من أبسط آليات التضليل الإعلامي هو أن تغطي حدثا أو نزاعا، مع الإكتفاء بطرح وجهة نظر أحد أطراف النزاع مع تغييب وجهة نظر الخصم . تشكل هذه الآلية النواة الصلبة للخطاب الإعلامي الاسباني حول ملف الصحراء المغربية، وبالأساس وكالة «إيفي». فهي تغيب وجهة نظر المغرب ومعه الصحراويين الوحدويين ، وتستحضر فقط وجهة نظر الإنفصاليين. وفي هذا السياق يرى «شيما خيل»، وهو محلل إعلامي إسباني متخصص في شؤون الصحراء، في حوار أجري معه مؤخرا: «معالجة وسائل الإعلامية الإسبانية لملف الصحراء غير متوازنة، فهي تميل بشكل سافر لصالح البوليساريو» ، و يضيف «حول أحداث العيون الأخيرة ، اكتفت وسائل الإعلام الإسبانية بنقل وإعادة إنتاج المعطيات الواردة من أوساط النشطاء المساندين للبوليساريو، وبعضهم انطلاقا من اسبانيا». ومن المهم التأكيد أن وسائل الإعلام الاسبانية وبالأساس وكالة «إيفي»،لم يكفها التضليل المبني على تمرير وجهة النظر أحادية الجانب، بل اتجهت إلى التضليل المباشر، وذلك من خلال ترويج صورة لأطفال فلسطين ضحايا هجمة إسرائيلية على أنهم أطفال صحراويون . لقد أصاب « يونس المجاهد» ، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية ، عندما قال:«إن مهزلة توظيف تلك الصورة تستحق أن تدرس في الجامعات..». تأسست وكالة « إيفي» في يناير سنة 1939، شهورا قليلة قبل نهاية الحرب الأهلية الاسبانية، برضى من الدكتاتور فرانكو، ومن مؤسسيها الصحفي «مانويل أزنار» ، وهو بالمناسبة جد « خوسي ماريا أزنار» ، رئيس الوزراء الإسباني ورئيس الحزب الشعبي سابقا، المتميز بحنينه الإستعماري ، وهي سمة تجمعه مع،«ماريانو راخوي» ، خلفه في رئاسة الحزب، فهل ياترى مازالت وكالة إيفي وفية لإرثها الفرنكاوي؟ .يبدو من خلال تغطياتها التضليلية لملف الصحراء، وتكريسها الإعلامي للإستعمار الإسباني للمدن و الجزر المغربية في الشمال ، أنها مازالت وفية لذلك الإرث. وفي هذا السياق تبقى المسافة بين اليمين واليسار الإسباني، معدومة :تكتيكات مختلفة وأهداف متماثلة. وكالة «إيفي» لمن لا يعلم ، هي الوكالة الإعلامية الرابعة في العالم من حيث التوزيع والإنتشار، والأولى باللغة الإسبانية ، تغطي 40 في المائة من الأخبار الدولية المستهلكة في كل من إسبانيا وأمريكا اللاتينية . هذه الوكالة بإمكانياتها المادية والبشرية الضخمة، تنقل صورة من الموقع الالكتروني «الصحراء الثورة» ، وهو من تأسيس نشطاء جمعويين أسبان مساندين للإنفصاليين، تنقل عن محرك «غوغل» ، وتوزع «المنتوج» على زبنائها في مختلف أنحاء العالم ، بهدف التأثير على الرأي العام الدولي، وتوجيهه إلى تبني أطروحة الإنفصال في الصحراء ،لا لسواد عيون الإنفصاليين، بل لحسابات جيوسياسية وجيوستراتجية إسبانية بحتة. كل قساوسة الإعلام والسياسة في إسبانيا ، يدركون جيدا أن إغلاق الملف الأول ( الصحراء ) الجبهة الجنوبية، يعني فتح الملف الثاني ( المستعمرات الاسبانية ) شمال المغرب، لذلك فمن الضروري أن يبقى الملف الأول مفتوحا، حتى لا يفتح الملف الثاني. اعتذرت وكالة «إيفي» لزبنائها عن الصورة/ المهزلة مهزلة توظيفها التي سقطت فيها، بمبرر أنه: «خطأ مهني» ، وتقول بكل ديماغوجية : «يعتبر مجلس إدارة «إيفي» أن هذا الخطأ ، خطأ مهني ، لايقلص من مصداقية الصحفيين المحترفين العاملين بالمؤسسة»، ونحن نرى ،أن الأمر لايتعلق بخطأ مهني، بل بإستراتجية تضليلية تخدم مصالح الدولة الإسبانية بامتياز، إستراتيجية تتجاوز مصداقية بعض الصحفيين الشرفاء العاملين بالمؤسسة، وهم قلة، نقول ذلك باعتبار أن وكالة «إيفي» ، هي في نهاية التحليل، جهاز من بين الأجهزة الأيديولوجية للدولة، الأكثر فتكا، أما قولها أنها : «لا تتبع أي خط أيديولوجي» ، فهو يندرج في سياق سيكولوجية الكذب ، الموغلة في السذاجة، وتبليد الأخر. ويضيف نص الاعتذار/التبرير: «لولم تمنع السلطات المغربية الصحفيين من الوصول إلى العيون لما وقع الخطأ..» . هل كانت «وكالة ايفي» ستغطي بموضوعية أحداث العيون، لو تواجدت فيها أثناء الأحداث الأخيرة ؟ . بالتأكيد لا ، فتغطياتها ومعالجاتها اللا متوازنة السابقة لملف الصحراء تكشف ذلك. وبما أن السلطات المغربية لم تسمح لها بالوصول إلى مدينة العيون، فقد لجأت إلى توظيف صورة مزيفة من أجل الضغط عليها، باستخدام سلاح التضليل، وبمعنى أدق :أتركونا نفعل ما نريد وإلا فتحنا عليكم حربا إعلامية، إنها ممارسات لا أخلاقية ولا مهنية سبق لوكالة «إيفي» أن استخدمتها مع كل من فنزويلا و بوليفيا وكوبا، وهنا يطول الحديث .وحتى ضد الفعاليات السياسية والمدنية للشعب الباسكي، عندما وزعت صورة للشاب «خوسي فرنانديز غونزاليس»، الناشط في منظمة «اليسار المضاد للرأسمالية» ، على أساس أنه عضو في منظمة «إيتا» الباسكية، وأنه القاتل المحتمل لشرطي في فرنسا، تم ذلك في مارس الماضي ، إعتذرت «إيفي» يومها باسم الخطأ المهني، وكان قميص عثمان ، محرك غوغل، كما هوالعادة.. كما هو الأمر مع حالة المغرب. ماذا يقول «قانون التحرير» ، لوكالة «إيفي» ، المنشور مارس 2006، تحت عنوان «نص الإجماع» ، في فقرة «تصحيحات وتعديلات» : البند 45 «عندما تنشر وكالة «إيفي» ، أي خبر في شكل رسم بياني، سمعي ، أو سمعي بصري مقدم لها من طرف ثالث ، تحدد المصدر...». وهو ما لم تفعله مع الصورة المهزلة، التي استبدلت تقتيل أطفال فلسطين بأطفال الصحراء. البند53 «على وكالة «إيفي» أن تعلن دون تأخر الأخطاء التي تمت ملاحظتها في أخبارها، مع توضيح طبيعة الخطأ..» .إعتذرت وكالة «إيفي» باسم «الخطأ المهني» ، لكن أي خطأ هذا؟. صحفيون «محترفون» ينقلون صورة من محرك «غوغل» ، ويوزعوها في الأركان الأربعة للعالم ، كما يفعل المراهقون ، فهل أصيبت وكالة « إيفي» بمراهقة إعلامية متأخرة؟. الأمر مستبعد. والأقرب إلى الواقع هو إصابتها المزمنة بالعمى الإيديولوجي، منذ إعطائها إشارة الإنطلاق أيام فرانكو . وبالخصوص تجاه المغرب وقضاياه. البند 55 : « كل تصحيح أو تعديل ، أو إلغاء للخبر، يجب أن يتم بالتنسيق المسبق مع المؤلف، متى أمكن ذلك.. ». لقد ألغت وكالة «إيفي» الخبر/الصورة/ الفضيحة، لكن مع من نسقت .؟، هل مع وكالة «رويتر» المالكة للصورة ،أم مع الموقع الإلكتروني الذي بناه ويسيره طابور خامس من النشطاء الجمعويين الأسبان لمساندة الانفصاليين الصحراويين، أم مع محرك «غوغل»...؟ . لا هذا ولا ذاك. لأن ما تسميه وكالة «إيفي» بالخطأ المهني ، هو في نهاية التحليل، جزء من استراتيجيتها التضليلية الممنهجة. وقساوسة وكالة « إيفي» يعرفون أكثر من غيرهم ، أن قسم أرشيف الصور هو من أهم أقسامها، فالصورة تخزن بعد التأكد من هويتها بآليات الكترونية، وفق المعايير الموحدة «للمجلس الأوروبي للفيدرالية الدولية للصحفيين» ، المتمثلة في : إسم المؤلف ، الزمان، اللون، ثم الوكالة التي تمتلك حق تسويق الصورة، فأين هي أخلاقيات المهنة التي تزعم وكالة «إيفي» الإلتزام بها؟ ف: «قانونها التحريري» الذي تبنته سنة 2006 ، : «كمؤسسة إخبارية عمومية في ملك المجتمع.. ميزتها النزاهة والصدق والحقيقة ونبذ التحريف.. والإبتعاد عن المصالح الخاصة والإبتعاد عن أي خط إيديولوجي..» . إنها مثاليات تنفيها ، الصورة/الفضيحة التي وزعتها وكالة «إيفي» لأطفال غزة على أنهم أطفال الصحراء، وهكذا انقلب السحر على الساحر ، كما تنفيها التغطيات غير المتوازنة لملف الصحراء على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، لصالح الانفصاليين مع الترويج لأطروحة كون قضية الصحراء ، هي قضية نظام توسعي وليست قضية الشعب المغربي بمختلف هوياته الثقافية . وهذا هذيان إعلامي ، من الممكن التقليص من حدته لو تعلم الصحفيون الاسبان اللغات المتداولة في المغرب ، وتفادي الاقتصار على اللغة الفرنسية. «موروفوبيا» حادة، هذيان جماعي أصيب به جيراننا المزعجون/ الاسبان في الأسابيع الأخيرة، من إعلاميين، سياسيين، نقابيين، جمعويين، وحتى بعض المثقفين، عبروا من خلاله عن عشقهم الجنوني لرمال الصحراء و أهلها، عن كيف يتحول المستعمر السابق/الجلاد، إلى منقذ من الضلال. إنها مكيافيلية سياسية بدائية ، تكشف عن حنين مرضي إلى ماض استعماري دموي، يتم ذلك بالتوظيف الساذج لأحداث مدينة العيون، في سياق حملة/إجماع وطني إسباني ، يذكرنا بحملات «الأفريكانيستاس» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. أما ما يميز حملات القرن الواحد والعشرين عن سابقاتها، فهو ظهور ما نسميه ، «بالأفريكانيستاس الجمعويين» ، وهو طابور خامس ، مشكل من جمعيات المجتمع المدني الإسباني المتواجدة في المغرب، والعاملة تحت غطاء العمل الإنساني والتنموي ، بالتنسيق مع «الأفريكانيستاس الإعلاميين»، فاتحين بذلك جبهة جديد ضد وحدة المغرب، وهذه المرة من الداخل. إنه طابور خامس يستخدم تكنولوجيات الإتصال الجديثة، إنها حرب إلكترونية إعلامية جمعوية، تحتم علينا مواجهتها وفق مقاربات جديدة. نقول ذلك مع التأكيد على ضرورة معالجة الملفات الإجتماعية بعمق، سواء في الصحراء أو في الريف أو في الأطلس ، والبدء بإنجاز تقويم تشخيصي دقيق، بعيدا عن لغة «العام زين» . وبذلك يسحب البساط من تحت أرجل الخصم. (*) كاتب صحفي وباحث جامعي