كانت تنتابني نزوعات مازوشية ،فبدت لي ألامي انتصارات ،وحرصت كل الحرص على أن نكون أحلام يقظتي متاعب وكوارث تحصل لي فأستدر بها عطف الناس علي و تقديرهم لي . إلى اليوم الذي استحال فيه حلم من أحلامي إلى رؤيا. لما قرأت لبورخيص بعض نصوصه أثارتني قدرة البصير على إرجاع الأشياء شفافة، فيظهر عمقها ، و تنجلي أسرارها ،ففطنت إلى أن البصير يرى أكثر من المبصر. فحلمت أني أصبت بالعمى. و كان عماي مبصرا. لأني رأيت العالم مرة و أغرقت في تفاصيله ثم أشحت وجهي عنه، فما عدت أرى منه إلا ما أرغب به. تلذذت بتمثل أزياء صديقاتي و ميزت في ذاكرتي بين الأحمر و الأسود. وخفت أن أنسى ملامح من أعرف، فعملت على تمرين ذاكرتي كل ليلة في استرجاع الوجوه و تفاصيلها ووجدتني أتقن تمييز النظرات و البسمات. و انشغلت عن العالم بذاكرتي و تقوت مع كل ما لا أرى ، بعد أن كنت تائهة في زمن رأيت فيه كل شيء إلا نفسي. تقوت علاقتي بدوا خلي، فأحببت عزلتي عن عالم مليء بأشياء تزعج العين و القلب معا . و فكرت في كتابة المشاعر و الرؤى. لم أدر متى استيقظت من حلمي لأجدني في صالة انتظار طبيب عيون..وحدي، يتصبب عرق بارد من ظهري، خائفة لأني كن أرى وجوه الناس وسطور كتبي و رفوف خزانتي معوجة.ظننته التعب فقال لي الطبيب انه تهديد بالعمى. ما أحسست يوما بخوف مماثل. لم أستطع إلا بكاءا يزيد مخاطر إصابتي بالعمى. زاد خوفي من أحلامي، و تخيلت للحظة أنها تطاردني، وتمد يدها لتخنقني و لعنت في سري العقل الذي لا يستطيع أن يبقى صاحيا. هربت من أفكاري ، وارتميت في أحضان أخرى لتنتشلني من عماي القريب ... كان انتظار العمى عسيرا ?من قال عسيرا- انه قاتل، إذ خمنت أني قد أموت قبل أن أجري عملية إنقاذ لنور تراءى لي حلما في ذلك الآن. بحت لنفسي بضعفي و قلة صبري و كرهت أحلام يقظتي و عرفت أن انتهائي حان، فما كنت أقدر أن أطيق نفسي بعين واحدة ترى من العالم نصفه فقط. مرت ساعات انتظار الخلاص ثقيلة ثقل همي...ثم حانت لحظة الفصل ; الأحلام و الرؤى، إما اللون الأسود أو الأحمر ، إما العالم و أنا ، أو أنا وحدي. الزمن وحده كان يعاندني لأعرفني. و في لحظة فقط ما كان من الممكن أن تتأخر أو تتقدم و لا أن تتكرر تلك اللحظة التي تنقسم فيها الحياة وردية أو سوداء، اللحظة حيث نحسم مع الموت;أننتصر؟ أم ينتصر؟ في تلك اللحظة رأيت ما كنت أعتقد أني أراه.كان فعل الرؤية هذه المرة مختلفا، فقد لمحت ثنايا النور، تكونه، وتشعباته،و ذلك الغبار الذي يتسلل الذي يعلو كل شعاع من أشعته، الإيقاع الذي يتسلل وفقه ليقابل أعيننا ، فيتسرب رويدا رويدا أو دفعة واحدة .الأمر سيان ما دام يتسرب. ما عادت الخطوط عوجاء و عاد الأنف و العينان و الفم في أحجام غير أحجامها، و ما عادت شدة اللون تخفت. رأيت الأشياء حقيقة لأول مرة، قدرتها في داخلي حتى تلك التي تبدو تافهة و صغيرة قد نستغني عنها. لم يكن الوقوف سهلا، و الجرح لا يزال يخترق العين. رغم ذلك حرصت على الوقوف طويلا حتى أستوعب أن هذا ما كان حلما. انه الخلاص ، انه الحياة المنبعثة كالمسيح، انه الربيع الذي يعقب الذي انبعاث تموز، انه توقف تقطيع عشتار لأطرافها. النور البعث النور الحياة.. النور الحقيقة النور الأنا كم كان النور جميلا و شفافا..