هل تسير حضارتنا رأساً صوب الهاوية؟ ذلك هو السؤال الذي أدار عليه إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد كبار المفكرين وأكثرهم أصالة في زمننا الحاضر، كتابَه الجديد، الذي نقدم له ههنا ترجمة عربية. إنه كتاب يجمل فكر صاحبه، من رحلة طويلة في مقاربة الواقع العالمي المتغير وسؤال الفكر الملاحق لتغيراته. والمؤلف يستعرض في هذا الكتاب أوجه الأزمة التي تتخبط فيها الحضارة الحديثة، ويتوقف بإسهاب عند الإصلاح الذي يقترحه للعالم ولنظم التفكير. ويقلب النظر في ظواهر بعينها، كالعولمة، وظهور «المجتمع العالم»، ويتمعن في الجواب الذي يمكن أن تقدمه «سياسة حضارية» في سياق ما بعد أحداث 11 شتنبر. ليخلص إلى نتيجة أنه لاسبيل لحضارتنا إلى الخروج من أنفاقها المسدودة بغير التحول. إن وعياً أرضياً، يتجاوز الأوعاء الدولانية التي عرفتها العقود الأخيرة، يتهيأ للظهور، بفكرة أرض وطن نحن فيها أطفال. وبذا، ننتقل من عالم مجرد إلى عالم ملموس، إذ الأمر يتعلق بالأرض. وفي هذا، كذلك، فاتحة لحضارة جديدة، في البحث عن جودة الحياة والهاجس البيئي، وهو بحث له صلة قربى بما سمي في ألمانيا، في وقت من الأوقات، Lebensreform . لقد عرف العلم ثورات، في الفيزياء، وفي الفيزياء الدقيقة، كما عرف تلك الثورات في مضمار علوم الحياة، لمواجهة التعقد. ويمكننا، كذلك، أن نرهص بتحول في الكيمياء، وذلك بالانتقال من الآلة الحتمية إلى آلات تتمتع ببعض خصائص الحياة. هذه هي المشكلة الحالية. فأن نعرف الوسم الذي ينبغي أن نلصقه بحداثتنا أمر غير ذي أهمية. وأما المهم فهو أن نتتبع السيرورات. فينبغي أن نتجاوز الدقة المزعومة في التواريخ والأوسام، فنستمر في فهم الحداثة بما هي سيرورة زوبعية، أو تكرارية، يشترك كل عنصر من عناصرها في صنع العناصر الأخرى. وكما يفيدنا عنوان المجلة LaSer، فالحداثة تنتج مسوخاً كما تنتج عجائب، والسؤال كله يكمن في معرفة هل المسوخ هي التي ستقضي على العجائب، أم أن العجائب هي التي ستقضي على المسوخ. فيمكننا أن نستعير صورة متعلم الساحر؛ فنقول إننا أطلقنا قوى لا نستطيع التحكم فيها! وقد باتت مسلسلات التراجع والتخريب اليوم أكبر وأعظم؛ وباتت المحتمل كارثياً. لكن، وكما حدث كثيراً خلال التاريخ، فيمكن أن يحدث غير المحتمل. فقد كان المحتمل في سنوات 1940-1941، أن تتحقق هيمنة طويلة الأمد للإمبراطورية الهتلرية على أوروبا. وما هي إلا بضعة شهور حتى أصبح غير المحتمل محتملاً. وأعتقد أنه ينبغي أن نراهن دوماً على غير المحتمل. فإن هذا الأمر ينطوي على فعل من الثقة والأمل في بعض القدرات التوالدية لدى الفرد ولدى جماع بني البشر. فنحن نعرف على الصعيد الحياوي أن بعض الخلايا الجذعية إذا استيقظت كانت مولدة لأعضائنا ولكُهيرباتنا. وسيفيدنا المستقبل هل في الإمكان استعمالها. إن الكائن البشري ينطوي على استعدادات للتحول الذاتي تتنبه في حالات الأزمة، عندما تأخذ الأشياء المتصلبة في التفكك، في مواجهة المخاطر. فأنا أؤمن بالإمكانية التوليدية لكلية جديدة، عن طريق إدماج مختلف حضارات الشمال وحضارات الجنوب وحضارات الشرق وحضارات الغرب في بعضها. إنها «أرخي»، وما يوجد في الأصل، وما يقوم في البداية. فقد تحدث ماركس عن «الإنسان الجنسي»، ومعناه القدرة الخلاقة الكامنة في الكائن البشري. إن التطور، حتى في شكله الملطَّف الذي نرى صورته في التطور المستدام، يتمثل في اتباع السبيل المؤدية إلى الكارثة. فينبغي تغيير السبيل من أجل بداية جديدة. ثم جاء عصر الأنوار، بعد ما كان من الانفجار الذي تعرضت له النهضة، ليكون لحظة مركزية في تاريخ الفكر الأوروبي. لقد كان الحوار الكبير الذي ابتدأ مع عصر النهضة. أعني العلاقة التعارضية والتكاملية معاً التي تقوم بين الإيمان والشك، وبين العقل والجين، تجد مركزها لدى باسكال، الرجل الذي جمع بين لعقل والدين، وجمع بين الإيمان والشك. وقد تميز هذا الحوار الكبير خلال عصر الأنوار برجحان (وربما تسلط) للعقل. إن المؤكد أن عصر النهضة، الذي تحقق فيه انبعاث لفلسفة لم تعد خديمة للدين، قد أعاد بناء واستعادة موضوعة استقلالية العقل التي جاءتنا من اليونان، وأتاحت للعلوم أن تزدهر على أسس عقلية تجريبية مع غاليلي وديكارت وباكون. وقد مكن هذا الازدهار المتحقق للعلوم من معرفة موضوعات المعرفة، لكن بفصلها بعضها عن بعض وفصلها عن الذات العارفة، أي على وجه الإجمال بحل تعقدها. إن هذا العقل الذي ظهرت أصلاً في العلوم، ستصير له السيادة خلال القرن الثامن عشر في فرنسا. في هذه اللحظة، سيتفتح العقل، بما هو عقل بان للنظريات وما هو عقل نقدي. فالعقل النقدي سيتصدى بالنقد إلى الأساطير، والأديان، بطريقة قد أنعهتا بالقاصرة النظر لأنها لا تستطيع أن ترى غير المحتوى الإنساني في الأساطير وفي الدين. وكأننا بهذا العقل يبني نظرياته ، خاصة منها النظريات العلمية ، ويبني فكرة أن الإنسانية يقودها العقل. وهذا العقل السيد يصير كأنما بوضع بغاية إلهية في أسطورة أقرب إلى أن تكون دينية.