لم تتدفق مياه غزيرة تحت الجسر، لم تكن هناك مياه أصلا، بل دماء زكية طاهرة، ففي 20 يونيو 1981، كان لنا على الأقل شرف رؤية الدم الزكي الطاهر ينساب في كل أحياء البيضاء، الحي المحمدي درب السلطان سيدي معروف والمدينة القديمة… كنا أطفالا نرافق المظاهرات إلى أن نتيه ونعود، في طريق ملأته العساكر، التي لم نكن نفهم لهجتها ولا مكان استقدامها، رأينا الأسلحة الخفيفة في يد الجنود ترمي في كل الاتجاهات وتصيب طيور الحرية حتى في أعلى المنازل فلا حرمة لأي متحرك، أو بلغة أدق فقد تحول كل متحرك إلى هدف، وكل هدف إلى مشروع قتيل شهيد، رأينا أزيز المروحيات العسكرية تطلق النار من علو منخفض، والمدافع تتجه بسرعة للرماية، كان اليوم هو يوم 20 يونيو، لم نكن مؤطرين لا نقابيا ولا سياسيا ولا أي شيء، فقط سرنا خلف أناس دعوا للكرامة واحتجوا على غلاء الأسعار، و بعد سنين سنعرف أننا كنا معنيين ومؤطرين من رجال ونساء أحرار، وأن ما عشناه لم يكن فعلا معزولا ولكنه كان تراكما نضاليا تاريخيا يؤسس للصمود والوفاء من أجل وطن للجميع، فيه للإنسان مرتبة الإنسان ولاشيء آخر، وطن نحس به ويحس بنا، يتماها مع أحلامنا مع أمانينا وطموحاتنا… "مدينة البيضاء يا درب من قتلوا ابناؤك الفقراء اليوم قد وصلوا" علمنا بعد الحين أن رائحة الموت والبارود تسكن المدينة منذ عشرات السنين، وأن مارس 1965 مازال شاهدا وشهيدا على روعة من نزلو ومن واجهو ومن استشهدوا ومن ظلموا ومن عذبوا .. "اشهد يا حزيران في يومك العشرين وطني أنار الدرب و النصر مشتعل في يقظة الفلاح في صرخة العامل في ثورة الجمهور يا شعبنا البطل" سنكبر ويكبر الجرح ويتجدد الألم 1991 و1994، حين لعلع الرصاص مرة أخرى في فاس ومراكش، وكان الريف يلملم جراحه ويعلن أنه يقاوم ولاشي غير المقاومة لأن المقاومة وجيش التحرير الوطني لم يكونا أبدا غير الوطن وعبق الوطن وعمق الوطن ووحدة الوطن… وتكبر فينا الطفولة وتأتي 20 فبراير، نزيفا آخر بطعم آخر، واستمرارا للحلم وإعلانا بالبند العريض، لقد كبرنا أيها السادة، وكبر الوطن وصارت أحلامنا وردية أكثر فإكثر، وناضجة أكثر فأكثر، لم يعد للخوف فينا سوى حلم جماعي بوطن أفضل، تلاشى الخوف وظل طريقه نحو المجهول، إرادة شعب منذ إعلان التحرير وهي تنتصر وتنتصر وتنتصر، تصبح الكوابيس مجرد ذكريات في وطن يتصالح وسيتصالح بالحب وقسرا مع حاضره ومع مستقبله، وأما الأقلية الانتفاعية وليدة المصالح والنفوذ والطارئة على الوطن والوطنية، فاكيد لا نعثر لها على أثر. "سعيدة يا زروال دهكون يا رحال مواكب الابطال بالوعد تتصل من مخبر المهدي من مخبر عمر عن روعة الأوطوروت و باس من نزلوا" العبرة أن الاوطان تبنى بالمحن والابتلاء، بدماء وصمود المناضلين والوطنيين والواثقين والمؤمنين من مختلف المشارب، الذين بنوا ويبنون تاريخنا، زمنيا، لحظة بلحظة ودمعة بدمعة، وقطرة بقطرة وحبة على حبة من رمل، وإني أراهن وأراهن على وطن نكون فيه جميعا مشعين منيرين مبتسمين راضين عن الوطن. من قال الوطن ينسى أبناءه ولا ذاكرة له ولا وطن له… الأوطان لا تعوض أيها السادة. "هذي عيون الشهداء مفتوحة على ليلنا ككتاب مشتعل بالأسئلة فاقرؤوه… واعلموا… أن عيون الشهداء شاهدة على ليلنا وانظروا للبسمة تشع من أحداقها للدمعة في بحر زرقتها واقرؤوا ملحمة الموت المدجج بالعشق ولا تحزنوا على الراحلين الرحل في مراعي الأمل أيها الباقون على قيد الأمل".