الحوارات المتعددة بين النص الأدبي والصورة تغذي باستمرار الإبداعات الأدبية والصورية (فن الرسم والفوتوغرافيا). فمنذ بودلير الذي أعلى من شأن "رسام الحياة المعاصرة"، إلى روني شار الذي كان دائم التأمل في أعمال "جورج دي لاتور"، ظل الشعر الحديث يبحث عن إلهامه في الرسم. لكن هذا الإغواء يشهد به الروائيون أيضا: بلزاك، الأخوان غونكور، فلوبير، بروست، جبرا إبراهيم جبرا، عبد الرحمان منيف، الطاهر بنجلون، عبد القادر جميعي... فكل واحد منهم فكّر وساءل بطريقته أعمال الرسامين. لكن هذه الظاهرة ليست حديثة العهد مادامت ممارسة وصف عمل فني كانت تتردد في قصائد وروايات المرحلة الكلاسيكية، فيما كانت أيضا ممارسة الزخرفة والرسم تغذي منذ القرون الوسطى الحوار الضيق بين الكتابة والتصوير. لكن فنون التصوير، طيلة تاريخ طويل، بالعكس من ذلك،لم تبحث عن نماذج للإلهام في النصوص الأدبية. للرواية حوارات وتقاربات مع الموسيقى: "معلمة البيانو" للروائية النمساوية "ألفريدة يلينيك" (نوبل 2004 ). وقد جاء في تقرير الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة: "تقديرا لما تكتظ به روايات ومسرحيات هذه الأديبة من فيض موسيقي من الأصوات والأصوات المضادة التي تكشف بشغف لغوي استثنائي عبثية المسلمات الاجتماعية والصور النمطية والسلطة الاستبدادية لتلك المسلمات وما لها من نفوذ طاغ على حياة المجتمع") كما لا يمكن نسيان رواية"جاز" للأمريكية "طوني مريسون". فهي رواية عن الموسيقى، ومبنية بطريقة الهارمونية الموسيقية. لكن لابد من التنبيه إلى شيء هام، فالمقصود هنا ليس إعطاء للكلمات طابعا مرئيا ممكنا، لقول أشياء ومقامات العالم، بل لقول أشياء الفن. فمادة النص ليست موضوع الصورة ولا اللوحة ولا الموسيقى، بل مادة فن آخر. يتعلق الأمر هنا ليس بقول ما قدمته هذه الأجناس الفنية، بل الطريقة التي قدمت بها موضوعه: الأسلوب. ما يقوله الكُتّاب الكبار في أسرارهم عن الكتابة، أن الكاتب يستنفذ موادّه، وأن خياله يتوقف عن الرسم، ولا يستطيع فهم الأفكار، فتصبح الكتب عقيمة، لا تقدم له العون كما كانت. في هذه الحالة النصيحة هي: على الكاتب أن يعود لحياته التي يعيشها. للوحات والصور والمنحوتات والعمارات التي شاهدها في حياته ليستلهم منها. هذه هي نصيحة "رالف والدو إمرسون". لقد بدت كأنها نصيحة أُسديت لنا جميعا. كما أن هناك نصيحة بنفس الأهمية أسداها الشاعر الألماني "ماريا ريلكه" في رسالة وجهها إلى شاعر شاب: "إذا استنفذت كل شيء عد إلى طفولتك، إنها منجم هام للمواضيع والأفكار لم يتسرب إليه كل القول". إن طفولة رسم ولوحة وصور فوتوغرافية. لكن على الكاتب التعامل برهبة واحترام مع الفنون، نظرا لدقتها المتناهية، تلك الدقة التي تفتقدها الرواية أو الشعر. لابد في هذا الشأن من الاستفادة من هذا الدرس: فلوبير ألّف الكثير من المسرحيات عرفت جميعها سقوطا مدويا، ففشل في المسرح فشلا يُرثى له، وذلك يرجع دون شك إلى الاحتقار الذي كان يكنه للمسرحيين الفرنسيين في عصره. فكان يراهم لا يصلحون لعمل غير مسرح الدمى وجذب خيوطها الغليظة، وهذا الاحتقار جعله يكّون عن المسرح فكرة مفرطة في التبسيط.