حزب الاستقلال ومشاورات «إيكس ليبان» كان زعماء حزب الاستقلال حائرين في أمرهم, منهم من كان يعارض المشاركة في تلك المسخرة السياسية، التي لن تفيد في شيء، بينما كان آخرون، تكتيكيا، مع المشاركة. وفيما يلي عرض للطريقة التي حلل بها الوضع. - قرار مقاطعة المؤتمر، مقاطعة كلية، كان يبدو قرارا ينطوي على عدة نتائج سياسية خطيرة, فلجنة التنسيق لشمال افريقيا كانت مدعوة للمشاركة في المؤتمر للتدليل على عجز بن عرفة في تكوين حكومة مغربية »تمثيلية« وفي حال امت نعنا عن المشاركة، سنترك المكان شاغرا لمؤامرات الخصوم، بل للوطنيين، الذين يقال إنهم معتدلون، المجبرون، الى حد ما، على القبول »برجل ثالث«, وفضلا عن هذا وذلك، كنا نخشى أن رجلا، مثل البكاي، الذي كان معزولا عنا، ينتهي به الأمر إلى الاقتناع بإجراء تكوين حكومة مغربية، باتفاق مع لجنة الخمسة. لم يكن الأمر إلا احتمالا، لكن كان ضروريا استحضاره. من جهة أخرى، كنا نعلم أن السيد »غرانفال»، المستقيل قبل مدة، لم يكن ليقبل حلا يستثنى منه, بل كان من الوارد جدا استبداله بمقيم عام جديد. فماذا لو تم تعيين الجنرال »كوينغ« في هذه المهمة كما كان يأمل الجنرال »لوكونت« و»الوجود الفرنسي« والمتشددون الآخرون، مؤيدو الإبقاء على الوضع كما هو وخصوم حزب الاستقلال ... - كانت الايجابيات السياسية والتكتيكية للمشاركة في المؤتمر تتبدى من خلال السلبيات المترتبة عن الامتناع, بيد أن المشاركة كانت تستوجب بعض الشروط المحددة وضرورة الإعلان عنها. فحضورنا في [إيكس ليبان]« كان من شأنه أن يدفع بعض الأعيان والوطنيين، الذين ينعتون بالمعتدلين، الى الانحياز الى موقفنا، أو على الأقل، إلى قضية العرش, هكذا سيمكننا أن نقطع الطريق أمام أولئك الذين قد يغويهم حل »الرجل الثالث«. من جهة أخرى، ستتيح المشاركة لحزب الاستقلال إمكانية أن يستقبل، لأول مرة ورسميا، من قبل أعضاء الحكومة الفرنسية لاسيما أن الحزب حينها كان يعتبر متطرفا. وعلى ذلك الأساس، سنصبح، في عيون الرأي العام الفرنسي والدولي، منخرطين في مسلسل سياسي ما فتئ التوصل الى حله يصير أمرا مستعجلا, ثم إننا كنا نعتبر أن دور الحزب، الذي داوم على الكفاح منذ 11 عاما خلت من أجل الاستقلال الوطني كان هو استغلال كل فرصة سانحة لغاية اسماع صوته والسعي الى إقناع الآخرين وجميع الأوساط السياسية، بما فيها الأكثر ترددا، بقضيتنا لهذا كان الرهان كبيرا . أما السلببة الكبرى لقرار المشاركة فكانت هي أن نبدو كما لو أننا نزكي تمثيلية جميع المجموعات والتنظيمات المدعوة الى ذلك المؤتمر. كنا واعين بمؤامرات الحكام الفرنسيين التي تتخلص في أنه إلى جانبنا، نحن المتطرفون كما كنا نوصف، سيجلس المعتدلون والأعيان، الأوفياء للمخزن، ما عني أن هؤلاء هم الشخصيات الحاملة أكثر من غيرها ل »الضمانات« بالنسبة للمتحاورين الفرنسيين, كنا نخشى أن نجد أنفسنا متورطين داخل عالم من الآراء المختلفة حول قضية العرش كما حول المشكل السياسي المشكل لخلفية القضية. لهذا صرحنا، علنا، يوم 21 غشت 1955 في إطار الحفاظ على مشاركتنا، بأن حزب الاستقلال يقبل أن يجلس على مائد تتحلق حولها شخصيات ليست لها أي تمثيلية, أبلغنا موقفنا الى المسؤولين الفرنسيين في الرباط وفي باريس. هكذا، إذن، كنا مستعدين لقبول دعوة لجنة الخمسة شرط أن تقبل هذه الأخيرة استقبال وفدنا دون حضور المدعوين الآخرين، هؤلاء باستثناء سي البكاي، لم تكن لهم أي صلاحية للتكلم باسم الشعب المغربي وباسم ملكه المنفي. قبل ذلك كان أصدقاؤنا في اللجنة المغربية بالقاهرة، ودون الاتصال بنا، أعلنوا موقفا رافضا بشكل قاطع لمشاركتنا في المؤتمر. وجاء في برقية طويلة بعث بها إلي، بباريس، محمد الخيدر، باسم اللجنة أن أي مشاركة ستعتبر »خيانة»« لقضية الشعوب المغاربية المكافحة لأجل الحصول على استقلالها. في هذا الإطار، كان حزب الدستور الجديد التونسي موضوع تنديد شديد لقبوله مفاوضات انفرداية مع الفرنسيين, لهذا كان واضحا أنه بعد انتفاضة الفاتح من نونبر 1954، سكنت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بهاجس فكرة أن تبقى وحيدة، عزلاء، في ساحة الكفاح المسلح ضد الجيش الفرنسي, حيث كانت تعتبر أن الحرب الشاملة لمجموع شمال افريقيا، كانت هي الوسيلة الوحيدة لارغام النظام الاستعماري على قبوله التفاوض على قاعدة استقلال البلدان الثلاثة المغاربية. غير أن الأحداث ستبين، بعد سنوات، أن استقلال المغرب، بالذات، ثم تونس كان له دور إيجابي من حيث إنه أعطى للجبهة مزيدا من القوة والفعالية، منحتاها ثقة الجزائر فيها وتوفرت لها، على إثر ذلك، قواعد للتدريب ودعم مادي ودبلوماسي لم يتخلف، أبدا، عن تدعيم التضامن المغاربي موازاة مع ذلك، أعلن علال الفاسي، العضو في لجنة القاهرة، والرئيس الشرفي للمجلس الوطني للمقاومة الذي كان مقره في تطوان، موقفا يرفض مشاركة حزبنا في مؤتمر »إيكس ليبان«، كان طبيعيا أن يعلن علال الفاسي تضامنه مع الجزائريين باعتباره كان يشعر بأنه أبعد عن الاتصالات السياسية, وهو ما نشأ عليه سوء تفاهم مأساوي كان وراءه، بالأساس غياب التواصل بين الزعماء في الداخل والآخرون في الخارج. من جهتهم، كان مناضلو الحزب قلقين بشأن هذا الموقف الأحادي الجانب، الذي كان يتعارض مع تصريح الزعيم علال الفاسي لصحيفة »فرانس سوار« والذي يفهم منه أنه يتفق مع موقف »غرانفال« الذي يميل الي إنهاْء نظام الحكم المباشر، والدعوة إلى تكوين حكومة مغربية في إطار معاهدة الحماية نفسه؟ كيف إذن السبيل إلى التقريب بين الموقفين، اللذين اتخذا في زمنين غير متباعدين الواحد عن الآخر، بل إنهما محيرين من حيث طبيعة كل واحد منهما, إذ كان الواحد منهما على جانب كبير من »الاعتدال« والآخر كان »صلبا«. موازاة مع ذلك، جاء تدخل المخابرات المصرية، الذي كان سريا، لكنه ممنهجا، ليزيد من خطورة الوضع, حدث هذا في سياق كان فيه الرئيس جمال عبد الناصر قد قرر، قبل شهور، أن يمنح دعمه للمقاومة الجزائرية والمغربية معا, حيث كانت الأسلحة المصرية قد سلمت لابن بلة وشدت طريقها نحو ميناء الناضور في المغرب. في السياق ذاته، تم تعيين كولونيل مصري، عبد المجيد النجار، كملحق عسكري في مدريد, إلا أن مهمته الأساس كانت هي أن يظل على اتصال دائم مع زعماء الانتفاضات الجماهيرية المغاربية والجزائرية وتوجيههم وتقديم »النصيحة« لهم. معروف أن النظام العسكري، الذي وصل الى الحكم بعد إبعاد الملك فاروق، لم يكن له أي مذهب واضح في البداية, بحيث لم تظهر فلسفة الثورة، التي وضحت الأسس الإيديولوجية للناصرية، إلا بعد مرور سنوات, بيد أنه منذ الأيام الأولى للنظام الجديد، لم يخف عبد الناصر ورفاقه حذرهم، بل عداءهم حتى، اتجاه الأحزاب السياسية المصرية, إذ عوتبت على كونها لم تكن فعالة وأنها استغلت سذاجة الجماهير الشعبية وعلى خضوعها لنظام فاروق الفاسد. وقد شمل العتاب واللوم حزب الوفد بدوره. والتالي كان الاتهام موجها الي جميع الساسة مهما كان ماضيهم. في نظر الناصريين، »العسكريون« الثوريون هم و حدهم القادرون على تجسيد التطلعات الشعبية على أرض الواقع وقيادة الكفاح لتحقيق الوحدة العربية. لم يعد ذلك التصور يعني مصدر وحدها، بل طال مجموع البلدان العربية، بما فيها بلدان المغرب العربي، فقد شمل التنديد جميع الزعماء السياسيين ووجهت إليهم أصابع الاتهام لأنهم اعتبروا مستعدين لقبول أي صيغة تفاهم مع الإمبريالية على حساب التطلعات الثورية للشعوب التي كانوا يتكلمون باسمها. اتهم بورقيبة بخيانة القضية العربية والتونسية لأنه فاوض واتفق مع الفرنسيين على الاستقلال الداخلي كمرحلة أولى في الطريق الى الحصول على السيادة التونسية والانعتاق من الرقبة الاستعمارية, و على خلفية هذا الاتهام، تحول ر فيقه صلاح بن يوسف، بعد أن صار راديكاليا في مواقفه، إلى »زعيم ثوري« في عيون الناس. وهنا، نسي أولئك الذين أطلقوا عليه هذا اللقب، بكل بساطة، أن هذا الأمين العام الأسبق لحزب الدستور الجديد سبق أن حاول في العام 1952، التفاوض من أجل الحصول من الحماية الفرنسية على نظام كانت خطوطه الأساسية تقل بكثير عما جاء في صيغة الاستقلال الداخلي، لكن دون جدوى. لماذا سقطت حكومة عبد الله ابراهيم؟ في العشرين من ماي، تم إعفاء الحكومة التي يرأسها عبد الله ابراهيم بدون مبرر مقبول? وكان التفسير الوحيد المقدم لذلك الاعفاء هو أن هذه الحكومة طال بقاؤها أكثر مما كان قد قدَّره خصومها سلفا? وكان الفريق الحكومي، الملغم من الداخل بوزراء متواطئين مع المعارضة، من قبيل يوسف بلعباس، قد استطاع البقاء بالرغم من العديد من التقلبات والحيثيات والظروف ودام بقاؤه ازيد من 15 شهرا? وهو ما يعد رقما قياسيا بالمقارنة مع الفرق السابقة له منذ 1956? فقد هاجت البرجوازية المنتسبة الى الاستقلال وثارت ثائرتها ضد الاجراءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض? كما هاجت برجوازية أخرى، برجوازية الفلاحين الكبار، على غرار الاتحاد المغربي للفلاحة، الحليفة بدورها للاستقلال أو لتيارات أخرى غيره، ذلك لأن أهدافها كانت تتمثل في امتلاكها، بأي وسيلة من الوسائل ، لأفضل الضيعات التي بحوزة المعمرين الأجانب. فتم تقديم الاصلاح الزراعي ، الذي تبناه المخطط الخماسي 1960-1965 ، بالرغم من اعتداله ودقته، كما لو أنه عمل يحول الفلاحة المغربية الى نموذج سوفياتي(أو سفيتتها) بما يعني ذلك من كولخوزات وسوفخوزات. وكانت هذه البرجوازية أوتلك، مسخرة ومستخدمة من طرف الشركات الرأسمالية الفرنسية بطريقة واضحة للعيان? فكانت صحافة الاستقلال، صحافة البرجوازية الحضرية أوالقروية لا تني، أحيانا بدون تمييز تردد على طول اعمدتها نفس الحجج ونفس الانتقادات التي تبلورها الصحافة الفرنسية خدمة للمصالح الرأسمالية الاجنبية. وخلاصة القول في ذلك أن البلاد متجهة نحو الكارثة والمغرب يسير نحو إقرار نظام قريب من الشيوعية بهذا القدر أو ذاك،متنكرا بذلك لتقاليده الدينية والثقافية. و حزب الاستقلال، الذي لم يكن قد بلور لنفسه مذهبا بعدُ (اذ كان عليه انتظار 11 يناير 1962 لفعل ذلك) كان هو رأس الحربة في عملية النسف هاته. أما الحركة المسماة بالشعبية، فلم تكن أكثر من خليط من الاعيان، بلا انسجام ولا ايديولوجية، تدعي أنها تتحدث باسم العالم القروي. حتى المسكين البكاي نفسه، الذي كنت شخصيا أحترم فيه نوعا من النزاهة، انجر الى الدخول في جمهرة الصارخين. وأخيرا، قامت صحيفة»لي فار»، الذي كان مديرها الظاهر هو رضى اكديرة ،بتنظيم كل هذا وتنسيقه، ذلك لأنها في الواقع كانت تدار من طرف «مساعدين» تقنيين فرنسيين متخصصين في السجال والتدليس والتشهير. لم يكن ولي العهد، مولاي الحسن بدوره يتردد في استعمال السلطة المرتبطة باسمه وبمكانته للعمل بشكل مباشر ضد الحكومة الشرعية التي نصبها والده نفسه. فقد صرح أزيد من مرة أنه أول معارض. وكان تصرفه تصرفا سياسويا ، بدون تحفظ. ولا أعتقد أنني أبالغ اذا ما ذكرت بأنني كنت، ومساعدي هدفا لكل هذه المعارضات، و العدو اللدود الذي يجب القضاء عليه. وتكفي قراءة صحافة تلك الفترة، ابتداء من 1956 والى حدود ماي 1960 للتأكد من ذلك. ويحق علي أن اشير الى الموقف الموضوعي والرصين لمحمد الخامس طوال هذه الفترة? فغالبا ما كانت الفرصة تسنح لي لكي أطلب تحكيمه، بل كانت هناك مجالس للوزراء يرأسها هو تطرح فيها القضايا الخلافية? وبعد توضيح من هذا الطرف وذاك ، يحسم الملك لصالح وجهة النظر التي كنت أدافع عنها، بل ويكون ولي العهد نفسه حاضرا? لا شك أن حصيلة العمل الحكومي ، طوال الفترة ما بين 1959-1956 مازال مطروحا إنجازها، والانكباب عليها ، لمصلحة و لفائدة التاريخ المعاصر لبلادنا? بيد أن، معالم الاستقلال الاقتصادي للمغرب كان قد تم وضعها في ماي 1960 ، أو كان يتعين استكمالها وتطويرها على ضوء العبر المستخلصة من التجربة.