نظم في مدينة فاس مهرجان تأبيني للعالمين المجاهدين سيدي الهاشمي الفيلالي وسيدي عبد الرحمان ربيحة وكانت «العلم» نشرت تغطية لهذا المهرجان الا ان الكلمة التي ارتجلها الأخ محمد السوسي في المهرجان لم تنشر وندرجها فيما يلي ليطلع عليها قراء حديث الجمعة وتكون مناسبة للتذكير بجزء مما قدمه الرجلان لفائدة وطنهما ومواطنيهما أيها الحضور الكريم: بدعوة كريمة من رئيس المجلس العلمي ومن رئيس المجلس الحضاري لمدينة فاس نحضر اليوم هذا الحفل التأبيني لمجاهدين وعالمين جليلين العلامة سيدي الهاشمي الفيلالي والعلامة سيدي عبد الرحمان ربيحة، وقد كان من المقرر ان يترأس هذا الحفل التأبيني الأخ المناضل الأستاذ عباس الفاسي الأمين العام لحزب الاستقلال، الوزير الأول، ولكن نظرا لظروف طارئة ومهام رسمية لم يستطع أن يتحرر منها. اعتذر للحضور الكريم عن هذه الغيبة التي هي وان كانت هي بجسمه فانه حاضر معنا لأنه يثمن ما بذله المجاهدون في سبيل الاستقلال وفي سبيل الوحدة والحرية والديمقراطية كذلك لابد في بداية هذه الكلمة أن أبلغكم اعتذار الإخوة الذين كلفوني بالاعتذار وهم: الأخ الأستاذ مَحمد بوستة والأستاذ عبد الكريم غلاب والأستاذ مَحمد الدويري والأخ عبد الحق التازي، وكذلك الإخوة أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الذين تعذر حضورهم معنا نظرا للمهام والمسؤوليات التي هم مكلفون بها من طرف الحزب. ان إقامة مهرجان تأبيني لهذين الوطنين المجاهدين وهاذين العالمين الجليلين اللذين أعطيا لمدلول العالم والعالمية مكانتها وأهميتها في الحياة العامة والحياة الخاصة، وإقامة هذا المهرجان التأبيني هو عربون ودليل على وفاء مدينة فاس لعلمائها وأساتذتها ومناضليها ومنتخبيها لهؤلاء المجاهدين الذين قدموا كل شيء واسترخصوا كل شيء في سبيل عزة الوطن، وفي سبيل عزة المواطنين. وقبل هذا وبعد هذا في سبيل عزة الإسلام وعزة المسلمين وعزة القرآن وعزة لغة القرآن. أيها السادة: ان الحديث عن الأستاذين الجليلين ليس من الأمور السهلة ولا من الأمور الميسورة نظرا للدور العظيم الذي قام به كل منهما في حدود حياته وعمره وفي حدود الإمكانيات المتاحة لكل واحد منهما ، وفقا للحياة المعقدة والصعبة التي كانت تظلل حياة المواطنين في مدينة فاس وفي المغرب عموما. ولكنه مع ذلك فعندما يتحدث مؤرخ أو كاتب أو باحث عن الحركة الوطنية الاستقلالية في المغرب فسيجد من بين الأسماء اللامعة ومن بين الأسماء التي وضعت الأسس والقواعد لهذه الحركة الهاشمي الفيلالي الذي سيكون في صدارة القائمة الأولى، وعندما يتحدث مؤرخ أو باحث عن أولئك الجنود وأولئك المناضلين الذين وضعوا تلك التعليمات والتوجيهات وقرارات الحركة الوطنية موضع التنفيذ دون خوف أو وجل أو تردد سيجد كذلك من بين الأسماء اللامعة التي ستكون في مقدمة القائمة المجاهد سيدي عبد الرحمان ربيحة. هذان العالمان المجاهدان تتمثل فيهما كما قلت في البداية الصفة الحقيقية للعالم والصفة الحقيقة للمناضل والصفة الحقيقية للمجاهد، نحن نعلم جميعا ان الجهاد يبدأ من الداخل من نفس الإنسان وأعماقه لأن أساس الجهاد المجاهدة مجاهدة النفس، مجاهدة الخوالج التي تختلج في داخل الإنسان والترددات والوساوس التي تقف أمامه، لأن الجهاد بمعناه الحقيقي ينطلق حقيقة من أعماق الإنسان ومن سويداء قلب الإنسان لذلك قال القرآن الكريم: » والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين«. كان الأستاذ الهاشمي الفيلالي من المؤسسين للحركة الوطنية المغربية وكان سيدي عبد الرحمان ربيحة من العاملين المخلصين في سبيل تعزيز وتقوية الحركة الوطنية الاستقلالية ولذلك لا نستغرب ان نجد الرجلين كلاهما يواجه سجون الاستعمار ويواجه الطغيان الاستعماري كل من موقعه، سيدي الهاشمي الفيلالي من موقع القيادة، والأخ المجاهد سيدي عبد الرحمان ربيحة من موقع المناضل الذي لا يتردد في تنفيذ التعليمات ولا يتردد في الدفاع عن القيم والمبادئ الوطنية. ويمتاز كل منهما بأن الرجلين رغم التعذيب ورغم المحن ورغم كل الصعاب، ورغم كل جبروت الاستعمار وطغيانه، فلم يتردد أي واحد منهما عن مواصلة السير ومواصلة العمل ومواصلة النضال ويرجع الفضل في ذلك إلى ما في هذه المدينة من حصن حصين للقيم النضالية والجهادية وما في هذه المدينة من مصنع ومعمل لصناعة الرجال وسقل مواهبهم وتقوية إرادتهم وشحذ عزيمتهم والدفع بهم إلى الأمام في سبيل الحق ونصرة الحق ونصرة العدالة واعني بذلك جامعة القرويين. ان سيدي عبد الرحمان ربيحة الذي كان تلميذا متخرجا على يد سيدي الهاشمي الفيلالي كان مثالا لعالم القرويين الذي لا يتردد في القيام بواجب العلم الذي يتحمل أمانة الرسالة، لأن العلماء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ورثة الأنبياء) فهم يحملون العلم وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين، هذا هو الدور الذي قام به كل منهما. وإذا كان العمل الوطني عملا شاقا يتطلب التضحية والعمل بالليل والنهار فان الرجلين مع ذلك وجدا متسعا من الوقت واستطاعا بالتضحية ونكران الذات ان يجد كل واحد منهما وقتا للاشتغال بالعلم والمعرفة، كلاهما اشتغل أستاذا ومربيا ومعلما. وكلاهما اشتغل كاتبا ومحررا، فسيدي الهاشمي الفيلالي رغم مسؤولياته القيادية فقد كان بجانب أخيه الشهيد سيدي عبد العزيز بن إدريس وبجانب أخيه زعيم التحرير الأستاذ علال الفاسي يعملون ويسهرون ليحرروا وليحققوا الكتب المعنية بتاريخ المغرب حتى يستطيع المغاربة ان يقرأوا تاريخهم وان يطلعوا عليه، وان يعرفوه وان يدرسوه، كما أنه لم تشغلهم مقاومة الاستعمار، ولم تشغلهم العمليات التنظيمية فلم يشغلهم عن ذلك الواجب العلمي أي شاغل والأحداث التي عرفتها فاس من بداية الثلاثينيات إلى تحقيق الاستقلال كانا في مقدمة الذين يوضعون رهن الاعتقال، ولكن قبل ذلك في مقدمة الذين يقودون المظاهرات وينظمونها ويسيرونها ويخططون لها كان الهاشمي الفيلالي وكان عبد الرحمان ربيحة من الأسماء اللامعة في وقت المحنة والشدة، وأحداث 1944 يوم 31 يناير وما قبلها وما بعدها، كان عبد الرحمان ربيحة رحمه الله في مقدمة الخطباء وكان في مقدمة الذين اعتقلوا ونفوا وعذبوا وشردوا دفاعا عن المطالبة بالاستقلال واحتجاجا على اعتقال القادة الثلاثة في مدينة فاس ج أحمد مكوار والهاشمي الفيلالي وعبد العزيز بن إدريس ولكنه ما وهن وما استكان، وعندما انتقل سيدي الهاشمي الفيلالي إلى الدارالبيضاء مرغما ومكرها بقي سيدي عبد الرحمان ربيحة في موقعه يناضل سواء في التعليم الحر أو في القرويين أو في تأطير طلبة القرويين الذين يعملون في صفوف حزب الاستقلال. كان ينظمهم ويصلهم بالصلات التي كان يقررها الحزب لهؤلاء يذهب بها إلى كل واحد في بيته في المدرسة أو في بيته السكني الذي يسكن فيه، وكان يبلغهم تعليمات الحزب، ويبلغهم ما يقرره الحزب، ولم يكن الحزب يقرر ضد المواطنين ولا ضد الوطنيين ولا ضد المغاربة وإنما كان يقرر كيف يعمل المغاربة ليتحرروا من الاستعمار وليتحرروا من الظلم، وليتحرروا من الغبن الذي كان يسلط عليهم من الاستعمار سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا، هؤلاء الجنود الذين كانوا يتحركون كان السيد عبد الرحمان ربيحة في مقدمتهم. ذهب سيدي الهاشمي الفيلالي إلى البيضاء وكان نعمة على تلك المدينة كان نعمة عليها لأنه الذي استطاع ان يربي المناضلين والوطنيين وان ينظمهم ويخرج من بينهم المقاومين الأشداء مثل محمد الزرقطوني وغيره من المقاومين وهكذا كان كل واحد منهما يقوم بدوره كاملا في سبيل الحرية وفي سبيل العزة والكرامة ويتحقق الاستقلال ويلتقى الرجلان عندما أصبح لمدة وجيزة سيدي الهاشمي الفيلالي مفتشا لحزب الاستقلال في مدينة فاس من خرف 1955 إلى نهاية 1956، أو بعدها بقليل كان العمل الوطني آنذاك على أشده لأن المرحلة كانت مرحلة جديدة تتطلب تضحيات جديدة وتتطلب التغلب عن الاندفاعات والشهوات والأطماع التي كانت تحرك بعض الناس وتدفع به لكي يكيدوا ويتآمروا ضد الحزب وضد الوطنية وضد الاستقلال لكنه ما لبت السي الهاشمي الفيلالي ان غادر مدينة فاس لان الحزب أراد يكلفه بمهمة في الرباط ثم البيضاء وهذه هي الصفات التي تجمع بين الرجلين ان كلا منهما لا يتردد في تنفيذ كل ما يقرره إخوانه إذا تقرر أن ينتقل سي الهاشمي الفيلالي إلى فاس أتى إلى فاس وعندما يقرر الحزب ان يذهب إلى الرباط أو إلى البيضاء أو يقرر أن يذهب سيدي عبد العزيز بن إدريس العمراوي الشهيد إلى أكادير، فكل واحد من هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين حرروا المغرب بتضحياتهم ونكران ذاتهم لم يكونوا يترددون، بهذه الروح روح التضحية ونكران الذات وبالتواضع. تواضع المجاهد وتواضع المؤمن، لأن هؤلاء استعملهم الله سبحانه وتعالى فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:( ان الله تعالى إذا أراد خيرا بعبده استعمله أو كما قال عليه السلام فقيل له يا رسول الله كيف يستعمله قال:( يهيئ له الأسباب ليقوم بالعمل الصالح قبل موته) أو كما قال عليه السلام. فهؤلاء المجاهدون العلماء استعملوا لخدمة الوطنية : استعملوا للدفاع عن القيم الحقيقية للإسلام، وتحرير المواطن المغربي مما كان يرين على قلوب الناس من الخرافات ومن الأباطيل، هكذا كان هؤلاء الرجال، ولما جاء الاستقلال قاسى كل واحد منهما من موقعة من الظلم الجديد الذي مورس على المغاربة وعلى الوطنيين في سنوات ما بعد الاستقلال، ان الجهاد من أجل تحرير الإنسان المغربي من الظلم ومن الاستعمار البلدي كما كان يقول الزعيم علا الفاسي، تحرير الإنسان من الاستعمار البلدي كان أشد وأقسى على النفس كما يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند كان كل واحد منهما يعمل من أجل بناء المغرب، ولكن المغرب المتحرر المغرب الديمقراطي، المغرب العادل، المغرب الذي ينال فيه كل واحد حقه من الخيرات ومما أفاء الله على هذه الأرض من الطيبات ومن الكرامة المقرونة بالرزق الطيب، كما قال القرآن الكريم: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات)، فالرزق الطيب الحلال الذي يكسبه الإنسان بكد يمينه وعرق جبينه هو جزء من الكرامة التي خلق الله الإنسان مقرونا بها. لا نتحدث عما قاساه كل واحد منهما في المحنة الكبرى وفي الفتنة الكبرى التي عرفها حزب الاستقلال. ان الأستاذ الهاشمي الفيلالي رحمه الله الذي تولى إعادة تنظيم مدينة الدارالبيضاء بعد الانفصال سنة 1959 والذي عمل وسعى مع أخينا الأستاذ مَحمد الدويري لإعادة بناء النقابة: الاتحاد العام للشغالين بالمغرب سيدي الهاشمي الفيلالي الذي أعاد للحزب مكانته في مدينة الدارالبيضاء واستحق أي ينتخب رغم التزوير ورغم التلاعب ورغم الضغط ورغم الإرهاب استطاع أن ينتخب في برلمان 1963. بجهاده وتضحياته. وجاءت حالة الاستثناء فقد قام كل واحد منهما بدوره الذي كان من المنتظر أن يقوم كل واحد منهما به وانتم أيها الإخوة في مدينة فاس، من منكم لا يعرف عبد الرحمان ربيحة بخطبه النارية بدروسه الوعظية باتصالاته وحضوره في الحلقات الحزبية بمحاضراته بتنقلاته في إقليمفاس ونواحي فاس للتربية وللتوجيه، جميع سكان مدينة فاس يعرفون ما كان يقدمه في خطبه بمسجد الأندلس ويعرفون ما كان يقدم من زاد فكري وعلمي وتوجيهي في خطبه يومي العيدين، المواطنون المغاربة يعرفون كذلك ويدركون ولكنه قل منهم من يعرف انه كان يخضع للتحقيق وكان يستجوب ويستدعى إلى الاستعلامات المغربية ويستجوب عن الكلمات وعن الجمل وعن التعابير وعن الإشارات والمضامين التي كانت تأتي في خطبه، ولكنه لم يكن من أولئك الذين يشتكون او يقولون أنني استدعيت او ترددت على البوليس ليستقصي ما أقول، إذ كان يترفع عن أن يشتكي. ولكنه كان يجيب الإجابات المنتظرة من العالم المجاهد، أيها الإخوة انه ليس لدي الوقت لاستعرض نضالات هذين الرجلين وما قاما به بعد الاستقلال، لأن النضال بعد الاستقلال كان اشد لان المعركة مع الفرانسيس كان فيها الخصم واضحا وكانت المعركة واضحة، لكن المعركة في الهرج والمرج وعندما يختلط الحابل بالنابل، وعندما يخلط الناس الحق بالأباطيل وعندما تقوم فئات وجهات معينة بتقديم الترهات وتقديم الأباطيل يصعب على الناس ان يميزوا بين الحق وبين الباطل، أما مقاومة الاستعمار ففيه الضغط وفيه التشريد، وفيه التعذيب، ولكن الناس كانوا يدركون ما يقوم به المناضلون ويباركونه، وأما في معركة الديمقراطية، في معركة العدالة، في معركة الحرية فكثير من الناس لا يدركون حقيقة المعركة التي كان يقوم بها هؤلاء الرجال وإخوانهم وأصدقاؤهم الذين كانوا بجانبهم. إننا اليوم حينما نجتمع في هذا الحفل وفي هذه المناسبة بدعوة كريمة من المجلس العلمي ومن المجلس الحضري الذي شرفنا بإلقاء هذه الكلمة باسمي وباسم الحزب لأن هاتين المؤسستين العلمية والمنتخبة يقدران مجهودات هؤلاء الرجال سواء منهم من مات ومن بقي على قيد الحياة. ان سيدي عبد الرحمان ربيحة وسيدي الهاشمي الفيلالي يصدق فيهما ما قاله الجرجاني في نفسه وفي العلماء أمثاله وأمثالهما عندما قال: يقولون فيك انقباض وإنما اذا قيل هذا منهل قلت قد رأى ولم اقض حق العلم اذ كان كلما ولم ابذل في خدمة العلم مهجتي أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة اذا قيل هذا منهل قلت قدارى رأوا رجلا عن موقف الذل أحجم ولكن نفس الحر تحتمل الظما بدا لي مطمع صيرته لي سلما لاخدم من لقيت ولكن لاخدما اذن فاتباع الجهل كان احجما ولكن نفس الحر تحتمل الظما لقد كانا عالمين وكانا من العلماء الرجال الذين يضعون العلم في مكانته ويضعون النضال في مكانته، ونحمد الله ان هذه المدينة فيها من العلماء ومن الأساتذة ومن الرجالات الذين أخذوا المشعل في الاتجاه الصحيح دفاعا عن القيم الإسلامية ودفاعا عن القيم الوطنية رحم الله الفقيدين العزيزين وعزاء لذويهما وأسرتيهما وعزاء لنا جميعا وعزاء للعلماء وللمثقفين وللوطنيين ولكل المغاربة. والسلام عليكم ورحمة الله.