أثرنا الاشتغال على سؤال المرجعية في السياسات العامة لما لهذه المقاربة من إيجابيات في الكشف عن جانب من مهم من رهانات فعل الدولة العمومي. فمن منطلق علم السياسة فكل فعل دولتي يروم في مستوى من المستويات تسييس أو نزع الطابع السياسي عن الوقائع الاجتماعية، وذلك بما يحقق استمرارية واستقرار النظام السياسي. ويعتبر بناء المعنى وترميز فعل الدولة آلية مركزية في عملية التسييس واللاتسييس وفي عملية شرعنة السلطة السياسية وفعلها. و تندرج السياسات العامة في قلب عملية التسييس واللاتسييس وعملية شرعنة الاستقرار والاستمرار للسلطة، حيث تتيح سيرورة صناعة القرارات من لدن الفاعل الحكومي إمكانات وضع الاطار المرجعي الضابط لتدخل جميع الفاعلين ورهاناتهم ومطالبهم، كما تتيح تسويق وترويج منظومة رمزية تجعل تصرفات الدولة مقبولة لدى المحكومين، بشكل يحقق الاندماج الاجتماعي. غير ان بناء المرجعيات الكلية للسياسات العامة في المغرب، أصبح يتم أكثر فأكثر من خارج القيم المرجعية المحلية ويخضع أكثر فأكثر للمرجعية المعولمة. والغاية من ذلك هي الشرعنة لولوج الفاعلين العابرين للقارات الرأسمال العالمي في السياسات العامة الوطنية. وهذا أدى إلى تهميش دور الفاعلين المحليين، الحكوميين وغير الحكوميين، في بناء تلك المرجعيات، ووضع الفاعل الحكومي أمام تحديات جديدة، تتمثل بالأساس في مفارقات شكل الدولة التي تطلبها العولمة، دولة حيادية منزوعة الوسائل الاقتصادية والمالية التي من خلالها تحقق حد أدنى من التوازن الاجتماعي، في مقابل دولة رعاية ينبغي أن تحقق الوفاق الاجتماعي بإخضاع الفاعل المحلي لمرجعية تحرير السوق وحركية الرأسمال والسلع، وتهيئ المحكومين لنتائج ذلك. وتزداد مفارقات الدولة المعولمة عندما نكون أمام دولة كالمغرب، حيث أدت شخصنة السلطة وشخصانيتها منذ الاستقلال إلى احتكار الفاعل الحكومي لصناعة القرار وبناء مرجعيات السياسات العامة، كما أدى الطابع اللدني والقدسي لتلك السلطة إلى طغيان القيم التقليدية وقيم القداسة على ترميز فعل الدولة ونشاطها، رغم كثافة توظيف القيم الحداثية في صناعة الخطاب المرجعي للسياسات العامة. احتكار القرار والتحرير.. إن احتكار القرار ومركزته في يد الفاعل الحكومي في دولة الاستقلال بالمغرب واضح بشكل جلي في مجال الاعلام السمعي البصري، حيث كان هذا القطاع تابعا لوزارة الداخلية، التي كانت تسمى بوزارة الداخلية والاعلام. وبالتالي كان ينتفي الطابع العمومي بشكل مطلق على هذا القطاع. فهو لم يكن مفتوحا بأي نسبة لا للفاعلين الاجتماعيين والسياسيين الآخرين ولا للرأي العام. فالأمر لايتعلق هنا فقط بعدم السماح بالمنافسة الاعلامية بل حتى منافسة خطاب الفاعلين الآخرين لخطاب الفاعل الحكومي. فالتلفزة والاذاعة كانت تؤدي مهمتين مركزيتين متكاملتين، مهمة إقصاء وتحييد جميع الفاعلين من التنافس والمشاركة في بناء مرجعية السياسات العامة، بالموازاة مع إقصائهم من المشاركة في صناعة القرار، ومهمة بناء الهوية والتمثلات المشرعنة للسلطة ونمط الحكم واتخاذ القرار في الدولة، خصوصا وأن هذه الآلية تصل لجمهور عريض في عموم المناطق وعموم الشرائح، على عكس الاعلام المكتوب الذي يعتبر القناة الاعلامية الوحيدة التي يملكها الفاعلون الآخرون. من هذا المنطلق ينبغي أن نفهم دلالات خطاب التحرير الذي تبنته الدولة في أواخر تسعينات القرن العشرين، وفي العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بالأساس. فقد تحكم في هذا الخطاب سياقان، سياق محلي وسياق دولي. الأول يتمثل في التقارب الذي حصل بين الأحزاب السياسية المعارضة والملكية، وفي تراجع الخطاب الايديولوجي والاحتقان السياسي، والثاني يتمثل في تنامي عولمة اللبرالية الجديدة القائمة على اقتصاد السوق وتحرير تجارة الخدمات وحركية الأموال، والتي تعتمد خطاب الديموقراطية وحقوق الانسان والتعددية ومجتمع المعرفة والاعلام، وذلك لشرعنة السياسات العامة التي تتماشى ورهانات الرأسمال و اللبرالية الجديدة. فخطاب التحرير كمرجعية كلية لسيات الاعلام السمعي البصري متعدد الرهانات، فمن جهة هو امتثال للمرجعية الكلية المعولمة المفروضة من مؤسسات المجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الأوروبي بشكل يبرر ولوج فاعلين دوليين في السياسة الاعلامية، خصوصا السمعية البصرية، ومن جهة ثانية هو محاولة لاستثمار مجموع القيم اللبرالية المعولمة لتحيين وتجديد خطاب الحداثة والتحديث والديموقراطية على المستوى المحلي لوضع قالب مرجعي يستوعب خطاب الفاعلين السياسيين المحليين المطالبين بالديموقراطية وحقوق الانسان والحداثة بشكل يؤمن استمرارية هيمنة الخطاب المرجعي التقليدي، بما يتناسب واستمرارية تحكم الفاعل الحكومي في وضع سياسة السمعي البصري، ومن جهة ثالثة فهو يتيح بناء مرجعية تمكن من ضبط الفاعلين الجدد المحليين المحتملين بعد تبني « سياسة التحرير»، وشرعنة فعل الدولة اتجاه المحكومين، بل جعل الخطاب يتلاءم مع نمط استهلاك المواطنين لمنتوجات تكنولوجيا الاعلام، في ظل فوضى سوق القيم الناتج عن الاعلام المعولم. سؤال المرجعية .. يتضح هذا المنحى من خلال المرجعية التي حكمت ثلاثة من أهم التشريعات التي وضعت من أجل تهيئة البيئة الطلوبة لولوج الفاعلين الجدد الخواص لهذا الميدان الذي ضل حكرا على الدولة منذ الاستقلال. هذه التشريعات هي القانون رقم 03-77 المتعلق بالاتصال السمعي البصري، الظهير رقم 212-02-1 بتاريخ 22 من جمادى الآخرة 1423 (31 أغسطس 2002) المتعلق بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري والمرسوم بقانون رقم 663-02-2 بتاريخ 2 رجب 1423 (10 سبتمبر 2002) الذي يقضي بوضع حد لاحتكار الدولة في مجال البث الإذاعي والتلفزي. هذا بالاضافة إلى مضامين الملتقيات الوطنية حول الاعلام، والخطب الملكية. انطلاقا من هذه القوانين الثلاثة يمكننا القول بأن هناك مرجعيتين حكمتا سياسة السمعي البصري، مرجعية معولمة وهي مرجعية التحرير، ومرجعية محلية وهي مرجعية الاصلاح والتحديث. هذه الأخيرة تستبطن مرجعيتين « متساكنين» في المغرب منذ الاستقلال، مرجعية دولتية تتأسس على سجل الحقل الدلالي الحداثي، ومرجعية تقليدية تستند إلى سجل الحقل الدلالي السلطاني المخزني. ويمكن رسم الخطاطة العامة للخطاب المرجعي، من خلال مجموع العبارات والاصطلاحات التي تنسج هذا الخطاب، على أساس الترتيب التالي: يضع الخطاب المرجعية المعولمة في المقدمة، يتبعها بالمرجعية المحلية الدولتية الحداثية، ثم يضبطها ويغلفها بالمرجعية المحلية التقليدية السلطانية. فالخطاب ينطلق من سرد السياقات والدواعي والأسباب الدافعة لتبني سياسة تحرير السمعي البصري، ثم يحاول أن ينزع طابع الاكراه عن المرجعية المعولمة المفروضة، ليعتبر تلك الدواعي والأسباب تدخل في مشروع محلي سابق على تلك الدواعي، وهو مشروع يسعى لبناء الدولة الحديثة أو دولة القانون والمواطنة، ثم يعمل على أن يضفي الطابع التوحيدي غير التنازعي على كل تلك القيم المرجعية وعلى الدواعي والأسباب، موظفا الحقل الدلالي السلطاني، الذي يميل إلى القداسة والعلوية واللدنية، وموظفا لعبارة دقيقة تتحرك مابين الحقلين الدلاليين المحليين، الحداثي والتقليدي، وقادرة على أن تحمل على معنيين متناقضين في العمق، رغم التقارب اللغوي والاصطلاحي، وهي عبارة الاصلاح. تحيل على المرجعية المعولمة إذن مجموعة من العبارات والاصطلاحات، تحيل كلها على اقتصاد السوق والتحرير، وذلك من قبيل التحرير، إنهاء احتكار الدولة، المبادرة الحرة، الانفتاح، التأهيل الاقتصادي والاجتماعي، التعددية الفكرية وحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا، الحق في الاعلام، مواكبة التطور الحاصل، التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية، عولمة بث البرامج، مجتمع المعرفة والاتصال، مبادئ الديموقراطية، التنافسية، الاستثمار الخاص، الفاعلون الجدد الخواص، التنوع والتعدد عبر شبكات الاتصال، إعلام القرب. تشجيع الاستثمار الأجنبي، الحكامة، قواعد السوق، الاندماج الاقتصادي، التبادل الحر. في مقابل ذلك هناك مجموعة من العبارات التي تحيل على محاولة بلورة المرجعية المعولمة في المرجعية المحلية الدولتية الحداثية، ومن أهم هذه العبارات نجد الاختيار الديموقراطي، دولة القانون والمؤسسات، الحريات العامة، الحرية والتعددية والحداثة، حرية التعبير، حرية وتعددية التيارات والرأي، الحرية والمسؤولية، الحياة الديموقراطية الوطنية، قطاع سمعي بصري عمومي، مرفق عام للاذاعة والتلفزة، اتصال سمعي بصري وطني منتج، المصلحة العامة. وفي المستوى الثالث نجد العبارات الدالة على المرجعية المحلية التقليدية التي تحاول أن تكون المرجعية المحددة مدلول تحرير السمعي البصري لدى المحكومين، في سياق يدعم المشروعية التقليدية التي تقوم عليها السلطة السياسية، والمرجعية الضابطة للاطار الذي ينبغي للفاعلين الاجتماعيين المحليين، حكوميين وغير حكوميين، أن يفهموا ويؤولوا تحرير السمعي البصري، ويحددوا بناء عليه خياراتهم ورهاناتهم، كما في إطاره ينبغي أن تفهم كل القيم المرجعية المعولمة والمحلية الحداثية المعبر عنها في الخطاب المرجعي لهذه السياسة. وعبارة المرور إن صح التعبير من الحداثي إلى التقليدي هي كلمة الإصلاح والتحديث، التي تحيل على تقوية مقومات الدولة السلطانية، ومن أهمها في التاريخ مؤسسة الجيش، بما يساعد السلطان على سياسة الرعية والقيام بأحوالها. وفي هذا السياق نفهم إحالة الخطاب المرجعي لسياس تحرير السمعي البصري على الضابط الدستوري، المتمثل في ثوابت الأمة وإمارة المؤمنين. فالخطاب المرجعي لقانون السمعي البصري يشير إلى أن هذا الأخير يستلهم روحه ومبناه من التعليمات السامية، من خلال رسائله وخطبه وتصريحاته. ومن أهم هذه التعليمات التي يحيل عليها هذا الخطاب تلك المتضمنة في الرسالة الملكية الموجهة إلى أسرة الصحافة والاعلام بمناسبة اليوم الوطني للاعلام بتاريخ 15112002. كما يشير إلى أن إصلاح السمعي البصري الوطني يعتبر من المكونات الهامة للمنحى الاصلاحي العام، المتمثل في المشروع الحداثي الديموقراطي الذي يقوده ويرعاه الملك. وأن هذه السياسة تستند في فلسفتها العامة إلى المقتضيات الدستورية المتعلقة بالثوابت الأساسية للمملكة المغربية ، والمتمثلة في الإسلام والوحدة الترابية والملكية الدستورية ، كما يعتمد على مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ، وإلى الإرادة الملكية القوية التي تنشد ترسيخ النهج الديموقراطي عبر تكريس التعددية وإرساء دعائم دولة الحق والقانون والمؤسسات وضمان حرية التعبير والرأي في إطار الالتزام والمسؤولية. يتضح إذن أن الفاعل الحكومي قد اختار المرجعية المحلية التقليدية لبناء القالب المرجعي الذي يستوعب باقي مرجعيات الفاعلين المحليين، وينتج تأويلات للواقع الجديد للسمعي البصري. وهنا نلاحظ أهمية الرسائل الملكية الموجهة لأسرة الاعلام، حيث إن الملك ورغم أنه فاعل حكومي مركزي في السياسات العامة فإنه يضع نفسه من خلال تلك الرسائل في وضعية متعالية عن باقي الفاعلين، بما يتيح لخطابه أن يكون مرجعية موجهة، ومتفلة من صراع المرجعيات. وبالتالي فمن الطبيعي أن يستند خطابه إلى الحقل الدلالي القدسي والمتعالي، لأنه هو الذي يبرر الموقع الذي يخاطب من خلاله الفاعلين، ويعطي نفس المكانة للمرجعية العملياتية للسياسة الاعلامية في مرحلة التنفيذ، والتي تصنعها الهيئة العليا للسمعي البصري، التي اختار الملك أن يؤسسها بناء على الفصل التاسع عشر، لكي ينال خطابها المرجعي مكانة غير متنازع حولها، خصوصا وأنها هي التي تترجم جزءا من سياسة التحرير إلى برامج عمل وقرارات. وبالتالي هي التي ستضع القيم المرجعية الضبطية في هذا المضمار. * دكتور في القانون العام كلية الحقوق جامعة القاضي عياض - مراكش