في رواية (يا دمشق وداعا فسيفساء التمرد) تتابع الروائية السورية الشهيرة غادة السمان معاركها الأدبية والفكرية من أجل هدف اختصرته بحرف (الحاء) ليشمل عالما سعت إلى تحقيقه يقوم على عمودي وجود هما (الحرية) و(الحب). والحرية هنا لا تقتصر على مجرد ممارسة الحق السياسي بأشكاله المختلفة بل تتجاوز ذلك إلى وجوه اجتماعية متعددة تجعل الإنسان شبه مستعبد فيها باسم السلطة الذكورية وباسم التقاليد الاجتماعية والمفاهيم التي يسميها البعض دينية. والحرية هنا لا تنفصل عن (حاء) أخرى بل عن اثنتين هما "الحق" في "الحب". والحق في الحب لا يقتصر على حق الإنسان في أن يحب ويكون محبوبا وأن يختار توأم روحه ورفيق عمره بل يشمل هنا الإيجاب والسلب. أن تختار من تريده رفيقا للطريق وأن يكون لك الحق أن تقول له وداعا فقد انتهت القصة إذا اكتشفت أن توقعاتك وأحلامك لم تكن في موضعها. أما زين الخيال بطلة غادة السمان فقد واجهت المجتمع الذي كان ضاريا معها في حالتي الإيجاب والسلب. لقد اختارت من تحب وتزوجته متحدية غضب مجتمعها ثم أثارت غضب هذا المجتمع عندما أخذت بزمام المبادرة ومارست حريتها معلنة أنها تريد أن تطلق هذا الذي أحببته في البداية وما لبثت أن اكتشفت أنه تحول إلى شبه جلاد لها وإلى زير نساء وإلى متحكم ذكوري يعيش بعقلية قرون مضت. ولا يمكن للحرية الاجتماعية أو للظلم الاجتماعي هنا -خاصة عندما تكون الأنثى أديبة كاتبة- من أن يتقاطع مع الاستبداد السياسي أو مع قمع بوليسي يفرضه متحكم برقاب الناس. كان أمام زين الخيال خياران الأول هو أن تدفع الثمن غاليا من أنوثتها وكرامتها أو أن تختار المنفى إذا كانت حسنة الحظ إلى درجة أن يتاح لها الهرب إليه. إنها هنا رمز التحدي ونشر "جراثيم" التمرد والحرية بين النساء ولذا فقد تخلى عنها الجميع إلا أقلية محبة مناضلة. ومن هنا فقد انتهت بعيدة عن دمشق ستينات القرن العشرين.. دمشق التي تعشقها لكنها كانت على رغم الغصة تحب منفاها أي لبنان بحرياته وازدهاره الثقافي في تلك الحقبة. وعندما جاء والدها الذي كان صديقها وداعمها الرئيسي لزيارتها في لبنان وتوفي بنوبة قلبية وصفت بطريقة مؤثرة وداعها الأخير له عند الحدود اللبنانية السورية ليلا وكيف راقبت وسط دموعها الأضواء الخلفية لسيارة دفن الموتى تبتعد به وسط الظلام وقد حالت بينها وبين اللحاق بالموكب ما أسمته أسوار دمشق اللامرئية. ودعت موكب الوالد وهي تقول "اقرع الأسوار اللامرئية لدمشق تحت المطر وأنا أنتحب تمردي وأصرخ بوطني: أنت علمتني رفض الذل على طول تاريخك مع الفاتحين فلماذا تريد أن تذلني الآن ... أريد أن أغادرك حين أشاء وأعود إليك حين يحلو لي." غادة السمان روائية وشاعرة في ما تكتبه وتتمتع بقدرة غير عادية على تحويل كل ما تتناوله من يوميات الحياة أو شؤونها العميقة إلى سرد قصصي مشوق جذاب يشد القارىء إليه بقوة. وهي قادرة على أن تحمل القارىء معها وتنفذ من به من الشأن العادي إلى العميق الإنساني. رواية غادة السمان هذه هي تكملة أو استمرار لأجواء ما أسمته "الرواية المستحيلة" وجاءت في 204 صفحات كبيرة القطع وصدرت عن منشورات غادة السمان دون ذكر مكان الصدور. لغادة السمان التي تعيش خارج سوريا ما يزيد على أربعين عملا بين روايات وقصص وغيرها. في الإهداء الذي حمل عنوان (رسالة حب متنكرة في إهداء) تعبر غادة السمان عن حبها لدمشق مستحضرة ما يروى من قول الخليفة هارون الرشيد لسحابة عابرة "امطري حيث شئت فخراجك عندي". قالت "أهدي هذه الرواية إلى مدينتي الأم دمشق .. التي غادرتها ولم تغادرني. يوم رحيلي صرخت في وجهي: "امطري حيث شئت فخراجك عندي" وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يوما واسمه: الحرية..الحرية .. الحرية.." الرواية ليست سيرة حياة أدبية لغادة السمان لكن فيها الكثير من المشابه لسيرة حياتها.