا جامعيا مازال طلبته المنتشرين في مختلف الإدارات والمرافق يشهدون له بحسن المعاملة وبراعة التبليغ، متحدثا واعيا لم يبخل لسانه عن حلو الكلام سلاسة اللفظ إلا بعد أن شهد «أن لا إله إلا الله محمد رسول الله» ثم سكت لتنطلق الألسن والأقلام منوهة بأخلاقه النبيلة وسلوكه النظيف، ومواقفه الشجاعة الثابتة، ولتثار من جديد قضايا كان له فيها رأي، ولغيره فيها رأي آخر مختلف، والاختلاف لا يفسد للود قضية كما يقال. وبصرف النظر عن مظاهر الإجلال والتكريم التي تهيمن على المناسبات، فإن الذي يسجل بكل الاعتزاز، ويعتبر مكرمة لاتزال مما يتميز به الفاعلون السياسيون والنقابيون والمهنيون والجمعويون بصفة عامة، مهما احتدت خلافاتهم، وتباينت توجهاتهم، ألا وهي نسيان ما بينهم من نزاع، وتجاوز ما يعتور علاقاتهم من تشنج وتوتر. وهذا فعلا ما يلمسه المرء إذا حل بأحد مكروه أو وافاه أجل محتوم، على أن الأرقى مما سبق، هو احترام الرموز الوطنية وتقديرها خاصة بعد غيابها لا امتثالا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحسب، وإنما من باب الالتزام بالحقيقة أيضا. كيف لا وأغلبهم مناضلون منحدرون من صلب حركة وطنية قضوا فيها ردحا من الزمان تقاسموا التضحيات، وتآزروا في الملمات، وما منهم إلا وكان بلسما للآخر عند النكبات، وكلهم لايزال محتفظا في ذاكرته للآخرين بالمواقف البطولية ضد الاستعمار وأعوانه، وتلك شيمة لا ينعم بها إلا البررة الأخيار... فلنعد إلى الحادي عشر من شهر شتنبر 2005 تاريخ رحيل واحد من الثمانية الباقين ممن ازدانت بتوقيعاتهم عريضة الاستقلال يوم 11 يناير 1944 للوقوف على صور رائعة مؤثرة عن مظاهر التعازي والمواساة التي تلقتها عائلة المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم من مختلف الشخصيات والوفود الحزبية والنقابية والحكومية والجمعوية، الكل كان ممثلا في هذا المحفل الجليل، بما في ذلك المؤسسة الملكية ممثلة في شخص مولاي رشيد. ولنستحضر تلك الجموع الغفيرة التي هبت من كل حدب وصوب لتشييع جنازته في اليوم الموالي لنجد أنفسنا أما حشد مهيب من المودعين، بحيث إذا نظرنا إلى عينات مكونيه فقط، لا يحظى باستنفاره إلا العظام من الرجال والشهداء، وإنها لحظات نسي فيها الجميع كل شيء إلا الحديث عن الفقيد ومناقبه، عن نظافته واستقامته، عن وداعته ومروءته، وعن ثباته وصموده وسط الإعصار. ولقد تفجرت عينا أحد المشيعين وهو من رجال الإعلام المعروفين فانسابت الدموع من عينيه، وبعد أن مسحها بكلتا يديه قال «إن الرجل من المناضلين النظفاء القلائل الذين بقوا في هذا البلد وبرحيله يزداد العد العكسي لهؤلاء...» ولكم شاهدت، وسمعت ولكم قرأت من مشاهد وأحاديث وكتابات بعد رحيل المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم، كلها تمجيد للقيم النبيلة، والمواقف الثابتة... وللصمود وسط الإعصار... لقد اختار المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم أن يحيا حياة نظيفة رغم ما فيها من نكد، وأبى أن ينغمس في ملذات العيش رغم ما يعمها من رغد، وفضل أن يظل مثالا للصمود، رغم ما عاناه من نكران وجحود، وانحاز لرفقة الكادحين على ما فيها من عناء، ورفض خدمة أولي الجاه والنفوذ بما له فيها من نعيم وثراء، وانخرط في مسيرة المناضلين من أجل الحق والحرية وما خشي ما يلحقه من عنت وبلاء، وولى ظهره لكل ما في الحياة من لذيذ المتعة وبريق الإغراء، واقتحم مسالك المعاناة ومفاوز الرمضاء، فلا غرابة في ذلك ولا عجب، ما دام الرجل من أبطال المواقف الثابتة... ومؤلف صمود وسط الإعصار... إذا كان لكل حديث ختام، فمسك الختام لحديثي عن المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم هو ما يلي: إن تكريم أمثال هذا الفقيد هو التعامل معهم من حيث ما هم وليس باعتبار من هم، هذا بالنسبة للأحياء، أما الراحلون فأفضل تكريم يخصون به هو الوفاء للأهداف التي ظلوا يناضلون من أجل تحقيقها والتحلي بالقيم التي يشاد بها عند الاحتفاء بذكراهم، أما بالنسبة لمن فقدتهم الأحزاب التقدمية الديموقراطية ومنهم مولاي عبد الله إبراهيم، فإن أغلى ما كانوا يطمحون لإنجازه في حياتهم هو وحدة هذه الأحزاب، لأنهم كانوا على يقين ومعهم كثير من المناضلين ممن لا يزالون أحياء يرزقون، بأن كل صلاح حقيقي لا يمكن إنجازه إلا إذا انطلق من توحيد الأحزاب التقدمية الديموقراطية، وما هذا بيسير مادامت ظاهرة التشرذم والتعدد غير المبررة طاغية على هذه الأحزاب، وهذه الظاهرة لن يسهل التغلب عليها إلا إذا اقتنع نشطاء هذه الأحزاب بالقولة الشهيرة «لأن أكون جنديا عاديا في جيش كبير وقوي، أفضل من أن أكون ماريشالا في جيش صغير وضعيف».