عقدت رابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء مؤتمرا دوليا حول موضوع "الإيمان في عالم متغير"، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، منتصف الشهر الجاري بمدينة الرباط. وشارك في المؤتمر نخبة من العلماء والباحثين والقيادات الدينية والخبراء من المملكة المغربية ودول العالم. وناقش المشاركون في المؤتمر الممارسات الفضلى والنهج القويم الكفيل ببث الإيمان وتجديده في النّفوس، وانكبوا على دراسة الإجراءات الفعالة للتّحصين من الأفكار السلبيّة، والتعامل البناء مع المتغيرات والتحديات التي يواجهها العالم اليوم وتهدد السلم والأمن والتعايش والتسامح بين الشعوب وأتباع الأديان كافة.
وفي كلمته الافتتاحية التأطيرية لأعمال المؤتمر، تطرق معالي الشيخ معالي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى إلى أمور مفصلية في موضوع الإلحاد، شملت الضبط المفاهيمي للمصطلح، والسياق التاريخي، وتفكيك علاقة التلازم بين الإلحاد والذكاء والعلوم المادية، إلى جانب الرد على جملة من الشبهات والمهاتراتِ الإلحادية بجدالاتها التي ظهرت منذ بداية نشأة تلك العلوم. وفي ختام كلمته، نبَّه الشيخ العيسى إلى جملة من الأمور المتعلقة بالتصدي لشبهات الإلحاد، ومن أهمها: ألا يتصدَّى لذلك إلا المختصون الراسخون، وأنْ يجتمع لذلك عِدَّةُ اختصاصات حيث تتداخل الشبهات مع أكثرَ من علم، إضافة إلى ضرورة التصدي بخطابٍ يفهمه الجميع ويَقْبلون بمُسَلَّماته المنطقية المشتركة، مع عدم التكلف، وسلبيةِ الحماسة، ولا سيما حِدّةَ الطرح.
كما عرف المؤتمر إلقاء مداخلات افتتاحية شاملة لشخصيات علمية وفكرية وازنة، من بينها الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ، الذي اعتبر أن الانفكاك بين الإيمان والعلوم يعود لأسباب عديدة من أهمها الاصطدام بوهج العلم مع أواخر القرن التاسع عشر من خلال البحث عن سنن الكون في الغر ، والانصياع وراء الفلسفات الحديثة التي كانت تُسائل موضوع الوجود من زوايا مختلفة، والانفكاك بين الدين والعلم أوهمت بأن هناك تناقضا بينهما، وأن التمثيليات الدينية لم تكن في مستوى التحديات مما أدى إلى انهيار الإمبراطوريات المسيحية في الغرب والإمبراطورية العثمانية في الشرق.
من جانبه، أشار الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، إلى وجود دعايات خاطئة ضد الأديان تروج كثيرا ويجب تصحيحها وتوضيح مغالطاتها لما تحمله من مخاطر على الامن والسلم العالميين. وأكد أن الحاجة إلى مناقشة الإيمان في عالم متغير أصبحت ضرورية علمية وشرعية ويتعين على أصحاب البرهان والإيمان من مختلف الأديان أن يتضامنوا فيما بينهم، وخلص إلى أن التغيرات والمستجدات التي يشهدها العالم اليوم تجعل الإنسان غارقا في دوامة المتع واللهو والتهافت والتفكك، موضحا أن الرِؤية الايمانية هي الوحيدة الكفيلة بإنقاذ الإنسان من هذه المتاهات والحيرة والتفكك الفكري والروحي والأسري.
أما سفير إيطاليا في المغرب أرماندو باروك، فقال في كلمة نيابة عن البروفيسور ألبرتو ميلوني، أستاذ كرسي اليونسكو للتعددية الدينية والسلام في سابينزا بجامعة روما الإيطالية، إن الاهتمام بالتراث الإسلامي كبير في إيطاليا من خلال مؤِسسات عديدة، موضحا أن أتباع الأديان شرعوا في البحث عن سبل توطيد التعاون والتخلص من رواسب الماضي وحروبه وماسيه اعتمادا على الإيمان الروحي الحقيقي. وأعلن عن مشروع حول مراجعة الترجمة الإيطالية للقرآن الكريم في إطار تفعيل الحوار على الأديان والسعي لفهمها جيدا والتخلص من الأحكام السابقة عنها.
وشددت البروفيسورة كاترين مارشال، المديرة التنفيذية لحوار تنمية الأديان العالمية من جامعة جورن تاون الأمريكية، على ضرورة تعزيز الانفتاح على أفكار جديدة والتحلي بالجرأة والشجاعة لمواجهة المشاكل والالتزام بترجمة الأفكار إلى واقع ملموس وممارسات ومبادرات عملية.
وعلى مدار يومين كاملين، شهد المؤتمر نقاشا أكاديميا عميقا لموضوع الإيمان في عالم متغير من خلال عرض ومناقشة عدد من العروض والمداخلات تناولت جملة من القضايا والإشكاليات ذات الصلة بالمحاور التالية: الإلحاد في السياق المعاصر، والإيمان في ضوء التكنولوجيا المعاصرة، والطفرة الرقمية وظهور المؤثرين الجدد في التدين، ومكانة النظريات الفلسفية والمعرفية في تشكيل المفاهيم والتاريخ، والبناء الإيماني، والواقع والاستشراف. كما تم عقد ورشة عمل حول موضوع حول "الاعتقاد والقضايا الحارقة في عالم متغير".
في ختام أعمال المؤتمر، تم إصدار "وثيقة الرباط: الإيمان في عالم متغير" التي أكدت على أهمية الإيمان بمركزية الدين في قيام الحضارات وازدهارها وقدرته على مواجهة المشكلات ومعالجتها، وحذرت من تهميش دور الدين في الاهتداء الروحي والإرشاد العقلي المؤدي إلى الفوضى الأخلاقية والسلوكيات المنحرفة والإباحية المهينة. ودعت الوثيقة إلى تعزيز التعاون والتكامل بين المكونات الدينية المختلفة واستثمار مشتركاتها المتعددة باعتبار ذلك المسار الأنجع لصياغة الأطر الفكرية الرشيدة للتحصين من مخاطر السلوك المتطرف، وتحييد خطاب الكراهية، وتفكيك نظريات الصدام والصراع. وأكدت الوثيقة على أنَّ التضامن بين الشعوب هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات العالمية الكبرى كالتغير المناخي وحماية البيئة والمحافظة على الثروات الطبيعية، كما نبهت إلى أن أنَّ المرأة مصدر نور وإشعاع حضاري من الواجب حراسة دورها الرئيس في الأسرة ورعايتها وتربية الناشئة والعناية بها. وأوصت الوثيقة بتأسيس "المرصد الدولي لدلائل الإيمان ومواجهة الشبهات" يتولى ترسيخ مبادئ الإيمان وتعزيز قيمها الأخلاقية، مع رصد الشبهات المثارة والأجندات المشبوهة للفوضى التحررية، والعدمية الإلحادية، والعبثية المجتمعية.