لم أكد أترجل من سيارة الأجرة، حتى تلقفني وسطاء النقل ''الكورتية'' على بعد مئات الأمتار من محطة ولاد الزيان الشهيرة وسط الدارالبيضاء . الرباط، مراكش، فاس ، يرددون اسماء المدن بشكل متسارع ومتكرر وبصوت مرتفع على مسامع الراجلين والمارين بالقرب من المحطة والدالفين إليها ، لإقناعهم بأن حافلة ستتوجه الان، الى المدينة التي يريدها المسافر المحتمل، وفي الغالب تتأخر الحافلة ولا تغادر في الوقت المزعوم، لكن وجهتي هذا الصباح من شهر غشت لم تكن سوى المحطة نفسها وليس مدينة خارج الدارالبيضاء.
تعتبر محطة ولاد زيان أكبر محطة طريقية بالمغرب حيث تغادرها 350 حافلة في اليوم وتعبر منها نحو 150 حافلة أخرى مع الاف المسافرين وتتسع حظيرتها الفسيحة لمئات الحافلات القادمة من الجهات الأربع للمملكة .
ما يشد انتباه الداخل للمحطة هو الفوضى والضجيج و كثرة الباعة الجائلين، الذين يتحركون كخلية نحل من حافلة لأخرى، سعيا لبيع سلعة من بين السلع التي تتنوع من السندويشات والماء البارد إلى حلي الفضة ومستلزمات الهواتف الذكية و المناديل و قناني المياه و غيرها من السلع غير المراقبة .
''كنبدا مع الستة ديال الصباح وكنبقا تال عشية، باش نصور طرف ديال الخبز '' هكذا لخص زيتوني وهو بائع حلويات بالمحطة معاناة المئات من الباعة الجائلين الذين يتحركون داخل المحطة الأشهر في المغرب وفي محيطها، بحثا عن لقمة عيش تكفيهم ذل السؤال.
قصصهم كثيرة ويختلف سردها من بائع لآخر لكن هدفهم واحد هو الحصول على دخل يومي يعيلون به أسرهم.
''لدي اسرة من اربعة أبناء وزوجة إضافة إلى والدتي،'' يقول الزيتوني في حديثه للأيام24، ويضيف : ''هذه الحلويات صنع بيتي وليست بضاعة اشتريتها من السوق يمكنك تذوقها إن شئت ''.
على بعد أيام قليلة فقط من عيد الأضحى ترتفع وثيرة السفر وتزداد الحركية داخل المحطة ، وهي فرصة سانحة للباعة الجائلين وسط ''ولاد زيان'' للحصول على دخل إضافي، قد لا يكفيهم لمتطلبات المعاش اليومي وسط مدينة غول مثل الدارالبيضاء، خاصة وأن المناسبة عيد الأضحى وهو العيد الكبير، الذي يتطلب مصاريف إضافية ناهيك من كبش العيد الذي قد يكلف راتب موظف بسيط يتقاضى الحد الأدنى للأجور.
يهرولون من حافلة لأخرى ، من زبون لآخر يصعدون حافلة متوجهة لفاس وأخرى لمراكش وثالثة لبني ملال ورابعة لآسفي .. يصعدون وينزلون من ابواب الحافلات برشاقة معهودة، منهم من يتأبط سلعته ومنهم من يتمنطق بها، ومنهم من يضعها بين أصابعه أو في قبضة اليد على حسب السلعة وحجمها وطبيعتها.
يعرفون كل الحافلات يحفظون مواقيتها ويتوزعون على 24 ساعة أو أقل بقليل ، اذ لا يبدأ بعضهم إلا ليلا ، فزبناء الليل والنهار ليسوا سواء ، يشير أحدهم ، في دورة تجارية متنقلة لا تتوقف، غايتهم الأساس أن تشتري منهم ما يعرضونه عليك بشكل سريع بطريقة ما، سواء كنت داخل حافلة تستعد للرحيل آو تقف وسط المحطة أو عابر سبيل قادتك الصدفة إليهم.
مصدر مطلع قدر للأيام 24 أن يكون عدد الباعة المتجولين داخل المحطة نحو 200 بائع وهو عدد غير دقيق بالنظر إلى الفوضى، إذ يمكن لأي كان أن يشتري أي سلعة يريد ويلج المحطة من بابها الواسع ويبدأ في البيع.
رغم أن إدارة المحطة تنظم حملات تمشيطية من حين لآخر لطردهم خارجها، مستعينة برجال الأمن إلا أنهم يعودون بسبب دوافعهم التي لا تترك لهم خيارا آخر .
وسط ضجيج منبهات الحافلات الذي لا ينتهي، ودخان عوادمها الذي يزكم الأنوف و تحت أشعة شمس غشت الحارقة ، أو في برد ديسمبر، يتعرضون لمضايقات شتى بدءا برجال أمن المحطة إلى ''الكورتية'' وبعض المشردين وحتى من بعض المسافرين.
''المشكلة اخويا في أصحاب المحلات لي تحت كيعطيو المراهقين السلعة ويقولو ليهم سيروا بيعوها في المحطة . '' يحكي محمد، وهو بائع سندويتشات، قام بلفها ببلاستيك شفاف حتى لا تكون عرضة للدخان والأتربة ، على حد قوله.
لكن مثل هذه الوجبات التي تشكل مصدر رزق لمحمد يمكن ان تشكل خطرا على السلامة الصحية للمسافرين، اذ لا تخضع قطعا للرقابة، محمد قال للأيام24 إنه يعمل في ولاد زيان منذ افتتاحها سنة 1999.
كغيره من الباعة الجائلين وسط المحطة، فإن ما يبيعه محمد وزملاؤه يعتبر في عرف القانون غير مرخص، وما تكاد حملة للقضاء على هذه الظاهرة تبدأ حتى تنتهي .
الوضع لم يتغير منذ سنوات رغم أن مجلس المدينة قام بتفويت تدبير المحطة إلى شركة التنمية المحلية "الدار البيضاء للنقل"، من أجل تأهيلها إلا أن المحطة الطريقية تعرف فوضى غريبة وصت صمت المسؤولين الذين حاولنا التواصل معهم للتعليق على الموضوع لكن دون مجيب.
لو أني وجدت البديل ما جئت إلى هنا، يقول زكريا وهو بائع كتيبات دينية مليئة بالأذكار، ليضيف : انا أتيت من القرية ومقبل على الزواج وغادرت الدراسة في المستوى الإعدادي ، انا ضحية هضر مدرسي ، يتابع بحرقة ، ابيع هذه الكتيبات بخمسة دراهم فقط ، واحاول ان اتعايش مع الوضع حتى أجد فرصة أفضل اذ لا يمكنني البقاء عاطلا . نعم ملقيناش البديل ، وإلا لماذا جئنا هنا برأيك ؟؟ يعلق أحمد، وهو بائع مياه معدنية، على كلام زكريا متسائلا .
أحمد يشتري قنينات الماء من خارج المحطة ويعيد بيعها للمسافرين بهامش ربح بسيط هو درهم واحد عن كل قنينة وهي عملية تتطلب من أحمد السرعة في التحرك من حافلة لأخرى ، حتى يحافظ على درجة حرارة الماء البارد إذ لا يمكن للمسافر ان يشتري قنينة ماء ساخنة .
الأيام 24 تجولت داخل أروقة المحطة الطريقية وبين الحافلات وسألت غير واحد من هؤلاء الباعة الذين يعيشون معاناة يومية.
وعلى رغم أن عملهم داخل المحطة يساهم في الفوضى لكن هناك من يرى أنهم يقدمون خدمات للمسافرين ، ''بعض المرات كنكونو زربانين وكيعتقونا بالماء ولا شي حاجة ، تقول سميرة وهي مسافرة التقيناها قرب حافلة متوجهة نحو مراكش.
لكن رأي سلمى لا يشاطره الجميع تماما، فياسين وهو شاب متجه صوب الناظور قال إن بعض الباعة قد يقومون بأفعال غير جيدة كالسرقة ، وهو اتهام وجهه أحد ''الكورتية'' أيضا ممن التقتهم ''الأيام 24 ''وسط المحطة .ورغم انه استطرد بالقول إن الباعة لا يشكلون إزعاجا للمسافرين، إلا أنه يرى أن بعضهم قد يأتي بتصرفات طائشة .
هذا الكلام رد عليه حسن، وهو بائع مخضرم شارف على الستين من العمر ، بالقول إن بعض المراهقين والمشردين ممن يستخدمهم أصحاب البقالات هم من قد يشكلون ازعاجا ، اما نحن فنعيل اسرنا ، وأنا اشتغلت في هذا العمل ل32 سنة مذ كانت المحطة في منطقة ابن جدية ، ولا يمكن بأي حال ان نشكل ازعاجا فملفي نظيف ولم اعتقل يوما واحدا.
حتى بعض المراهقين من الباعة لهم قصتهم فأدم الولد ّذو الأربعة عشر ربيعا، واحد منهم ، ووهو يبيع مراوح ورقية داخل محطة ولاد زيان، أكد للأيام24 أنه يشتغل في المحطة صيفا فقط خلال العطلة لجمع ثمن شراء الكتب ليس إلا، وما يتحصل عليه من دراهم في اليوم يدخره لشراء لوازم مدرسية فيما بعد.
المهاجرون الأفارقة من دول جنوب الصحراء هم أيضا اقتحموا القطاع غير المهيكل في المغرب، وتحولوا إلى باعة جائلين داخل المحطات وخارجها وقد لمحنا أكثر من بائع داخل المحطة وخارجها إضافة إلى بعض التائهين منهم الذين تقطعت بهم السبل فاتخذوا من جنباتها ملاذا .
يقول موسى وهو سنغالي، يبيع الحلي ولوازم الهاتف النقال ، إن الباعة لا يخلقون أي مشاكل بل أنهم يعانون منها وخاصة عند الاحتكاك بال''كورتية '' الذين يحملهم المسؤولية مع انهم يريدون إبقاء الحافلات نظيفة ويتهمون الباعة بإثارة الفوضى فيها وإزعاج المسافرين.
زرنا أكثر من محطة طريقية بالمغرب، وكانت جميعها متشابهة من حيث الباعة والبضائع وفوضى بيع التذاكر من قبل الوسطاء ، سواء كنت في الرباطاوالدارالبيضاء أواكادير انزكان أو مراكش او فاس.. فإنك ستجد نفسك في مواجهة الفوضى ذاتها، تستمع للضجيج ذاته المنبعث من صوت منبه الحافلات وأصوات الكورثية، وستلتقي تجار المحطات وبضائعهم ''العابرة للحافلات'' وستعيد على نفسك السؤال الذي طرحه أحمد بائع الماء، لماذا جاؤوا إلى هنا ؟.