فيكين بربريان، كاتب أمريكي ولد في لبنان لعائلة أرمنية، غادر بيروت في طفولته ليستقر في لوس أنجلس، ومن ثم في نيويورك حيث أتم دراسته في جامعة كولومبيا، كما في مدرسة لندن للاقتصاد. وهو يعيش حاليا في باريس. روايته الأولى، حملت عنوان «الدراج» وترجمت إلى عدد من اللغات الأخرى. مؤخرا صدرت له رواية جديدة بعنوان «رأس المال»، ترجمت إلى الفرنسية، ويبدو فيها كأنه «تنبأ» بالأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم اليوم، وذلك بسبب النظام الرأسمالي «الأعمى والكاذب» الذي يقود العالم. في روايته هذه يراقب بربريان العالم والإنسانية، حيث يتحدث عن «أنبياء» الاقتصاد الذين لا يرون سوى المال. رواية أيضا عن الحب في ظل هذا العالم المادي. حول الترجمة أجرت مجلة «فلوكتويات» حوارا مع الكاتب، هنا ترجمة له: { يتراءى كأنك تعرف عالم المال والاقتصاد جديا. هل تستطيع أن تخبرنا أكثر عن مسارك المهني؟ لست خبيرا مثل «جيروم كيرفييل»، لكني في الواقع عملت لسنوات عدة كمحلل اقتصادي في شركة إدارية في نيويورك، وهذا ما أتاح لي أن أتآلف مع لغة المؤسسات الاقتصادية «الباطنية». أقول باطنية لأنها لغة ترتكز على مصطلحات شبه علمية ما يسمح للاقتصاد، بخاصة، بأن يتزين بمسحة من السلطة والدقة. من هنا، تشكل رواية «رأس المال»، في جزء منها، سخرية من الناس الذين يحتلون هذا العالم. هؤلاء الأشخاص يمتلكون بشكل عام «أنا متضخمة» ومهمة ويحبون أن يتحدثوا عن «الشحوم» وعن قانون مغناطيسي... الخ. تكمن المشكلة في أننا نعيش في عالم مغناطيسي ولا ننتبه لذلك إلا في أزمنة الأزمات الاقتصادية الكبرى، حيث تبرز حادثة غير متوقعة، أو شيء لم يكن مبرمجا ليثير رعبا كبيرا وكارثة اقتصادية كهذه الكارثة التي نجتازها اليوم. من المؤكد أن تجربتي الشخصية أفادتني في الكتابة، على الرغم من أن كتابي لا يتمحور على هذه الموضوعة فقط. كنت أرغب ، حين كتبته ، في أن أستعمل اللغة المشفرة ل «وول ستريت» وأن أجعل منها لغة أكثر أدبية. كنت أرغب أيضا في أن أكتب عن أشياء مثل الأدب والحب، ولا يمكن لنا أن نقصرها على صيغ رياضية منطقية، لكنها تحيل الحياة أكثر روعة، ولا نفرد لها مساحة أكبر في حياتنا. { يبدو توقيت صدور كتابك مناسبا مع الأزمة الاقتصادية التي نجتازها. بعض المقاطع في كتابك تبدو بخصوص هذا الموضوع مقاطع تنبئية. هل تعيد هذه الكتابة اليوم؟ هل ترى أن نظامنا الاقتصادي قد وصل إلى حدوده الأقصى؟ التكهن الوحيد الذي أخاطر بالحديث عنه هو أنه سيكون هناك دائما أناس يستطيعون أن يتكهنوا. وإذا وجب عليّ صوغ فكرة واحدة بخصوص المثال الاقتصادي فهي تكمن بالطريقة غير المسؤولة للسلطات الاقتصادية التي سمحت «للغلاس ستيغل أكت» العام 1933 بأن يستنسخ العام 1999 . بعض الاصلاحات في قانون الغلاس ستيغل الأصلية كانت موجهة لإدارة المضاربات عبر الفصل ما بين الاستثمارات المصرفية والاستثمارات التجارية، ليمنعوا بذلك المصارف التجارية من أن تتدخل في الاستثمارات المضاربة. إن استنساخ هذا القانون بدا عملا أخرق، وقد قادنا إلى هذه الحالة التي نحن فيها اليوم: كل ذلك لم يفعل شيئا سوى تشجيع المصارف بالعودة إلى نشاطات المضاربة التجارية، والتي قادت إلى نتائج مفرطة. وهذا ما نشهده حاليا، أي نشهد هذه العودة إلى نوع من التفريق بين الاستثمار التجاري والاستثمار المصرفي، كما إلى مراقبة فيدرالية متزايدة. لألخص كلامي، لقد فقدنا الثقة، بوحشية، في المثال الأميركي للسوق الحرة، وإزاء ذلك لا يمكننا إلا أن نأمل أن تتم إحاطة هذه الاسرافات بشكل قوي. إن الدرس الذي يجب استخلاصه من ذلك كله هو أن هناك العديد من الأحداث المجهولة وغير المتوقعة والسريعة التأثر، التي تسيء كثيرا إلى النسق الذي لا يريد خبراؤنا المزعومون أن يصدقوها. لا يمكننا أبدا أن نتكهن بحرب أو بإفلاس مفاجئ. تماما كما لا يمكن لنا أن نتكهن بالحب. لذلك أقدم اعتذاري إلى نوستراداموس. { قورنت روايتك ببعض روايات دو دوليلو. أما من جهتي فقد جعلتني أفكر برواية «أميركان بسيكو» لبرت إيستون إيليس كما برواية غلاموراما. ما رأيك بذلك؟ هل كنت تفكر في بعض الكتب حين كنت تكتب «رأس المال»، أم أن تأثيراتك كانت تأثيرات إيديولوجية صافية؟ حدث أني لم أقرأ بعد لا رواية «أميركان بسيكو» ولا رواية غلاموراما. أما إحدى روايات دون دوليلو المفضلة لديّ فهي رواية «الأسماء»، ربما لأنه يتحدث فيها عن «الأركيولوجيا» بصفتها نظاما بقدر ما هي لغة، وربما لأنها تدور في العديد من الأمكنة: لبنان، اليونان، الهند. أحب الكتّاب الذين يهتمون بالعالم لا بالولاياتالمتحدة فقط. وهم عديدون: دورنمات، توماس بينشون، بول باولز، بول نيزان، كارير، كلود سيمون، جورج بيريك، كنوت هامسون، اسماعيل كاداريه، زيبالد، فيليب روث، أورهان باموق، نينا بربروفا... هناك أيضا العديد من الكتاب المتأرجحين بين العديد من الجغرافيات والثقافات. أحب أيضا غروشو ماركس، لا كارل بطبيعة الحال. { بخصوص أليكس، الشخصية النسائية في الكتاب، أشعر بأن القارئ يشعر تجاهها بأمر لا يمكن له أن يعبر عنه، وبخاصة في بداية الكتاب. كيف تشرح لنا أنها وقعت في غرام شخص مماثل؟ هل تقصد بقولك هذا أنه من المعيب أن نقع في غرام شخص غريب؟ من الصعب دائما شرح لماذا الناس يرتبطون بعضهم ببعض. ما من قاعدة رياضية تستطيع أن تشرح هذه الظاهرة. تماما كما تفيد جملة أينشتاين التي أضعها في مقدمة روايتي: «لا يمكن لنقطة الارتكاز أن تكون مسؤولة عن واقع أن البشر يقعون في الغرام». هذا القول يستدعي قولا آخر؛ إننا لا نتحدث عن العلم هنا. { ما المشروع الذي تعمل عليه حاليا؟ التكلم على الموضوعات التي أحضرها قد يجلب النحس. لأقل فقط إن كتابي التالي تدور أحداثه في أربعة بلدان مختلفة، وإن هناك رحلة طويلة في الباص. وكما في روايتي السابقتين، يتطلب الأمر توثيقا هائلا. جلسة واحدة مع عبد الرحيم تذيب الجليد وتبيد أسباب الخطاب الصدامي جميعها، فيهب شاعر البحر ورياح الشركي، مبارك الراجي، واقفا يحضن العميد الممتاز للشرطة القضائية بين ذراعيه ويهتف: «الآن... الآن أصالحك يا وطني». أذكر أن الاصدقاء كانوا يتقاطرون تباعا، وعقارب الساعة تجري الى أجل مسمى، والسقاط يشدو بلسان الحال «أنا شبح راكض مسرع»، فيشدو لشذوه أبو شادي« مع الزمان... يا زمان». زمن عبد الرحيم راكض مسرع حقا، ولكنه يحياه بكثافة عالية، وسيلته في ذلك روح فياضة تخص الاصدقاء من حوله، كل على حدة حتى وقد فاق عددهم الأحد عشر كوكبا، بعناية خاصة وترحاب لا مراء فيه. مرت أيام، ولعلها أسابيع، قبل أن نلتقي من جديد، كان ذلك عشية يوم فائض، وكنت أعبر شارع الجيش الملكي كيفما اتفق،لما أطل علي من نافذة مقهى حسان: «واذاك الهرقاويى»، آه؟». كان لوحده، ولم يكن ورائي شيء يذكر، فكانت جلسة أخرى ممتعة ومفيدة، في متمها صرت من الخاصة... ثم خاصة الخاصة، حتى صار يفتح لي باب داره، وأدراج مكتبه ودفاتر خسرانه. أذكر أنه يومها استهل الحديث بالسؤال عن أحوال أصدقاء الليلة الفائتة ليتوقف عند صاحب ديوان بهاء النسيان... فتيمة «النسيان» في الأدب المغربي ثم العربي والعالمي. تحدث بتركيز دراية تبعثان على الاعتقاد بأنه منكب على هذه التيمة منذ أمد، ولربما كان بصدد إعداد دراسة أو أطروحة في الموضوع! لكنه حيال صمتي الطويل توقف عن الحديث فجأة ونظر الى المارة والسيارات من خلال النافذة.. قال: «الحال سخون، ياك؟» في إشارة الى أن وجبة أدبية دسمة كهذه لا تتلاءم وقيض ذلك النهار. كان علي أن أتدارك الموقف، فالحر شديد ولكن خارج المقهى، أما في الداخل فالجو مكيف معطر، وفيروز تغني: على دير البوسطة... قلت إنما أبحث عن أثر ما أسمع منك في كل ما قرأت لك، يا صديقي. انتابه ذاك الفرح الطفولي الذي ينتاب الكاتب في حضرة قارئه. رفع الكأس في صحتي، والعين في العين، وفيروز تغني، «يخرب بيت عيونك يا عالية، شو حلوين!». سأعرف فيما بعد أن عبد الرحيم كان يشتغل على تيمة النسيان والذاكرة في إطار مشروع روائي يريد له أن يكون باكورة أعماله الأدبية. كنا عائدين من المحمدية في ساعة متقدمة من الصباح، وكان يتحدث عن رجل يرزح تحت وزر ذاكرة لا تنسى، حتى أن نعمتها انقلبت نقمة، ونقيض له يرفل في بهاء النسيان، وإذا كان عبد الرحيم قد حسم في أمر ذي الذاكرة المرعبة بما أنه هو نفسه يتمتع بذاكرة قوية ويعتزم الدفع بها الى مداها عملا بالقول المأثور، وداويني بالتي كانت هي الداء... إذا كان قد حسم في أمر الراوي، فإن أمر النقيض شغل باله ردحا من الزمان غير قصير، فطارد ظله في الأزقة والدروب والطرق السيارة، من اخليفة ومسناوة حتى كيرا في أغاني ناس الغيوان. كما طارد ظله في شخوص روائية أهمها على الاطلاق شخصية الأبله لدوستويفسكي! هذه الزاوية يعدها الزميل حسن نرايس الحاجز الأكبر : الإنسانية نفسها لقد رسمنا ههنا الخطاطة العقلانية والإنسانوية لمجتمع عالمي، وكأن هذا العالم كان ينبغي أن يتشكل وفقاً لهذه العقلانية وهذه الإنسانوية. لكن لن نفلح في أن نخفي عن أعيننا الحواجز الهائلة التي تحول دون تحقيق هذا الأمر. وأول هذه الحواجز واقع أن الميل إلى توحيد المجتمع العالمي يلاقي مقاومات قطرية وعرقية ودينية، تميل إلى بلقنة كوكب الأرض، وأن إزالة تلك المقاومات يفترض هيمنة تامة وكاملة. فنحن نرى في المقام الأول قلة النضج لدى الولاياتالمتحدة، وقلة النضج في الأوعاء؛ أي أننا نرى بشكل أساسي قلة نضج للإنسانية تحدث من تلقائها. ومعنى ذلك في الوقت نفسه أن هذا المجتمع لن يصير مجتمعاً عالمياً متحضراً على النحو الذي كان توقعنا له، بل ستصير، إن أفلح في أن يتشكل، مجتمعاً عالمياً فظاً وهمجياً. وهنالك إمكانية لقيام حكومة إمبريالية، تضمنها الولاياتالمتحدة وتتكفل بها، لتكون منافسة لإمكانية قيام مجتمع عالمي متحد. ففي الوقت الذي بدأنا نسير صوب مجتمع عالمي، إذا نحن نسير كذلك نحو تشكل إمبراطورية عالمية. حقاً إن هذه الإمبراطورية العالمية لا يمكنها بأي حال أن تشمل الصين، لكن يمكنها أن تشمل أوروبا وروسيا بصفة التابعتين. حقاً ،إن الطابع الديمقراطي والمتعدد الأعراق للولايات المتحدة سيحول دون قيام إمبراطورية عنصرية وكليانية. لكنه لم يمنع من قيام همينة عنيفة وقاسية على غير الامتثاليين وعلى أشكال المقاومة التي تتصدى للمصالح الهيمنية. وفوق ذلك فأياً كانت السبيل إلى الإصلاح، فإن المجتمع العالمي لن يلغي من نفسه أشكال الاستغلال والهيمنة والجحود والتفاوتات القائمة. فلن يحل المجتمع العالمي من تلقائه المشكلات الخطيرة التي تحبل بها مجتمعاتنا ويزخر بها عالمنا، لكن تلك هي السبيل الوحيدة التي ربما أمكن للعالم أن يحرز التقدم فيها. وحقاً إننا يمكننا انطلاقاً من مجتمع عالمي، كما يمكننا انطلاقاً من إمبراطورية عالمية، أن نستبين سبيلاً طويلة تقودنا إلى مواطنة وإلى تهدئة كوكبيتين. فلقد تأسست الإمبراطورية الرومانية على قرنين من الصيد والغزو الشرسين، لكن في سنة 212 جاء مرسوم كاراكالا ليمنح المواطنة لجميع رعايا الإمبراطورية. معنى ذلك أننا وصلنا، ليس إلى نهاية للتاريخ، بل إلى بوادر بداية جديدة، ستتضمن، ككل البدايات، همجية وفظاعة، وأن السبيل إلى إنسانية متحضرة ستكون طويلة وغير مأمونة. وسنخوض ذلك المسير على نحو ما ابتدأ منذ أن كانت كارثة هيروشيما، في ظل الموت. وربما كانت تلك البداية نهاية أيضاً. وعليه، فسواء أتحقق مجتمع عالمي أو إمبراطورية عالمية، فإن ذلك لن ينهي المشكلة الرئيسية. وليس ما نرى مجرد سورة وتنافس على المصالح والمطامح والسلطات وضروب الاستغلال التي تشجع عليها حالة العالم الراهنة. فليست سورات التعصب هي التي تؤجج الصدامات بين الثقافات؛ بل تساهم فيها كذلك النزعات الفردانية الغربية، كما تسهم فيها النزعات الجماعية التي نراها في كل مكان، آخذة في التضخم في وقت واحد على كوكب الأرض، وتشجع الشر المتأصل في الفهم البشري. إن الطابع الإنسانوي للمجتمعات الغربية يساعد من الناحية المبدئية على الفهم، بيد أن هذه النزعة الإنسانوية سرعان ما تتعرض للكبت ما تتعارض مع مجتمعات أخرى. والنزعة الفردانية الغربية تشجع على المركزية العرقية، والمصلحة الفردية، والتبرير الذاتي، أكثر مما تشجع على فهم الآخر، وذلك كان السبب في الكوارث التي يحدثها عدم الفهم داخل الأسر والمجموعات وأماكن الشغل، ويحدثها، بطبيعة الحال، لدى أولئك الذين يفترض بهم أن يدرسوا الفهم : المربون. وفي الوقت نفسه، فدعاة الانغلاق للجماعات بعضها عن بعض، في جميع الحضارات، يتسببون في ضروب من عدم الفهم بين الشعوب والأمم والأديان. وذلك كان السبب في الانتشار والاتساع الذي صار لضروب عدم الفهم في الاتساع والاحتداد اللذين صارا يطبعان النزاعات ويتطابقان مع سيرورة ظهور المجتمع العالمي، ويجهدان على الدوام لتقويض هذا الظهور. لم يطلع علينا بوذا جديد، ولا مسيح جديد، ولا نبي جديد ليدعو إلى إصلاح العقول، وإصلاح الأشخاص، وهو وحده الذي يمكنه أن يسمح بفهم بني البشر. لكن ينبغي، خدمة للحضارة المعولمة، أن تحدث أشكال من التقدم في الفكر البشري، ليس في قدراته التقنية والرياضية، وليس في معرفة التعقدات فحسب، بل وفي دخيلته النفسية. ونحن نرى من بوضوح أن إصلاحاً للحضارة الغربية ولسائر الحضارات أمر بات ضرورياً، وأن إصلاحاً جذرياً لجميع أنظمة التعليم أمر بات لازماً، ونرى بالقدر نفسه من الوضوح كيف يسود الوعي التام والعميق بضرورة ذلك الإصلاح. إن الحاجة إلى هذا الإصلاح الداخلي للأذهان والأشخاص، التي باتت ضرورة لازمة للسياسة، هي بطبيعة الحال شيء لا تستبينه السياسات. وكذلك، وعلى نحو مفارق، فإن الخطاطة التي قمنا برسمها لسياسة للبشرية وسياسة للحضارة، وإن تكن توافق إمكانيات مادية وتقنية، فإنها تعتبر إمكانية غير ممكنة في الوقت الحالي. ولذلك ستظل البشرية لوقت طويل تقاسي ألم المخاض، أو ألم الإجهاض، أياً كانت السبيل التي ستفرض نفسها عليها. وهكذا، فإن المشكلة المبدئية تظل قائمة حتى مع فرضية قيام اتحاد كوكبي؛ فإذا لم يكن في الإمكان كف المطامح والنهم إلى الربح والعمى عن الفهم والإدراك، وباختصار إذا لم يكن في الإمكان كف الجوانب الأشد انحرافاً وهمجية وغريزية في الكائن البشري، أو تنظيمها على الأقل، ولم يتهيأ إصلاح للفكر، وإصلاح، كذلك، للكائن البشري نفسه، فإن المجتمع العالمي سيتعرض لكل ما ظل إلى اليوم يصبغ وجه التاريخ البشري وتاريخ الإمبراطوريات والأمم بالدم والوحشية. فكيف يتحقق إصلاح مثل هذا الإصلاح، الذي يفترض إصلاحاً جذرياً لأنظمة التعليم، ويفترض وجود تيار قوي من الفهم والتعاطف في العالم، وإنجيل جديد، وعقليات جديدة. وإن السبيلين لإصلاح للبشرية قد وصلا معا إلى مأزق واحد. فالسبيل الداخلية، سبيل الأفكار والأرواح، وسبيل الأخلاقيات، والإحسان والمواساة لم تفلح قط في القضاء التام على الهمجية البشرية. والسبيل الخارجية، سبيل تغيير المؤسسات والهياكل الاجتماعية، وقد أدت إلى الفشل النهائي والرهيب؛ حيث كان استئصال الطبقة المهيمنة المستغلة دافعاً إلى تكون طبقة جديدة مهيمنة ومستغلة أسوأ من سابقتها. وحقاً إن السبيلين معاً بحاجة إلى بعضهما. فيبغي التأليف بينهما. كيف؟ إننا لم نصل بعد إلى مستوى البداية، فنحن في طور تمهيدي، ربما أدت فيه سورة متفلتة من أي عقال إلى محو كل إمكانية لبداية جديدة. إنها سورة المحرك الرباعي العلم والتقنية والصناعة والربح، مقترنة بسورة الهمجيات التي تحدثها ويبتعثها الفوضى الكوكبية. إن أسوأ تهديد وأكبر تبشير يحدثان في وقت واحد في هذا القرن. فمن جهة نرى التقدم العلمي والتقني يتيح إمكانيات للتقدم لم يكن للناس بها من عهد إلى اليوم، بالقياس إلى الكراهات المادية والآلات والبيروقراطيات، وبالقياس إلى الإكراهات الحياوية التي يشكلها المرض والموت. ومن جهة أخرى، نرى الموت الجماعي بالأسلحة الذرية والكيماوية والبيولوجية تخني بظله على البشرية؛ فالعصر الذهبي وعصر الرعب يواجهان مجتمعين مستقبلنا. فربما يمزجان في الاستمرارية، على صعيد اجتماعي جديد، من العصر الحديدي الكوكبي وعهد ما قبل التاريخ للفكر البشري...