خرجت المملكة المتحدةلبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية من الإتحاد الأوروبي بعد أن صوت الناخبون فيها بنسبة 51.9 في المئة لصالح الخروج من الاتحاد الذي انضموا إليه عام 1973. وشهد الاستفتاء الذي نظم يوم الخميس 23 يونيو 2016، نسبة مشاركة كبيرة بلغت 72,2 في المئة، وأظهرت نتائجه دولة منقسمة حيث صوتت لندن وإسكتلندا وإيرلندا الشمالية لصالح البقاء، فيما صوتت مقاطعات شمال إنكلترا أو ويلز للخروج. بريطانيا ليست الدولة الأولى التي تنسحب من التنظيم الأوروبي ففي سنة 1985 إنسحبت غرينلاند التي كانت جزء من مملكة الدانمارك قبل أن تقرر التمتع بالحكم الذاتي، من "السوق الأوروبية المشتركة" وهو الإسم الذي كان للتنظيم في ذلك التوقيت بعد أن كانت قد انضمت إليه سنة 1979. في ذلك الحين تحدث الكثيرون عن قرب تفكك التنظيم وإنهيار فكرة الوحدة في القارة العجوز كما يحب الأمريكيون أن ينعتوها، ولكن ذلك لم يحدث بل توسعت السوق ليصبح في سنة 2016 عدد أعضائها 28 دولة. اعتبر الكثيرون القرار البريطاني صدمة للإتحاد الأوروبي، ولكن الملاحظ أنه كان هناك إرتياح دفين في العديد من العواصم الأوروبية لخروج العضو المدلل الشارد والمبتز الذي وضع خلال 43 سنة الكثير من العقبات أمام تسريع عملية الوحدة كما مثل الصوت الأمريكي المتدخل في الشأن الأوروبي. في أماكن عديدة من أوروبا، تصاعدت حدة اللهجة حيال البريطانيين، حيث طالب وزراء خارجية الدول الست المؤسسة للاتحاد الأوروبي لندن بتسريع آليات الخروج. ودعت الدول الست بريطانيا إلى الشروع "في أسرع وقت ممكن" بآلية الخروج، فيما أكدت فرنسا أن تعيين رئيس جديد للحكومة البريطانية أمر "ملح" لبحث تصفية العضوية. وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير قال في ختام اجتماع للإتحاد في برلين "نقول هنا معا إن هذه العملية يجب أن تبدأ بأسرع وقت حتى لا نجد أنفسنا غارقين في مأزق". من جانبها، قالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إن المفاوضات مع بريطانيا يجب ألا تجرى بطريقة يمكن أن ينظر إليها على أنها وسيلة ردع لدول أخرى وإن المملكة المتحدة ليست في عجلة من أمرها، وأضافت: "يجب ألا يستغرق الأمر دهرا بالفعل، لكنني لن أقاتل من أجل إطار زمني قصير". وأكدت ميركل أن "بريطانيا العظمى ما زالت عضوا كاملا في الاتحاد الأوروبي ولها كل الحقوق وعليها كل الواجبات"، وقالت: "لقد شعرنا بالحزن بسبب نتيجة التصويت، ولكن ذلك لن يكون سببا في التصرف بطريقة شريرة خلال المفاوضات، ويجب التعامل مع ذلك بالشكل اللائق". وفي روما حذر وزراء إيطاليون السبت من أن على الاتحاد الأوروبي إعادة النظر في سياسته وإلا فسيواجه مخاطر الانهيار. وقال وزير المالية بيير كارلو بادوان إن "عدة عوامل يمكن أن تقود إلى عدة سيناريوهات، وبينها سيناريو خطوة إضافية نحو تفكك" الاتحاد الأوروبي معتبرا أن على قادة الاتحاد الأوروبي أن يدركوا أنه لم يعد بالإمكان إبقاء الوضع القائم بالنسبة لمواضيع مثل الوظائف والنمو والهجرة. من جهته ذكر وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني إنه سيكون من السذاجة التقليل من شأن تصويت البريطانيين أو مخاطر انبثاق شعور مناهض لأوروبا الموحدة في القارة. مراسل الشؤون الاوروبية في هيئة الإذاعة البريطانية كرس موريس كتب: من الواضح ان الزعماء الاوروبيين يريدون ان يتم الانتهاء من رسم شكل مفاوضات الانفصال السياسي والاقتصادي بسرعة ودون إبطاء، في زمن قد لا يتعدى الأسبوع المقبل، وليس الانتظار حتى تولي رئيس جديد للحكومة في اكتوبر 2016. بعبارة أخرى، بدأت التوترات في الظهور إلى السطح من الآن. وبالرغم من ان كل الأطراف تركز على ضرورة التعاون، لا توجد أي رغبة في الكثير من العواصم الأوروبية للتساهل مع المملكة المتحدة في هذه الظروف. لقد قلب النظام السياسي الأوروبي رأسا على عقب، في تطور ستكون له عواقب على المدى البعيد لا يستطيع احد توقع مداه بأي دقة. طابور خامس حكومة الوزير الأول البريطاني ديفيد كاميرون لم تبد من جانبها عجلة في تفعيل المادة 50 من اتفاق لشبونة، وهي الآلية التي تتحكم بمفاوضات الانفصال، وقدم كاميرون استقالته ولكنه ذكر أنها لن تصبح سارية سوى في أكتوبر 2016 بعد تعيين شخصية تخلفه وأشارت أوساط حكومية في لندن أن مفاوضات الخروج قد تمتد لأكثر من ست سنوات. في نفس الوقت لوح البعض بإمكانية إجراء استفتاء جديد مستقبلا، وأعلن مجلس العموم الغرفة السفلى للبرلمان البريطاني، يوم الأحد 26 يونيو، أنه سيتم التحقق من صحة بيانات الموقعين على العريضة المقدمة إلى البرلمان عبر الإنترنت، والتي تطالب بإعادة الاستفتاء. وذكر بيان صادر عن لجنة النظر في العرائض بالمجلس أنه سيتم التحقق من بيانات الموقعين على العريضة، وفي حال تحديد وجود بيانات مزورة، فسيتم مسح بيانات أصحابها. وقالت رئيسة اللجنة هلين جونس، عبر حسابها على "تويتر"، إن "الذين يرسلون بيانات مزورة، في الحقيقة يلحقون الضرر بالغاية التي يعتقدون أنهم يدعمونها، فنحن نأخذ الموضوع على محمل الجد، وستبحث اللجنة العريضة". والمعروف أن الناشط السياسي البريطاني، وليام أوليفر هيلي، دشن حملة للتوقيع على عريضة عبر الإنترنت، بشأن إعادة الاستفتاء، وبلغ عدد الموقعين على العريضة نحو 3 ملايين و225 ألف شخص حتى مساء يوم السبت. وتذكر العريضة الموجهة إلى البرلمان أنه ينبغي أن تلتزم الحكومة بقاعدة أنه "إذا كانت الأصوات الداعمة للبقاء أو الخروج أقل من 60 في المئة" من إجمالي 46.5 مليون شخص يحق لهم التصويت يجب إعادة التصويت. ويلزَم مجلس العموم ب "النظر من أجل النقاش" في أي مذكرات تحمل أكثر من 100 ألف توقيع. لكن رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، قال إن إجراء استفتاء ثان لن يكون ممكنا ولكنه لم يقل أنه مستحيل. في غضون ذلك، أعلنت رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا سترغن أن حكومتها تسعى لبدء محادثات فورية مع بروكسل لحماية مكانة اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه. وأضافت سترغن أن حكومة بلادها ستدرس منذ الآن إطارا تشريعيا يسمح بتنظيم استفتاء ثان حول استقلال هذه المنطقة التي تحظى بالحكم الذاتي عن بريطانيا، بعد استفتاء أول قضى بالبقاء داخلها وصوت الناخبون في اسكتلندا بأغلبية 62 في المئة مع البقاء. وفي لندن، حيث تعرض رئيس البلدية السابق بوريس جونسون، زعيم حملة الخروج، لهتافات معادية عند خروجه من منزله يوم الجمعة 24 يونيو، طالب بعض الأشخاص بغضب، وبدون قناعة فعلية، باستقلال العاصمة التي أيدت بغالبيتها البقاء في الكتلة الأوروبية. وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، عبر الشبان الذين صوتوا بشكل مكثف من أجل البقاء عن غضبهم ضد الناخبين الأكبر سنا الذين يتهمونهم بتعريض مستقبلهم للخطر. وتساءل البعض "ماذا فعلنا؟". عودة إلى الحجم الطبيعي كتب المحلل والصحفي عبد الباري عطوان يوم 25 يونيو: رجحت كفة اليمين المتطرف في الاستفتاء، وصوّت البريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يعني، وللوهلة الأولى، احتمال تفكك هذا الاتحاد أولا، والمملكة المتحدة ثانيا. واذا كان الاحتمال الأول، أي تفكك الاتحاد الاوروبي غير مؤكد، فان تفكك الاتحاد البريطاني بات وشيكا، فالنزعات الانفصالية في اسكتلندا وايرلندا الشمالية وويلز بدأت تبرز بقوة، وتعالت الأصوات التي تطالب بالاستقلال في اسكتلندا وانضمام أيرلندا الشمالية إلى جمهورية ايرلندا الجنوبية، وبات في حكم المؤكد أن نرى اسكتلندا، على الأقل، دولة مستقلة وعضو في الاتحاد الاوروبي في غضون السنوات الخمس المقبلة على أكثر تقدير. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يكون نكسة للاتحاد على المدى القصير، ولكن الحال ربما لا يكون كذلك على المدى البعيد، لأنها كانت دائما العضو "الصعب" المتشرط فيه، وتستغل حاجته إلى الوحدة والتماسك لتطالب بالكثير من التنازلات، حتى ان الكثير من الأوروبيين، وفي ظل هذا "الابتزاز″ البريطاني يرى الكثيرون ان تشارلز ديغول، زعيم فرنسا العظيم، كان على حق عندما ظل يعارض انضمام بريطانيا للسوق المشتركة في حينها، ويرى أنها ستتقدم بشكل أسرع وأفضل بدونها. بريطانيا ستتقزم، وقد لا يبقى منها إلا انكلترا القديمة، وستفقد مكانتها كمركز مالي عالمي، مثلما ستفقد تأثيرها في كتلة سياسية واقتصادية عظمى مثل الاتحاد الاوروبي الذي تذهب نصف صادراتها إليه، ويشكل توازنا استراتيجيا بين العملاقين الروسي والأمريكي. وللحقيقة، والتاريخ، إن بريطانيا التي انضمت رسميا للاتحاد عام 1975 بعد استفتاء دعا إليه رئيس وزرائها ويلسون في حينها لم تكن تريد مطلقا أن تكون أوروبية، وترى ان الاتحاد الأوروبي خاضع للهيمنة الألمانية الفرنسية، وتمسكت بعقلية أهل الجزر ذات النزعة الانعزالية، ووضعت رجلا في اوروبا، والاخرى في امريكا، التي حرصت على اقامة علاقات خاصة معها، فقد رفضت الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة، مثلما رفضت العمل باتفاقية "شنغن" التي تسهل حرية الحركة، وساهمت بنصيب مالي متواضع لإنقاذ دول أوروبية من الإفلاس مثل اليونان والبرتغال وايرلندا بالمقارنة مع ألمانيا. إن بريطانيا الصغيرة الضعيفة المعزولة أمر جيد، لان حكوماتها، عمالية كانت أو محافظة، ظلت دائما خاضعة للنفوذ الصهيوني، وتدعم إسرائيل بكل قوة، وتنحاز دائما للحروب الأمريكية ضد العرب والمسلمين، والتدخل العسكري في شؤونهم، وتغيير أنظمتهم، ومخططات تفتيتهم، وعملت طوال الثلاثة والأربعين عاما من عضويتها في الاتحاد الاوروبي على كبح جماح أي توجه لانتقاد إسرائيل وسياساتها العنصرية، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، ورفضت الاعتذار والتعويض للعرب عن منحها فلسطين لليهود، وتسهيل قيام دولة إسرائيل، حتى ان ديفيد كاميرون رئيس وزرائها الحالي، صاحب الاستفتاء الذي لحق الاذى بنفسه وبلاده، وصف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بأنه دفاع عن النفس، وكان خلف قرار غزو ليبيا، مثلما كان سلفه توني بلير من اكبر المؤيدين لغزو العراق واحتلاله. خسارة لإسرائيل في الكيان الصهيوني ورغم أن السياسيين في تل أبيب يصرحون أن قرار خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي شأن داخلي فإنهم يشعرون بخسارة، وقد كتب المحلل الصهيوني براك ربيد في صحيفة هآرتس يوم الأحد 26 يونيو: "يعترفون في القدس أن إسرائيل خسرت في يوم الجمعة شيئا مهما من الناحية السياسية داخل الاتحاد الاوروبي. كدولة مركزية فيها جالية يهودية كبيرة وحكومة صديقة، كانت لبريطانيا في السنوات الأخيرة تأثير ايجابي لصالح إسرائيل داخل الاتحاد. في الأسابيع الأخيرة، على أبواب الاستفتاء الشعبي في بريطانيا، جرت في وزارة الخارجية في القدس عدة نقاشات حول تأثير خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي على إسرائيل. رغم الزوار الكثيرين الذين تم ارسالهم من سفارة إسرائيل في لندن والكثير من المعلومات من النقاشات مع المعسكرين والتحليلات السياسية والتقارير حول الاستطلاعات، لم يتجرأ أحد من المشاركين في النقاش على المراهنة على النتيجة. إلى حد كبير، الأقوال التي تحدث بها رئيس حكومة بريطانيا، دافيد كامرون، في اللقاء مع الجالية اليهودية قبل الاستفتاء ببضعة ايام، عكست جيدا ما يفكر فيه الكثيرون في وزارة الخارجية الاسرائيلية. "هل تريدون بريطانيا الصديقة الأكبر لإسرائيل، هناك في الداخل تعارض المقاطعة وتعارض حملة العقوبات وسحب الاستثمارات من إسرائيل؟"، قال كامرون في إحدى المناسبات، "أم تريدون أن تكون خارج الغرفة بدون قوة تأثير على ما يحدث في الداخل". يعترفون في القدس بأن إسرائيل خسرت في يوم الجمعة شيئا هاما في الاتحاد الاوروبي. موظف رفيع المستوى يعرف تفاصيل النقاشات التي تمت حول هذا الأمر يقول إن الخط المركزي في التفكير الإسرائيلي قبل الاستفتاء الشعبي كان أن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي لن يخدم مصلحة إسرائيل، خصوصا فيما يتعلق باهتمام الاتحاد الاوروبي بالموضوع الفلسطيني. سبب ذلك هو أن بريطانيا دولة مركزية في الاتحاد الاوروبي وفيها جالية يهودية كبيرة وحكومة صديقة، وكان لها في السنوات الاخيرة تأثير ايجابي في صالح اسرائيل داخل الاتحاد الاوروبي. وأكثر من مرة ساعد البريطانيون في تخفيف وتوازن قرارات الاتحاد الاوروبي بخصوص عملية السلام، والتخفيف من الانتقادات، بل وتجنيد دول في اوروبا من اجل مقاومة أي خطوات ضد اسرائيل في مؤسسات الاممالمتحدة. "بدون بريطانيا، اصوات الدول التي تؤيد الجانب الفلسطيني اكثر مثل مالطا وايرلندة والسويد وسلوفانيا، ستتحول الى أكثر فاعلية"، قال الموظف رفيع المستوى. رضى ضمني وخشية على "الأطلسي" موقف جزء من ساسة بريطانيا والعديد من قادة القوى السياسية الأوروبية المصنفة ضمن اليمين المتطرف، عارضوا فكرة الوحدة الأوروبية خاصة بعد أن قادتها قاطرة التحالف الألماني الفرنسي، وذلك من منطلقات كثيرة ولكن بعضها كان أن الوحدة هي محاولة جديدة من جانب برلين لتوحيد أوروبا سلميا وتحت قيادتها بعد أن فشلت في تحقيق ذلك بالقوة المسلحة عبر حربين عالميتين. عدد من رجال الإقتصاد أشاروا كذلك وخلال سنوات مضت أن واشنطن كانت المشجع إن لم يكن المحرض الأكبر لرفض لندن تبني العملة الموحدة والإحتفاظ بالجنيه الإسترليني، لأن البيت الأبيض خشي من أن يصبح اليورو في وضع أفضل في العالم وينهي هيمنة الدولار في المعاملات الدولية. جاء يوم 27 يونيو في تقرير وارد من العاصمة الأمريكية: "في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بتداعيات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي خاصة على الصعيد الإقتصادي، تتجه عين واشنطن إلى حلف الشمال الأطلسي الذي تتخوّف من تفككه أكثر من الاتحاد، باعتباره المؤسسة الأم لصناعة القرار الأوروبي. وتترجم جولة وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، المكوكية إلى الدول الأوروبية، هذا الهاجس ليس تحسبا من عواقب خروج بريطانيا على النمو العالمي واهتزاز الأسواق المالية، إنما لمنع خروج الأوضاع عن السيطرة لناحية تأثير التشقق الأوروبي على الوحدة الأطلسية. ولم تكن العاصفة البريطانية الناجمة عن قرار فك الارتباط عن الاتحاد الأوروبي مريحة لبعض القوى السياسية الأمريكية، كما لم تكن مزعجة لقوى أخرى، فيما حرصت التصريحات الرسمية على إبداء نوع من الحياد والاحترام لقرار الشعب البريطاني إلى جانب التأكيد على انخراط أمريكي عن كثب في مفاوضات المرحلة الانتقالية المقبلة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. القوى التي شعرت بالقلق من أن تكون عجلة تفكك الاتحاد الأوروبي قد بدأت تتمثل في اليسار الأمريكي أو التيار الليبرالي المناصر للعولمة والذي يخشى خسارة حليف خارجي يمكن الاستقواء به على قوى الداخل المتشددة. أما قوى الظل الصامتة، فقد كانت سعيدة، على ما يبدو، بنتائج التصويت البريطاني، وإن لم تعلن ذلك صراحة. ينظر مفكرو هذه القوى إلى تداعيات التصويت على أنها قد تقود إلى تفكيك القوة الأوروبية الناشئة المنافسة للولايات المتحدة، وهذا التفكك يخدم فكرا استراتيجيا أمريكيا ظل مؤثرا على صناع السياسة الخارجية الأمريكية طوال العقود الماضية، ولا يرغب أصحابه بوجود منافسين أقوياء حتى وإن كانوا حلفاء. ويعتقد سياسيون أمريكيون أن الأوروبيين يكونون حلفاء جيدين كدول منفردة، لكنهم يتحولون إلى منافس شرس للولايات المتحدة عندما يشكلون كتلة واحدة. ومن بين من يتبنى هذا الرأي، مندوب الولاياتالمتحدة السابق في الأممالمتحدة، جون بولتون، وهو أحد منظري الحزب الجمهوري، إذ يردد في تصريحاته التلفزيونية أن وجود بريطانيا في إطار الاتحاد الأوروبي قام بدور تقويضي معيق للعلاقات الخاصة بين بريطانياوالولاياتالمتحدة. لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيعيد سلطة صنع القرار إلى لندن بدلا من بروكسل، على حد تعبير بولتون. ويزعم أن لندن كانت عاجزة عن العمل مع واشنطن بشكل منفرد، لأن نظام الاتحاد الأوروبي يفرض على الدول الأعضاء التشاور مع بقية دول الاتحاد قبل اتخاذ أي إجراء أو تبني أي سياسة على الساحة العالمية. وينظر الكثير من السياسيين الجمهوريين إلى الاتحاد الأوروبي، إجمالا، على أنه قوة قادرة على الإضرار بالمصالح الأمريكية، إذ يسهل على الأمريكيين التأثير على المستوى الوطني في كل دولة أوروبية منفردة. أما في إطار الاتحاد الأوروبي، فإن التأثير الأمريكي يمكن تحجيمه. ويؤكد ذلك وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنغر في أكثر من مؤلف له، إذ يقول إن "استبدال الحلفاء الأوروبيين الفرديين بالاتحاد الأوروبي، لا يعني سوى استثناء الولاياتالمتحدة من مشاورات صنع القرار". أما التصريحات الرسمية لصناع القرار الحاليين، فقد نظرت إلى تداعيات القرار على المدى المنظور، وأجمعت البيانات الصادرة عن مؤسسات صنع القرار في البيت الأبيض، ووزارة الدفاع، ووزارة الخارجية، والكونغرس الأمريكي على أهمية انخراط الولاياتالمتحدة عن كثب في المفاوضات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي المتوقع أن تستمر لمدة عامين قبل الخروج بصيغة جديدة للعلاقة بين الطرفين. ويعكس الحرص الأمريكي على الانخراط في المفاوضات رغبة واشنطن في المشاركة برسم معالم المستقبل في أوروبا. وكان البيت الأبيض قد أصدر بياناً شدد على أن "عضوية المملكة المتحدة في حلف شمال الأطلسي حيوية للولايات المتحدة في سياستها الخارجية والأمنية والاقتصادية"." مشاغبون حتى النهاية إذا كانت بريطانيا قد اعتبرت طوال أكثر من أربعة عقود العضو المشاغب الذي يعطي الأولوية لمصالح حليفته على الساحل الآخر من المحيط الأطلسي أي الولاياتالمتحدة، فإنه يقدر أنها ستكون مشاغبة في تنظيم إنسحابها من الإتحاد الأوروبي بل وقد تحاول عبره تلغيم طرق مسار الإتحاد خاصة في حالة عقدها إتفاقيات للتجارة الحرة مع تكتل تقوده الولاياتالمتحدة وكندا. بعيدا عن النقاش الدائر حول المدة التي سيتم فيها فصل الروابط بين بريطانيا والإتحاد، أسلوب تعامل لندن المخطط له ورد دراسة رفعتها الحكومة البريطانية إلى البرلمان في فبراير 2016. تحدثت في الدراسة عن "فترة تصل إلى عقد من الغموض" ستنعكس على الاسواق المالية او كذلك على قيمة الجنيه الاسترليني. السيناريو الاسهل يقضي بانضمام المملكة المتحدة الى ايسلندا او النرويج، كعضو في "الفضاء الاقتصادي الاوروبي"، ما سيمنحها منفذا إلى السوق الداخلية. لكن سيتحتم على لندن في هذه الحالة احترام قواعد هذه السوق الملزمة، بدون أن تكون شاركت في صياغتها، كما سيترتب عليها تسديد مساهمة مالية كبيرة. ويقضي سيناريو آخر بإتباع النموذج السويسري. لكن رئيس القضاة السابق في مجلس الاتحاد الاوروبي جان كلود بيريس الذي يعمل حاليا مستشارا يرى انه "من غير المرجح ان ترغب بريطانيا في سلوك هذا الطريق". وفي دراسة حول سيناريوهات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، لفت الى ان سويسرا ابرمت اكثر من مئة اتفاق مع الاتحاد الاوروبي في قطاعات محددة تستثنى منها الخدمات، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي غير راض اليوم على علاقته مع برن. ومن الخيارات الأخرى المطروحة إبرام اتفاق تبادل حر مع الاتحاد الاوروبي، او وحدة جمركية كما مع تركيا.. وقال بيريس انه إذا لم يتم إبرام اتفاق، فان بريطانيا "ستصبح ببساطة اعتبارا من تاريخ انسحابها، دولة خارجية بالنسبة للاتحاد الاوروبي، مثل الولاياتالمتحدة أو الصين". وايا كان السيناريو الذي سيطبق، رأى ان أمام لندن خيارين فقط: اما ان تصبح "اشبه ببلد يدور في فلك الاتحاد الاوروبي" او ان تواجه "حواجز أعلى بين اقتصادها وسوقها الرئيسية". ينبغي على لندن ان تفاوض حول وضع حوالى مليوني بريطاني يقيمون او يعملون في الاتحاد الاوروبي، ولاسيما حقوقهم في التقاعد وحصولهم على الخدمات الصحية في دول الاتحاد ال27 الأخرى. وافادت دراسة الحكومة البريطانية انه "لن يكون بوسع مواطني المملكة المتحدة المقيمين في الخارج، وبينهم الذين تقاعدوا في اسبانيا، ان يضمنوا هذه الحقوق". ولفتت الدراسة إلى انه سيتم التفاوض بشأن كل من هذه الحقوق التي يحظى بها البريطانيون في دول الاتحاد الاوروبي على قاعدة المعاملة بالمثل لرعايا الاتحاد الاوروبي في بريطانيا. الصراع الدولي يقدر عدد من المحللين أن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي له تبعات كبيرة على الصعيد الدولي إقتصاديا وسياسيا وعسكريا وخاصة على الصراع الدولي الروسي الأمريكي. هناك من يرى أن الإنسحاب البريطاني سيؤثر سلبا على حلف الناتو وأنه على المدى المتوسط قد يختار الإتحاد سياسة أقرب للحياد في الصراع بين واشنطن وموسكو خاصة وأن كلا من برلين وباريس تدركان أن أخذ مسافة من مخططات واشنطن سيقلل من معارضة موسكو لتوسع الإتحاد الأوروبي نحو الشرق أو مشاركته في تنمية ثروات سيبيريا الهائلة. يوم 6 يونيو 2016 حذر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، في بروكسل من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، معتبرا أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى "مزيد من انعدام الاستقرار" في مرحلة تشهد "تهديدات عدة". وقال ستولتنبرغ "نحن نعيش مرحلة تتسم بتهديدات عدة وانعدام الاستقرار. لسنا في حاجة إلى مزيد من عدم الاستقرار. نحن في حاجة إلى مزيد من التعاون في أوروبا". وأضاف الأمين العام للحلف الأطلسي خلال لقاء نظمه موقع "بوليتيكو يوروب"، "لدي اعتقاد عميق بأن ما يشكل أهمية حقيقية لحلف شمال الأطلسي، هو بريطانيا قوية في اتحاد أوروبي قوي. هذا أمر جيد لبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكذلك للحلف". وتابع "من الإيجابي جدا أن نرى دولة بريطانية كبيرة في الاتحاد الأوروبي، تدفع إلى تعاون أمني مع حلف شمال الأطلسي. ومن الجيد أيضا وجود بريطانيا في حلف شمال الأطلسي تدعو إلى مزيد من التعاون الإستراتيجي مع الاتحاد الأوروبي". ووعد بأن يبقى الحلف على "تنسيق وثيق" مع الاتحاد الاوروبي الذي ينتمي 22 من اعضائه ال 28 مع بريطانيا الى الناتو. موسكو اعتبرت أن نتائج استفتاء بريطانيا "شأن داخلي"، معربة عن أملها بأن تتغلب فكرة إقامة علاقات جيدة مع روسيا. الكرملين أكد أنه لا يرى وجود أي علاقة بين مسألة العقوبات المفروضة على روسيا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهناك وجهات نظر مختلفة في الاتحاد بشأن عقوباته ضد روسيا، وفعالية هذا العقوبات مهما كانت علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. هذا ما قاله الناطق الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف، وأضاف أيضا فيما يشبه التحذيرات الدبلوماسية، بأن "دولا مختلفة مهتمة بدرجات مختلفة بتطوير التعاون الاقتصادي التجاري والحفاظ على علاقات طيبة مع روسيا، كما أنها تفهم بشكل مختلف عدم وجود بديل للعلاقات الطيبة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا". بعض الساسة الروس لم يتمكنوا من احتواء إحساسهم بالسعادة إزاء التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكان من بين هؤلاء عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، الذي أشار إلى أنه "بدون وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فلن يكون هناك أحد سيؤيد فرض عقوبات ضدنا بشكل قوي جدا". العلاقات مع واشنطن جاء في تقرير نشرته وكالة رويترز الدولية للأخبار يوم 24 يونيو: قد يوجه قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سلسلة من الصدمات لعلاقاتها الخاصة مع أمريكا مما يثير تساؤلات بشأن استعداد لندن وقدرتها على دعم الجهود التي تقودها الولاياتالمتحدة في الأزمات الدولية بدءا من الشرق الأوسط وانتهاء بأوكرانيا. ويقول محللون ودبلوماسيون سابقون إن خسارة أقوى صوت مساند للولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي بسبب خروج بريطانيا يهدد بإضعاف تأثير واشنطن في دوائر صنع القرار الأوروبية ويقوي في المقابل موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويشجعه على المزيد من التحدي للغرب. كما يزيد الاستفتاء الذي أجري يوم الخميس 23 يونيو ويرى على نطاق واسع بوصفه انعكاسا لمواطنين تزيد لديهم نزعة القومية والاهتمام بالشؤون المحلية، من مخاطر الانقسام داخل المملكة المتحدة نفسها مما قد يقلل أكثر من دورها وتأثيرها في الشؤون الدولية. ومن شأن خروج بريطانيا أن يطرح على الرئيس الأمريكي القادم معضلة عما إذا كان عليه التحول نحو شركاء أوروبيين أساسيين آخرين مثل ألمانيا وفرنسا بما يقلل بالضرورة من الروابط الخاصة التي جمعت أمريكا بلندن منذ الحرب العالمية الثانية. وقال إيفو دالدر السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي ورئيس مجلس شيكاغو للشؤون الدولية إن قدرة بريطانيا على إقناع حلفائها الأوروبيين وداخل حلف الأطلسي بوجهات نظرها وخياراتها السياسية ستنعدم بعد أن وفرت في السابق دعما سياسيا قويا للولايات المتحدة. وأضاف "من الواضح أن لديك بريطانيا أضعف بكثير كما ستقل سطوتها على العواصم الأوروبية بسبب التصويت." وقال إنه نتيجة لذلك فمن المرجح أن تبذل الولاياتالمتحدة المزيد من الجهد للحفاظ على الوحدة في المواقف عبر الأطلسي وفي أوروبا. وقال إن أي أمر يؤدي لانقسام أوروبا "هو نصر لروسيا لأن تلك سياسة انتهجها بوتين وتبنتها موسكو". وذكر مسؤول أمريكي طلب عدم نشر اسمه "هذا من المؤكد سيشجع الروس على الاستمرار بل وعلى الأرجح تكثيف حملتهم لدعم الحركات القومية في غرب وشرق أوروبا في إطار جهودهم لتحييد حلف الأطلسي". وعبر فيل جوردون وهو مستشار سياسة خارجية بارز سابق لأوباما عن قلقه من أن أوروبا ستصبح متمحورة على شؤونها الداخلية بسبب رحيل بريطانيا عن الاتحاد وحركات الاستقلال في القارة تاركة الولاياتالمتحدة لتحمل المزيد من الأعباء الدولية. وأضاف "كلما زاد الوقت الذي تمضيه أوروبا على فعل ذلك وكلما زادت الموارد التي تنفقها على التكيف مع عواقب ذلك تقلص الوقت والنقود والجهد السياسي الذي لديها لمساعدتنا في التحديات العالمية." بريطانيا لاعب عسكري أساسي في حملات تقودها الولاياتالمتحدة في سوريا والعراق وحليف ناشط على الأرض في أفغانستان وداعم قوي للعقوبات ضد روسيا. وقالت هيذر كونلي مديرة البرنامج الأوروبي في مركز الدراسات الدولية الاستراتيجية في واشنطن إن طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي يمكن أن يستغرق عامين سيكون الآن "عملية مرهقة" يمكن أن تشتت انتباهها عن مثل تلك الجهود. وأضافت "الأمر يتعلق بالوقت الذي سنحتاج فيه للمملكة المتحدة وقيادتها سواء في مجلس الأمن أو في حلف الأطلسي.. سيكون اهتمامها متمحورا على القضايا المحلية". وبينما من المتوقع أن يبقى تبادل المعلومات المخابراتية بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا - وهو أحد أقوى العلاقات من نوعها في العالم- صامدا في وجه الصدمة السياسية يقول بعض الخبراء إن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع الشركاء الأوروبيين قد يعاني. وقال بروس ريدل وهو مسؤول سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي.آي.إيه" وهو حاليا في معهد بروكنغز البحثي في واشنطن "سيجعل الأمر من التعاون في أوروبا بشأن مكافحة الإرهاب أكثر صعوبة كما توقع أغلب رؤساء المخابرات البريطانيين قبل التصويت". لكن مايكل موريل وهو قائم سابق بأعمال مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رفض هذا الرأي وقال إن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب "أكثر أهمية من أن يسمح للسياسة من أي نوع بالتأثير عليه". ويزيد المخاوف الأمريكية احتمال طرح القوميين الاسكتلنديين لإجراء استفتاء جديد على استقلال اسكتلندا التي صوت ثلثا الناخبين فيها لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وسيثير احتمال انقسام المملكة المتحدة تساؤلات بشأن ما إذا كانت ستحتفظ بحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي وهو الموقع الذي مكنها من أن تصبح داعما يعتمد عليه لمبادرات الولاياتالمتحدة. عمر نجيب [email protected]