إن القضاء هو الملاذ الذي يلجأ إليه كل مكلوم لرفع الظلم و الجور عنه، سواء كان ذلك ناجما عن خطأ شخص، بشكل متعمد أو غير متعمد، أو تسبب فيه القدر أو سوء طالع المبتلي به. و تجسيدا لهذا المعنى العميق للدور المقدس للقضاء، فقد أنشئت محاكم ينتصب فيها قضاة أجلاء ينطقون بأحكام تقرر ما هو أقرب إلى العدل بين الناس، بناء على الحقيقة القضائية المستمدة من وقائع الدعوى و حجج الأطراف، على اعتبار أن العدل و الحقيقة المطلقين هما من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله عز و جل. إن الأمم و الشعوب المتحضرة قد تمر من ظروف صعبة و حرجة، أو قد تجتازها أزمات تهدد كيانها، بل و حتى وجودها في بعض الأحيان، إلا أن ما تشدد عليه دائما هو الحرص على حماية القضاء من انعكاسات، كل ذلك على عطائه و مردوده، باعتباره الضامن الأساسي للاستقرار و الأمن في بلدانها. و يمكن في هذا الصدد استحضار ما قاله الوزير الأول البريطاني السابق تشيرشيل، إبان الحرب العالمية الثانية، عندما كانت طائرات النازيين تمطر العاصمة لندن بوابل من قنابلها مدمرة الطرق و المؤسسات و البنايات الشاهقة و القصور الفخمة و المعالم العتيقة والتاريخية، متسببة في مقتل و تشريد جل قاطنيها، ورغم كل ذلك، وعند نهاية الغارات، فقد تساءل تشيرشيل عن وضعية مباني المحاكم و دُور القضاء و حالة رجالاته فقط، وعندما أخبر بخروج الكل سالما من غارات طائرات النازيين، فقد قال جملته الشهيرة : «الحمد لله، فإذا كان القضاء بخير فإن بريطانيا كلها بخير». و في فرنسا، و التي جعلت من تطوير القضاء و إصلاحه ورشا دائما و متجددا، فقد تم رسم أهم الأهداف المقصودة من هذا الورش في : «محاكمة عادلة، عدالة أقل تكلفة، حياد تام للقاضي، سهولة الوصول إلى المعلومة القضائية، وأيضا التقييم الذاتي للعدالة لوضع المخططات والمشاريع المستقبلية.»1 و عرّف الإعلان العالمي لاستقلال القضاء، الصادر عن المؤتمر المنعقد بمونريال بكندا سنة 1983، استقلال القضاء كما يلي : «حرية القاضي في الفصل في الدعوى دون تحيز أو تأثير أو الخضوع لأية ضغوط أو إغراءات. و يكون القضاة مستقلون تجاه زملائهم و تجاه رؤسائهم و تكون السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإعادة النظر في الأحكام القضائية من اختصاص السلطة القضائية وحدها، و يحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، ولكل شخص الحق في التقاضي أمام المحاكم العادية، وتنحصر صلاحيات المحاكم العسكرية في الجرائم التي يقترفها عناصر القوات المسلحة مع بقاء الحق دوما في استئناف قرارات هذه المحاكم أمام محاكم استثنائية ضالعة في الشؤون القضائية، و لا رقابة و لا سلطان للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية. و للقضاء ولاية على كافة المنازعات لا يجوز الحد منها، و القضاة غير قابلين للعزل و يخضعون في تأديبهم لضوابط صارمة، ولا يجوز إزعاج القاضي بسبب عمله، ويحظر على القضاة عضوية الأحزاب السياسية.» أما التراث الإسلامي، فإنه زاخر بالكتب و المراجع والمخطوطات التي تبين بكل وضوح المرتبة العليا و المقدسة التي يتبوؤها القضاء لدى المسلمين. و يكفي في هذا الصدد الرجوع إلى الرسالة الشهيرة التي بعث بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، قاضي الكوفة، للتأكد من ذلك، و التي جاء فيها ما يلي: «سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلى إليك، أنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له، و سوِّ بين الناس بوجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيْفك، ولا ييأس ضعيففي عدلك. البينة على من ادعى، و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه اليوم بعقلك، و هُديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرفِ الأشباه و الأمثال، فقسِ الأمور عند ذلك بنظائرها، و اعمدْ إلى أقربها إلى الله عز وجل، وأشبهها بالحق. و اجعلْ لمن ادعى حقاً غائباً، أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته، أخذت له بحق. و إلاّ سُجِّلت القضية عليه، فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلاّ مجلوداً في حد، أو مجرّباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. و إياك القلق و الضجر و التأذي بالخصوم و التنكر عند الخصومات، فإن استقرار الحق في مواطن الحق، يعظم الله به الأجر، و يحسن عليه الذخر، فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله، و لو على نفسه، يَكْفِه الله ما بينه وبين الناس، و من تزيّن للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يُشِنْه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز و جل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، و السلام عليك.» وفي المغرب شكل موضوع القضاء هاجسا كبيرا لدى مختلف شرائح المجتمع، و بالأخص تلك التي لها ارتباط بالمجال، أو التي من شأن مصالحها أن تتأثر به، مما جعل القيادة السياسية تتدخل دوما للتذكير بأهمية و حتمية البحث الجدي و العميق لإيجاد الحلول المناسبة. و هكذا فقد سبق للمغفور له الملك الحسن الثاني أن أكد : «إن التحولات التي يعرفها عالمنا المعاصر، ومن ضمنه المغرب، تدعونا إلى توسيع منظورنا للعدالة، لا من الناحية الخلقية و السياسية و الاجتماعية فحسب، و لكن كذلك من حيث تنامي دورها الاقتصادي و من حيث الوعي بإسهامها في التنمية ... القضاء أصبح يواجه تحديات جديدة، سواء بالنسبة للمغرب أو لغيره من البلدان، تحتم عليه ألا يتوانى عن المبادرة في مواجهتها إذا ما أراد أن يستمر في أداء رسالته النبيلة، و أن يكون قادرا على مواكبة التحولات الاقتصادية و الاجتماعية، كما أن عليه بصفة خاصة أن يأخذ بعين الاعتبار تسارع و تعقد هذه التحولات ليتمكن من معالجتها بما يلزم من استجابة و كفاية.»2 و على نفس النهج سار الملك محمد السادس، حيث لم تخل أي من خطبه الرسمية، خلال العشرية الأولى لملكه، من إشارات صريحة و واضحة للموضوع، و منها مثلا : «ما فتئنا منذ تقلدنا الأمانة العظمى لقيادة شعبنا، والتي يعتبر القضاء من صميم مسؤولياتها، نوجه حكومتنا والبرلمان إلى الأهمية القصوى التي نوليها لإصلاح القضاء و تحديثه و تأهيله للإسهام الفعال في المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي نسهر على تحقيقه. و قد أبينا اليوم، و من خلال رئاستنا لافتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن نتوجه إلى هذا المجلس، و من خلاله إلى كافة أسرة العدل، بخطاب مباشر يستهدف إبراز مدى المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق القضاة أنفسهم في إصلاح الجهاز المؤتمن على العدل الذي يتوقف عليه كسبنا لرهان الديمقراطية والتنمية. و إننا لنعتبر أن قضاء واعيا كل الوعي بحتمية هذا الرهان، و مؤهلا لاستيعاب التحولات التي يعرفها المغرب، لهو القادر وحده على رفع هذا التحدي، مواصلا ومعززا رسالته التقليدية المتمثلة في السهر على ضمان النظام العام وتأمين السلم الاجتماعي، مستجيبا في نفس الوقت لمتطلبات جديدة تتمثل في ضرورة حرص القضاء على التفعيل والتجسيد الملموسين لمفهوم و مضمون بناء الديمقراطية ودولة الحق، بضمان سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والأحوال. كما يجب على القضاء أن يوفر الرؤية التوقعية الحقوقية المطمئنة والموضحة للضمانات التي يكفلها القانون، معززا بذلك مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للاقتصاد الليبرالي، مساهما في النهوض بالاستثمار و النماء الاقتصادي. لذا حرصنا على إعادة الاعتبار للقضاء و تأهيله وتطهيره من كل النقائص والشوائب المشينة، محددين بكل حزم ووضوح سبيل الإصلاح الذي لا مناص منه. و قد تحقق بالفعل تقدم لا جدال فيه، حيث تم إيقاف مسلسل التدهور والمضي قدما في عملية إعادة البناء و عصرنة العدالة، مما مكن من تعزيز الاستقلال الفعلي للقضاء، و تقوية سلطته في تجسيد المساواة أمام القانون و الإسراع في تنفيذ الأحكام.» 3 إن القاضي بشر، و بصفته هذه، فإنه غير معصوم من الخطأ و الزلل و الغضب و التأثر، و هي كلها حالات يجب عليه أن يتعود عليها كبشر، إلا أنه من المفروض أن يجاهد بكل ما استطاع من قوة كي يجعلها لا تتحكم في قراراته كقاض، على اعتبار أن تلك الحالات تخصه شخصيا، بينما المنازعات المعروض عليه أمر الحسم فيها لها ارتباط بحقوق الناس، و هو مؤتمن على أمر تقرير المخطئ منها و المصيب، بكل نزاهة. و النزاهة التي ينبغي على القاضي أن يتحلى بها لا تتعلق فقط بالجانب الأخلاقي أو بعدم الخضوع لتأثيرات المال أو الجاه أو الأوامر، و التي هي من المسلمات التي لا تحتاج في مثل هذه الحالة حتى أن يتم التذكير بها، باعتبار أنها سجايا و سلوكيات و أوصاف من المفروض أن تكون مندمجة في شخصية القاضي، مثلها مثل النوم أو الأكل أو اللباس أو كل الحاجيات الأخرى الضرورية للعيش، بل إن الأهم و الأصعب من ذلك هي توفر القاضي على النزاهة الفكرية لكي يبت بكل حياد و موضوعية دون تأثر لا بغضب و لا بروح الانتقام أو الاستجابة لتدخل أو قصد محاباة أحد الأطراف بطلب منه أو حتى بدون طلب. و انطلاقا مما ذكر، فإن المشرع حرص على توفير نصوص قانونية واضحة و جلية، غايتها من جهة توفير الحماية للقاضي لضمان استقلاليته و نزاهته، و من جهة ثانية لترسيخ الثقة في الجهاز القضائي برمته، بقصد تلافي كل أسباب الارتياب التي يلجأ إليها عادة ذوو الطبائع الحذرة و المتشككة كلما تم رد مطلب لهم، و سد الأبواب أمام ذرائع أصحاب المصالح المشبوهة، أو الذين لا شغل و لا هم لهم إلا الاصطياد في الماء العكر، أو من يقتنصون الفرص غير المشروعة، و محاولة الكل إلباس تصرفاتهم ثوب الحق و المشروعية عن طريق القضاء. و أولى الضمانات التي وفرها المشرع لقضاة الحكم، تتجلى في عدم إمكانية عزلهم أو نقلهم إلا بمقتضى القانون، والتي تضمنها أسمى قانون للمملكة، أي الدستور المراجع لسنة 1996 في مادته 85 . 4 كما أنه، و لاستبعاد كل سبل التشويش على الأجهزة القضائية، و خاصة قضاة الحكم، فقد فرض المشرع في الفصل الثاني من قانون المسطرة المدنية إلزامية البت في كل قضية يتم رفعها للمحكمة، حتى لا يتم إهمال مطالب المدعين إلى ما لا نهاية للضغط على أصحابها قصد إجبارهم على قبول تنازلات. و ابتغاء للنجاعة و الفعالية و الحسم في المنازعات المطلوبة من المرفق القضائي، جعل قانون المسطرة المدنية، في فصوله الأول و الثالث و التاسع و الأربعين، القاضي هو الموجه و المحرك الأساسي للدعوى المعروضة على أنظاره، في جانبيها الإجرائي و الموضوعي، بتكليفه بإنذار المتقاضين بتصحيح المسطرة، و أن يبت في الطلب طبقا للقوانين المطبقة على النازلة و لو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة، و ألا يقبل حالات البطلان و الإخلالات الشكلية و المسطرية إلا إذا كانت مصالح الطرف الذي أثارها قد تضررت بصفة فعلية. و لحمايته من الإهانات الناجمة عن الأقوال أو التصرفات التي قد يلجأ إليها البعض، سواء ممن يعتبرون أنفسهم لا يخضعون لسلطة القانون، أو أولئك الذين يحركهم طيشهم و عدم مسؤوليتهم، فقد نص الفصل 263 من القانون الجنائي على عقوبات زجرية لردع أمثال هذه النماذج.5 و بعد استجماع كل العناصر المذكورة أعلاه فإن الأمانة الدينية و الأخلاقية و الوضعية تبقى ملقاة على عاتق القاضي للبت في الطلبات المرفوعة إلية بكل تجرد و موضوعية و بكامل النزاهة و المصداقية. هوامش 1- عن ملخص التقرير المعد من طرف المعهد الوطني للدراسات القضائية حول الندوة العلمية التي نظمتها وزارة العدل ضمن برنامج التعاون مع وزارة العدل الفرنسية في موضوع «جودة الخدمة القضائية وتقييم عمل المحاكم» بالمعهد الوطني للدراسات القضائية بتاريخ 12 و 13 ماي 2003، المنشور عبر الأنترنت. 2- فقرات من الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة المنظمة بالرباط من طرف المجلس الأعلى للقضاء خلال شهر دجنبر 1997 . 3- مقتطفات من الخطاب الملكي لافتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء في 1 مارس 2002 . 4- جاء في المادة 85 ما يلي : «لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون.» 5- جاء في الفصل 263 من القانون الجنائي ما يلي : «يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من رجال القضاء أو من الموظفين العموميين أو من رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم. وإذا وقعت الإهانة على واحد أو أكثر من رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين في محكمة، أثناء الجلسة، فإن الحبس يكون من سنة إلى سنتين. وفي جميع الأحوال، يجوز لمحكمة القضاء، علاوة على ذلك، أن تأمر بنشر حكمها وإعلانه، بالطريقة التي تحددها، على نفقة المحكوم عليه، بشرط ألا تتجاوز هذه النفقات الحد الأقصى للغرامة المقررة في الفقرة الأولى.»