«الأخوات المناضلات، الإخوة المناضلين حضرات السيدات والسادة، أيها الحضور الكريم، نلتقي اليوم في جمع مهيب يخيم عليه جلال الذكرى التي تعبأنا لتخليدها اليوم، ويطغى عليه ما نتقاسمه من لوعة الفراق وأسى الفقدان، فقدان رموز من رجالات هذه المدينة المكافحة المعطاء، رجال من طينة خاصة، كان همهم الأول هو الدفاع عن الوطن وكرامة الشعب المغربي وبناء الديمقراطية ودولة الحق والقانون. نعم أيها الحضور الكريم، لأسماء محمد الشامي ومحمد المجدوبي ومحمد بندهاج صدى وهاج في حقل العمل السياسي الوطني لأنها شخصيات وازنة بصمت مهنيا وسياسيا العمل النضالي، وساهمت في إعطائه إشعاعا متواصل الحلقات والأجيال، وذلك ضمن استمرارية عمل الوطنيين الأحرار الذين شحنوا بتضحياتهم وقناعاتهم مشعل قافلة الدفع نحو البحث عن أفق مغرب الديمقراطية والعدالة والإنصاف. لقد كان هؤلاء المناضلون الكبار الذين تجمعنا ذكراهم الأربعينية، أسماء شامخة في البدل والعطاء، ألهمها اقتناعها بقضايا الوطن والمواطنين وأوقد عزيمتها إصرار على رفض الاستسلام للواقع، والتطلع والنضال من أجل التجاوب مع تطلعات الشعب المغربي في بداية الاستقلال من أجل الديمقراطية والعيش الكريم، والتحرر من مختلف مظاهر التخلف. فلنقف أولا عند السمات الشخصية لكل من الإخوان الراحلين عنا. لن أزعم طبعا أني قادر على الإحاطة الشاملة بخصال ومناقب كل واحد من الإخوان الذين افتقدناهم تباعا هذا الصيف. ولن أجازف في جرد عطاءاتهم الجليلة وهي كثيرة أمام إخوان عاشوا معهم أيضا، وقاسموهم التضحيات والمبادرات على المستوى السياسي والمهني، أو من خلال تنظيمات الحزب ومعاركه النضالية. إذ لن أتمكن أمام غنى وتنوع المسار النضالي للراحلين من استجلاء الجوانب المتعددة والأبعاد المتشابكة لما خلفوه من أعمال وما أنجزوه من حسنات في الحياة اليومية كما في ساحة النضال التقدمي. لكن أعتبر من الواجب تقديم شهادة حول إسهامات كل واحد منهم، لأنها حقا عطاءات متميزة من مناضلين شكلت حياتهم مسارا كفاحيا متواصلا من أجل تحرير الأرض والإنسان في ربوع وطننا الغالي. ونظرا للعلاقات التي عشناها وإياهم في إطار عائلة القوات الشعبية واستمرار يته كأجيال من المغاربة الدين حملوا هموم المشروع الوطني التقدمي، وشكلوا تلك الروافد التي تضافرت إسهاماتها لنصرة البديل والأفق الديمقراطي في بلادنا. رحيل الدكتور محمد الشامي أولا ما كان إلا ليخلف مرارة تتجاوز ما يحس به المرء عادة في مناسبة مماثلة، لأنه رحيل لوطني غيور قدم مساهمة كبرى في إبقاء جذوة العمل التقدمي مشتعلة بعد ما كان خصوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، يعتقدون خمودها إثر اختطاف الشهيد المهدي بن بركة، والقمع الذي استهدف عددا من رجالات حركة التحرير الشعبية في الستينات والسبعينات والثمانينات من أولئك المناضلين الذين عانوا غياهب السجون وقساوة المعتقلات. لقد بقي رحمه الله على خط الجهر بالحق، متشبثا ببناء مجتمع المساواة وضمان الحقوق الأساسية. فسواء في عمله في الواجهة المهنية الطبية، أو في نصرة القضية الفلسطينية أو على صعيد دعم النضالات الاجتماعية، تشبث الدكتور الشامي بقيم التقدم وساهم في دعم وتعزيز التوجه الذي تمكن فعلا من الانتصار لحقوق المواطن المغربي. كان الدكتور الشامي رجلا مقداما يجد نفسه منطقيا في واجهة المعارك، ولم يقبل أبدا بالتقاعس أو التفرج أو الابتعاد، بل بقي دائما فاعلا داخل الصف التقدمي يقترح ويؤازر، يعزز الصفوف، ويجدد العزم، وهو من الرعيل الباني للحركة الاتحادية على المساهمة في تطوير التنظيمات وتوضيح آفاق عملها. كذلك استقبلنا جميعا رحيل الأستاذ محمد المجذوبي كمصدر فراغ صعب التعويض، لأنه جسد حقا قيم الاتحاد الأصيلة من الوفاء والتضحية ونكران الذات، والانشغال الدائم بقضايا الوطن والمواطنين، زاهدا، شامخا ورعا، متعففا، مقداما ضمن ثلة من المناضلين الأوفياء الذين ساهموا في تأسيس الحركة الاتحادية كمشعل وهاج لإعطاء استقلال بلادنا مضمونا ديمقراطيا، يعيد للمواطن كرامته وللوطن عزته. فمن كل مناحي حياته المعطاء ومن مختلف زوايا نشاطه المهني في حقول التربية والتكوين، وكذلك من كل جوانب حضوره النضالي، حمل الأستاذ محمد المجدوبي بوعمامة مشعل النضال الوطني التقدمي، وساهم في توهجه وانخراط وتلاقح الأجيال في معاركه. فهو الرجل الذي ظل مقتنعا بالارتباط الوثيق بين متطلبات ترسيخ قيم المواطنة وبناء دولة الحق والقانون والتضامن، وبين التضحيات التي يفرضها النهوض بالتنظيم الحزبي الاتحادي التقدمي، لجعل الأداة في خدمة المشروع المجتمعي، وتطوير القدرات الجماعية للمغاربة كشعب وكحضارة في أفق بناء حداثة فعلية في السلوك والتعامل، والمشاركة في صنع مغرب التحرر والعدالة الاجتماعية. ظل المجدوبي رحمه الله، ومن خلال كل المنابر التي شهدت مساهماته، رجل الدفاع عن المحرومين والمظلومين. في البرلمان كما في لجان قطاع التعليم ، في مجالس الحزب كما في لقاءات جمعيات المجتمع المدني ، في المحافل الثقافية كما في الاجتماعات النقابية، بقي الرجل صاحب وتيرة عمل تتغذى من اقتناعه بانتصار العدل وبحتمية التغيير الديمقراطي... ودعنا كذلك أخانا محمد بن ديهاج، الرجل اللطيف الأديب، صاحب الدعابة وبشاشة الوجه التي لا تنقطع معها سيول المرح والدعوة للانشراح. ودعنا فيه أخا من بين أعزائنا المناضلين، الذين آمنوا مبكرا بقضايا الشعب المغربي، وقدموا كل التضحيات، من أجل ترجمة طموحات المغاربة في التحرر والتقدم. كان رحمة الله عليه متفانيا في السهر على إشعاع الأفكار التقدمية، ومناضلا صلبا من خيرة الذين جاهدوا في نشر أفكار الديمقراطية والحرية في البادية المغربية.وبالفعل كان لعمله الدؤوب صداه بكل أحواز فاس، في قرية بامحمد كما في تاونات أو غفساي، وطبعا بمنطقة تيسة التي حظي بشرف تمثيلها في قبة البرلمان بعد حملات نضالية وانتخابية طاحنة. سنذكر باستمرار مجهوده النضالي، ومساهماته المتعددة في نشر الوعي الديمقراطي، وكفاحه ضد مظاهر التيئيس، بسلاح الإيمان والتفاؤل والاجتهاد في الاستقطاب الهادئ للمواطنين، ونصرة الأفكار التي ترفع الظلم والتسلط عن البادية المغربية. كنا نقرأ في وجهه رحمه الله في عز الأزمات والمحن، تباشير الأمل والحث على المضي قدما في مسيرة العمل السياسي الذي كان يعتبره واجبا والتزاما وجوديا. إن هذه الوجوه المشرقة التي نحضر ذكراها الأربعينية، تمكنت خلال حياتها الحافلة بالعطاء والبذل من أن ترمز بشكل مكثف إلى جيل بكامله، ذلك الجيل الذي اقتحم مجال العمل السياسي من بوابات الالتزام الواعي الذي لا يبتغي سوى خدمة الوطن والمواطنين، وإقرار طراز جديد من تدبير الشأن العام قوامه المشاركة الشعبية، وفتح الآفاق أمام مطلب العدالة الاجتماعية. لذلك كانوا جميعا وجماعة، من أبرز العاملين والمشتغلين بحماس في صفوف تنظيمات الكتابة الإقليمية لفاس الكبرى، بما جعلهم أصحاب تأثيرات متلاحقة مكنت حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من مساهمة ملحوظة في دمقرطة بلادنا وطنيا وفي تجذر صورة الحزب وموقعه جهويا وإقليميا. إنهم فعلا، رجال تمكنوا بفضل التزامهم من أن يعبروا مجال الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها بالمنشأ ومسقط الرأس والانتماء السوسيومهني، إلى معانقة طموحات وآمال وانتظارات أوسع الفئات الشعبية التي بادلتهم ولاءهم لقضاياها بأن احتضنتهم في قلوبها بدفء إنساني كبير. إنهم جيل الرواد في النضال التقدمي الذي كان هاجسه الأول هو العمل من أجل تراكم المنجزات للبلاد ورفع المظالم عن المواطنين. إخواني أخواتي، حضرات السيدات والسادة، إن الاحتفاء بالذكرى المشتركة لهؤلاء المناضلين الكبار والرواد الأوائل، للعمل الوطني يشكل مناسبة أخرى، لاستخلاص العبر والدروس البليغة الأخلاقية والتربوية التي توجت العطاء الحافل، للمرحومين والمتمثلة في قيم نكران الذات، وإيثار المصلحة العامة والانشغال بقضايا الشعب والوطن، وهي دروس ينبغي أن تظل حاضرة باستمرار، في ممارستنا النضالية على مختلف الأصعدة، كما يجب أن تظل أيضا موجها للأجيال الصاعدة وذلك كي نستحضر باستمرار أن منطلق العمل الحزبي وغايته هي بالأساس خدمة الوطن بإخلاص وتفان والرقي بأوضاع شعبنا، وتحقيق أماله في بناء المجتمع الديمقراطي المتضامن. إخواني أخواتي، إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي قام بأدوار طلائعية منذ تأسيسه، في نشر ثقافة الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، وأدى الثمن غاليا من أجل أن ينعم المغاربة بالحريات العامة والفردية، وهو يعتز بما تحقق من مكتسبات في هذا الميدان، لعازم كل العزم على بذل مزيد من الجهود لتحصينها وتطويرها والارتقاء بها، انطلاقا من المقررات التي اتخذها حزبنا في مؤتمره الأخير، وتجاوبا مع تطلعات شعبنا في الانتقال إلى جيل جديد من الإصلاحات. وفي هذا الإطار، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يضع اليوم ضمن أولوياته مواصلة العمل من أجل تأهيل الحقل السياسي عبر إصلاحات سياسية ودستورية تمكن بلادنا من تطوير نجاعة وأداء مؤسساتنا. كما ينكب حزبنا من خلال الورش التنظيمي المفتوح على مختلف المستويات على تأهيل أداته التنظيمية ، بما يمكن من ضمان فعالياتها في التأطير والتواصل ومواكبة انشغالات المجتمع، وتجذر تنظيمات الحزب في كافة القطاعات. ونحن إذ نتواجد بفاس للاحتفاء بذكرى رحيل المراحيم محمد الشامي ومحمد المجدوبي ومحمد بن ديهاج، نتطلع لأن تسترجع فاس بفضل تعاونكم وحضوركم، مكانتها ودورها الإشعاعي الريادي في تنظيمات الحزب، وتجاوبا مع تطلعات ساكنة هذه المدينة التي ستظل بصماتها ومساهمتها راسخة للأبد، في سجل النضال الوطني من أجل الاستقلال، وسجل الكفاح من أجل بناء الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان. وختاما أود أن أعبر عن التنويه والإشادة بهذه المبادرة التي اتخذتها تنظيمات حزبنا بفاس للاحتفاء بذكرى رواد قدموا خدمات كبرى لحزبهم ووطنهم، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».