سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
إدغار موران هل يسير العالم إلى الهاوية؟ . .أول كارثة كوكبية يسببها النقص العميق الذي يشكو منه أسلوبنا في المعرفة والجهل الذي ينطوي عليه هذا النمط من المعارف
هل تسير حضارتنا رأساً صوب الهاوية؟ ذلك هو السؤال الذي أدار عليه إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد كبار المفكرين وأكثرهم أصالة في زمننا الحاضر، كتابَه الجديد، الذي نقدم له ههنا ترجمة عربية. إنه كتاب يجمل فكر صاحبه، من رحلة طويلة في مقاربة الواقع العالمي المتغير وسؤال الفكر الملاحق لتغيراته. والمؤلف يستعرض في هذا الكتاب أوجه الأزمة التي تتخبط فيها الحضارة الحديثة، ويتوقف بإسهاب عند الإصلاح الذي يقترحه للعالم ولنظم التفكير. ويقلب النظر في ظواهر بعينها، كالعولمة، وظهور «المجتمع العالم»، ويتمعن في الجواب الذي يمكن أن تقدمه «سياسة حضارية» في سياق ما بعد أحداث 11 شتنبر. ليخلص إلى نتيجة أنه لاسبيل لحضارتنا إلى الخروج من أنفاقها المسدودة بغير التحول. يمكن للتقنية نفسها أن تُستعمَل فتخلق الأفضل كما تخلق الأسوأ. وكذلك تؤدي القوى العلمية/التقنية/الاقتصادية التي لم يعد للبشرية فيها من تحكم إلى صنوف من تدهور المجال الحيوي ستكون لها أسوأ العواقب وأفظعها على بقاء البشرية. فلنقل إن المحرك الرباعي الذي يؤلفه العلم والتقنية والاقتصاد والربح، والذي كان من المُفترض أن يخلق التقدم، أصبح اليوم يسيِّر المركبة الفضائية من غير أن يكون فيها ربان، وينطوي على تهديد بالموت : موت المجال الحيوي والموت النووي. بما يدل على وقوع قلب رهيب في الأمور. من المؤكد أن العلم ينير الظلمات، لكنه في الوقت نفسه يكون أعمى، بالنظر إلى أنه لم ينجح بعد إنجاز ثورة تتمثل في تجاوز الاختزالية وتجزيء الواقع اللذين تفرضهما التخصصات المنغلقة على بعضها. إنه يعجز عن أن يعيد تكوين رؤية شمولية. لكن يمكننا أن نؤمل بطبيعة الحال، أن يكون بمقدور علم جديد أن يتطور، ويتجدد. ويمكننا، كذلك، أن نذهب إلى الاعتقاد بأن التقنية التي أنتجت الآلات الخاضعة لمنطق آلي خالص - منطقي في المحصل، أعمله التيكنوقراط والإيقونوقراط على سائر المجتمعات - سيخلق آلات أفضل، وأكثر إدراكاً للتعقيدات، وأن الاقتصاد غير محكوماً بقانون المنافسة الذي تقوم عليه الليبرالية الجديدة، وينطوي على إمكانيات أخرى؛ من قبيل التجارة العادلة، والاقتصاد التضامني، أو لنقل ببساطة الاقتصاد المواطن. وأياً ما يكن، فإن التقدم بما هو يقينٌ، قد ولى وانتهى. وحتى ليمكننا أن نقول إننا بإزاء لايقين كبير. إن بالإمكان أن يحصل تقدم، لكن التقدم بحاجة على أن يظل متجدداً على الدوام. فلا يمكن لأي تقدم أن تُضمن له الاستمرارية. ومن قبيل ما نقول أن التعذيب قد اختفى من أوروبا في القرن التاسع عشر، فعاد إلى الظهور في سائر بلدان أوروبا في القرن العشرين. ونخص بالذكر ما نرى اليوم من تحالف بين الهمجيتين : الهمجية القديمة التي عرفناها في الحروب العرقية، وفي الحروب الدينية، وفي الحروب الأهلية، فهذه الهمجية تعود بقوة بكل ما تحفل به من حقد واحتقار وشتى أنواع الخريب وشتى صنوف القتل... والهمجية التقنية، تلك الهمجية التجريدية القائمة على الحساب التي يجهل بإنسانية الإنسان، أي يجهل بحياته، ويجهل بمشاعره، ويجهل بميوله، ويجهل بصنوف معاناته. هذه الاعتبارات جميعاً تتأدى بنا إلى فكرة وجوب تجاوز الأنوار. فينبغي أن نبحث عما بعد الأنوار. وأنا أد أقول «نتجاوز»، فأنا أريد التجاوز بالمعنى الذي يريده هيغلي بفعل « aufheben»، ويعني إدماج ما أصبح متجاوزاً، وإدماج ما يوجد في الأنوار من عناصر صحيحة، لكن مع شيء آخر. فما الذي نريده بما بعد الأنوار؟ فهذا يعني، أولاً، أنه ينبغي أن نعيد افتحاص العقل، فينبغي أن نتجاوز العقلانية المجردة، وإعطاء الأولوية للحساب وإعطاء الأولوية للمنطق المجرد. فينبغي أن نتخلص من العقل الريفي. وينبغي أن نكون مدركين للأمراض التي تصيب العقل. وينبغي أن نتجاوز العقل التشييئي الذي تحدث عنه أدورنو، ذلك العقل الموظف في خدمة أسوإ مشاريع القتل. بل وينبغي أن نمضي إلى حد تجاوز الفكرة القائلة بالعقل الخالص، إذ ليس من وجود لعقل خالص، وليس من وجود لعقلانية بدون شعور وبدون وجدان. ينبغي أن نقيم نمد جسور الحوار بين العقلانية والوجدان، ويكون لدينا عقل ممتزج بالشعور، لتكون لدينا عقلانية منفتحة. وينبغي أن نقوي من هذا التيار الأقلي في (خضم) هذا العالم الغربي أو الأوروبي، تيار العقلانية الناقدة للذات، التي ظلت، منذ مونطين وانتهاء بليفي شتراوس، تقر بحدودها، وتنطوي على نقد ذاتياً للغرب. وبتعبير آخر، إننا نحتاج عقلانية مركبة تواجه التناقضات واللايقين، من غير أن تغرقهما أو تحطمهما. بما يعني أن حاجتنا في ثورة معرفية، وحاجتنا في ثورة في المعرفة. ينبغي أن نحاول أن نطرد عنا الذكاء الأعمى الذي لا يرى غير القطع المنفصلة، والذي يعجز عن لحم الأجزاء إلى الكل، ووصل العنصر (الواحد) بسياقه، ويعجز عن تصور العصر الكوكبي ويعجز عن إدراك المشكلة البيئية. ويمكننا القول إن المأساة البيئية التي ابتدأت (الآن) هي أول كارثة كوكبية يسببها النقص العميق الذي يشكو منه أسلوبنا في المعرفة والجهل الذي ينطوي عليه هذا النمط من المعارف. فانهيار التصور المضيء للعقلانية (أعني ذلك التصور الذي يسلط (على الأشياء) ضوءاً ساطعاً ويبدد الظلمة بواسطة أفكار منيرة وجلية، وبواسطة منطق الحتمية)، التي تجعل، بطبيعتها، بالفوضى وتجهل بالصدفة. ينبغي أن نتصور الواقع المركب، وهو نتيجة لخليط متغير على الدوام للنظام والفوضى والتنظيم. وينبغي أن نعرف أن يوجد مبدأ تنظيمي، كما يوجد مبدأ لاتنظيمي في العالم بموجب المبدإ الثاني في الدينامية الحرارية. وينبغي أن ندرك أن الكون معقد، وسيظل يحفل على الدوام بالنسبة لفكرنا باللايقين والتناقض. وينبغي أن ندرك أنه «مظلم حتى النبع الذي يولد منه نورنا»، كما قال دولاكروا. ينبغي أن ندرك أن غير المتوقع وغير المحتمل هما اللذان كثيراً ما يحدثان. فينبغي أن نستبدل التقدم الحتمي، والتقدم الضروري في كل شيء، أي في تصورنا للحياة، وفي تصورنا للتاريخ، وفي تصورنا للعالم. وإن ثمة مثالين يبينان أن غير المتوقع يحدث؛ فخلال الحروب الميدية، وقت أن أفلحت أثينا الصغيرة في أن تدفع عنها لمرتين الإمبراطورية الفارسية العظيمة، وخلال الحرب العالمية الثانية، على مشارف موسكو، في أواخر سنة 1941، وقت أن بكر شتاءٌ قبل أوانه، فأوقف تقدم الجيوش النازية.