في فاتح فبراير 1979، حينما كان شيخ وقور ناهز الخامسة و السبعين من العمر يهبط سلم الطائرة في مطار مهرأباد بطهران، كانت مرحلة من تاريخ إيران قد شرعت في التبدد و الاندثار فيما طفقت حقبة جديدة في تاريخ البلاد و في تاريخ العالم الإسلامي و العالم أجمع، تخُط أولى صفحاتها. فلأول مرة ? منذ الدولة الصفوية في القرن السادس عشر? سيعلن عن قيام دولة شيعية إمامية مبنية على المذهب الإثناعشري. و ابتداء من ذلك التاريخ تغيرت المعطيات الجيوسياسية بالمنطقة، و شرعت الدولة الجديدة في استخدام و تصدير سلاحها المذهبي، عبر العالم، في البداية إلى المناطق القريبة التي تحتضن شيعة إثناعشرية و بعدها إلى المناطق الشيعية حيثما وُجدت ثم إلى العالم الإسلامي كاملا و أخيرا إلى العالم أجمع و أينما وجد المسلمون. في هذه السلسلة من المقالات، نتابع الكيفية التي تقوم بها إيران بنشر التشيع، و المذهب الإثنا عشري تحديدا، عبر العالم خدمة لمصالحها السياسية كدولة صاعدة ترنو إلى الهيمنة على محيطها القريب و السيطرة على دُوله، و ذلك من خلال التمكن من عقول مُواطني هذه الدول. و من أجل فهم أفضل، لا بد من وضع الشيعة و أصولها الفكرية و فرقها المختلفة في سياقها التاريخي القديم و الحديث، و هو الأمر الذي من شأنه أن يسهل فهم توزيعها الجغرافي الراهن و بالتالي استيعاب مخطط الجمهورية الإسلامية الإيرانية و وضعه في سياق الصراع الدولي الجاري. و كما شكل مقتل الحسين علامة فارقة في تطور الفكر الشيعي و تبلوُره غبر الزمن ، فقد أثر أيضا في تطور و تناسل الفرق الشيعية بعده. و في هذا السياق فإن فرقة من أصحابه قد حارت و اختلفت بعد مقتله حول أي الموقفين من بني أمية أصح ، موقف الحسن المُهادن و المُوادع لمعاوية رغم كثرة أنصاره و قوة سلاحه أو موقف الحسين الثائر و المقاتل ليزيد رغم قلة أصحابه و ضعف سلاحهم أمام جيش يزيد. فإن كان ما فعله الحسين في مُقاتلته ليزيد حتى قُتل و قُتل أولاده و أصحابه "حقا واجبا صوابا" ، فإن نكوص الحسن و قعوده و مهادنته لمعاوية و معه الكثير من الرجال و السلاح يُعد "باطلا" و العكس بالعكس. فتفرقوا إلى فرقتين إحداهما قالت بإمامة محمد بن الحنفية باعتباره الأقرب إلى علي بن أبي طالب بعد مقتل كل من الحسن و الحسين، و الأخرى غالت أكثر فقالت أن محمدا بن الحنفية هو "وصي علي بن أبي طالب عليه السلام ليس لأحد من أهل بيته أن يُخالفه و لا يخرج عن إمامته و لا يُشهر سيفه إلا بإذنه " و بالتالي فإن الحسن و الحسين إنما فعلا ما فعلا ، رغم تناقض موقفيهما، بإذن من محمد بن الحنفية، و أن هذا الأخير استعمل المختار بن أبي عبيد على العراقين بعد قتل الحسين وأمره بالمطالبة بدم الحسين والانتقام من قتلته وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا وسماه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمون المختارية ويُدعون "الكيسانية"، و قد تفرقت الكيسانية إلى فرق كثيرة منها من اعتقد بانتقال الإمامة من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن العباس و منه إلى ابراهيم و من ابراهيم إلى أبي العباس و من أبي العباس إلى أبي جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية. و هذه الفرق كلها منها من اندثر و تبدد و منها من انكفأ و لم يعد له وجود إلا في بطون الكتب. و لنعد الآن إلى فرع آخر من فروع الشيعة، فبعد مصرع الحسين و انتشار الاضطهاد و سيادة البطش بكُل من يذكر واقعة كربلاء أو يُثير مظلومية الحسين، ظهر علي زين العابدين بن الحسين، و كان في الثانية و العشرين من عمره حين مقتل والده بكربلاء إلا أنه كان مريضا إذاك فلم يشارك في القتال (منعته عمته زينب من الإعدام من طرف قائد جيش الأمويين ابن زياد) . و اشتهر بورعه و زُهده و بُعده عن السياسة و خُدعها. و كان من أبناء زين العابدين فقيهان ورعان هما محمد الباقر و زيد، و لم يُسجل عليهما أي اختلاف أو تمايز عن باقي فقهاء السنة، باستثناء زيد بن علي زين العابدين الذي كان يرى أن عليا بن أبي طالب كان أولى بالخلافة من أبي بكر الصديق و عمر و عثمان إلا أنه لم ينتقص من الخلفاء الثلاثة الأوائل رغم أنه يرى أن عليا أفضل منهم، و قد ابتكر نظرية أو "تخريجة" تُخلصه من التناقض الظاهري في موقفه هذا، و هي نظرية "جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل". و قد كرر زيد بن زين العابدين تجربة جده الحسين فثار على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إلى أن قُتل سنة 122 هجرية. فقام أتباعه بتأسيس المذهب المُستند على أفكاره و نأوا بأنفسهم و مُعتقدهم بعيدا عن العاصمة الأموية، و هو المذهب المعروف بالزيدية المنتشر حاليا باليمن (و سيأتي ذكره بتفصيل فيما بعد عند الحديث عن الحوثيين) و هو أقرب المذاهب الشيعية إلى السنة. و قد سألت طائفة من أتباع زيد بن علي عن رأيه في أبي بكر و عُمر فترحم عليهما، فرفضه هؤلاء و رفضوا الترحم على الخليفتين الراشدين، و انشقوا عنه. و هم الذين عُرفوا في تاريخ الفرق بالرافضة أو الروافض، و هؤلاء سيكون منهم من يؤسس بعد ذلك مذهب "الإثناعشرية" و هو أكبر مذاهب الشيعة انتشارا و عددا، و هو السائد حاليا في إيران و العراق و البحرين و لبنان. و في أواخر الخلافة الأموية نشطت الحركة العباسية في تحريض الناس و تأليبهم للانقلاب على الأمويين، فتعاونت مع المجموعات التي انشقت عن زيد بن علي، حتى قضت على الخلافة الأموية التي قامت الخلافة العباسية سنة 132 هجرية بقيادة أبي العباس السفاح ثم أبي جعفر المنصور على أنقاضها. و شعر المتعاونون معها بخيبة أمل، إذ كانوا يأملون أن تكون الخلافة في أحد أحفاد علي بن أبي طالب. فثاروا ضد الخلافة العباسية مشكلين جماعة أو تيارا عُرف تاريخيا ب"الطالبيين" (نسبة إلى علي بن أبي طالب) مقابل العباسيين المنسوبين إلى العباس بن عبد المطلب. خلال هذه الفترة و بتتبعنا للسلسلة العلوية نشير إلى أن زيد بن علي كان له أخ يدعى محمد الباقر توفي قبله بثماني سنوات و ترك إبنا عالما ورعا هو جعفر الصادق الذي توفي سنة 148 ه تاركا إبنا يسمى موسى الكاظم توفي بدوره سنة 183 ه مخلفا مجموعة من الأبناء من بينهم علي بن موسى الرضا. و في محاولة منه لاحتواء فتنة الطالبيين و تقليص تمردهم، قام الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد بتعيين علي بن موسى الرضا لولاية العهد، و هو ما أثار امتعاضا و معارضة لدى العباسيين، بيد أن علي بن موسي الرضا توفي فجأة سنة 203 ه ، مما دفع الطالبيين إلى الخروج من جديد متهمين المأمون باغتيال زعيمهم. مرت العديد من السنوات، و هدأت نسبيا جذوة الثورات ، التي كانت كلها ذات طابع سياسي تتدثر برداء من الأردية، معترضة على الحكام لأسباب كثيرة لم يكن من بينها سبب عقائدي أو مذهبي . و بالموازاة مع هذا، حصل تطور فكري، فرضته الحاجة، من أجل إقناع المترددين و تعبئة المؤيدين، فبدأت الإرهاصات الأولى للفكر السلطاني الشيعي (يطلق الباحثون القدامى إسم "الفكر السلطاني" على دراسة قواعد الحكم و شروط الحاكم و بناء الدولة و القواعد التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكومين و الشروط الواجب توفرها في الحاكم، و هي نفس المواضيع التي يتناولها القانون الدستوري الحديث تقريبا) ، حيث طفق فقهاء الشيعة ? في سياق صراعهم الأيديولوجي و السياسي مع الخلافة القائمة وقتئذ ? في وضع الشروط التي ينبغي توفرها في الحاكم الشرعي و التي لم تكن تتوفر في الخلفاء آنذاك، و بذلك اعتُبروا منزوعي الشرعية مغتصبين للحق و بالتالي فإن الأحق بالخلافة هم الأئمة المعصومون المنصوص عليهم من آل البيت. نتيجة لهذا المخاض وُلد الشيعة الإمامية أي الذين يؤمنون بأن الأحق بالخلافة هم الأئمة من أبناء الإمام علي بن أبي طالب، فقالوا أن النبي (ص) قد عين عليا بن أبي طالب للإمامة بالإسم و النص المباشر، و أن هذه الإمامة تستمر كذلك في إبنيه الحسن و الحسين و تتسلسل بعدهما بشكل وراثي عمودي في ذرية الحسين. و كل إمام يوصي لمن بعده إلى آخر الزمن. و قد كانت المواضيع التي تتناولها نظرية الإمامة في ذلك الوقت، تدور حول شروط الإمامة أي الخلافة أو الرئاسة و الحكم بمفهومنا المعاصر، و طبيعتها و انحصارها في آل البيت و البيت العلوي الحسيني على وجه التحديد. و لهم في ذلك أحاديث و وقائع تؤيد ما يذهبون إليه. و أهم المبادئ التي يستندون إليها في هذا الموضوع هي العصمة و النص، و معناها أن الإمام معصوم عن الخطأ لأنه يتوفر على العلم اللدني أي الرباني و هو منصوص عليه بالإسم من طرف الإمام السابق له، فلا دخل للأمة في تعيينه أو اختياره. و مقابل هذا كانت فرق أخرى ، شيعية و سنية على حد سواء تختلف مع الإمامية حول اشتراط العصمة و النص، فمنها من اعتبر الإمام أو الخليفة بشرا من الناس "يأكل الطعام و يمشي في الأسواق" يُخطئ و يُصيب، يتقدم عليهم إذا ما توفرت فيه شروط معينة، تختاره الأمة على أساسها. و ليس معصوما عن الخطأ يتم تعيينه بالنص، و هذا موقف معظم الفرق السنية. و من الفرق الشيعية غير الإمامية من وسعت دائرة الإمامة لتُشرك فيها باقي البيوت العلوية أو الفاطمية أو الهاشمية أوغيرها من المسلمين. لكن الإمامية وحدها انفردت عليهم بقصر الخلافة على أبناء الحسين بن علي بن أبي طالب و على نسلهم من بعده. الحلقة المُقبلة: في انتظار صاحب الزمان