ستظل ثورة الملك والشعب ملهمة للأجيال المتعاقبة، ومصدراً للدروس التي لايستغنى عنها في الحاضر وفي المستقبل، بقدر ما ستبقى مبعثاً للفخر وللاعتزاز ولترسيخ الانتماء إلى الوطن. ففي الظروف العصيبة التي يجتازها اليوم العالم العربي، وفي المرحلة الفاصلة التي يعيشها المغرب، تتبدّى لنا ثورة الملك والشعب في صورة ملحمة وطنية عظمى ومحطة بارزة من محطات النضال الذي انخرطت فيه الشعوب العربية، لما تنطوي عليه من دلالات عميقة تجعل من قائد تلك الثورة بطلا عربياً ليس كأبطال العرب في المشرق والمغرب. فتلك هي المرة الأولى في التاريخ - على وجه الإطلاق - يخوض فيها الملك ثورة شعبه ويجعل منها ثورة ملكية فريدة بين ثورات العصر. ولأول مرة في التاريخ يقود ملك ثورة عارمة ضد الاستعمار مع شعبه الذي رأى فيه البطل والزعيم والملهم والقائد. إن ما حدث في يوم الخميس 20 غشت من سنة 1953 في المغرب لم يحدث قط في التاريخ الحديث والمعاصر. فقد توجه الجنرال الاستعماري غيوم بعد الظهر للقصر الملكي بالرباط كان محاصراً بالمدرعات والمدافع والجنود المدججين بالسلاح. فقد اعتاد محمد الخامس أن يستيقظ مبكراً لصلاة الفجر ويظل يعمل حتى وقت الغداء، حيث ينام ساعة القيلولة. وصل غيوم ومساعدوه إلى القصر الملكي في حدود الساعة الثانية والنصف. وفور وصوله أمر مدير الأمن بإلقاء القبض على الملك محمد الخامس، ووليّ عهده الأمير مولاي الحسن، وشقيقه الأمير مولاي عبد الله. وسَاقَ رجال الدرك الفرنسي الملك محمد الخامس وأحدُهم يصوّب مسدسه إلى رأسه، في حين سار الأميران خلفه، وفوهات الرشاشات ملتصقة بظهريهما. ويصوّر لنا هذا المشهد الرهيب الملك الحسن الثاني في كتابه (التحدي) حيث يقول: (دفع الجنود الفرنسيون أسراهم (الملك ووليّ عهده وشقيقه) بوحشية إلى داخل سيارة نقلتهم لمطار السويسي حيث كانت طائرة حربية بانتظارهم، لتنقلهم إلى جزيرة كورسيكا الفرنسية حيث أمضوا عدة شهور في الجزيرة حتى يوم 20 يناير 1954، لينقل محمد الخامس وأفراد عائلته إلى قرية انتيسرابي في جزيرة مدغشقر في المحيط الهندي. وفي كتاب (التحدي) تفاصيل تبعث الألم في النفس عن الساعات الأولى من نقل الملك ووليّ عهده وشقيقه الأمير مولاي عبد الله من الرباط إلى كورسيكا يحسن أن يرجع إليها، بل يحسن أن تنشر في الصحف وتقرأ في الإذاعة والتلفزيون، حتى تعرف الأجيال الجديدة عظمة محمد الخامس وما تحمّله من تضحيات وتعرّض له من إهانات من طرف السلطات الاستعمارية الغاشمة. هذا الحدث التاريخي الذي تمر اليوم اثنتان وستون سنة على وقوعه، كان هو الشرارة التي فجرت ثورة الملك والشعب، التي انطلقت في صورة المقاومة المسلحة للوجود الاستعماري الفرنسي، بعد أن توقف النضال السياسي وبدأ النضال المسلح. وكانت السلطات الاستعمارية قد دبرت الأمر من قبل حيث اعتقلت القادة السياسيين في شهر ديسمبر 1952، ولكن خَابَ ظنُّها، فقد برز قادة مناضلون من صفوف الشعب الذين كانوا رواداً في المقاومة، والذين تجاوبوا مع النداء التاريخي الذي وجهه الزعيم علال الفاسي من إذاعة (صوت العرب) من القاهرة بعد نصف ساعة من وقوع الحدث/الزلزال الذي ترددت أخباره في وسائل الإعلام العالمية. فكان الزعيم علال الفاسي على موعد مع التاريخ، حين رفض الحدث الإرهابي الذي تورطت فيه الدولة الفرنسية، وأعلن بطلان الإجراء الذي اتخذته السلطات الإستعمارية، بصفته أحد علماء القرويين الذين يعود إليهم أمر مبايعة الملوك، فإنه يؤكد أن الملك الشرعي للمغرب هو الملك محمد الخامس. ولم يكن الموقف الشجاع الذي اتخذه الزعيم علال موقفاً سياسياً فحسب، بل كان له الفضل في تأسيس حركة المقاومة المسلحة انطلاقاً من منطقة الشمال، فكان على رأس قيادة المقاومة المغربية يمسك بخيوط ثورة مستغلا السياسة المرنة التي تبعتها الدولة الإسبانية التي كانت على النقيض من السياسة الفرنسية الهوجاء. لقد انتفض الشعب المغربي وحملت طلائع المقاومة السلاح في وجه المستعمرين، وكان الشعار الذي رفعته المقاومة يتلخص في كلمتين اثنتين (إلى عرشه) أي عودة الملك محمد الخامس إلى العرش حتى يعود الأمن والاستقرار إلى البلاد. ولكن الاستعمار كان أخرقَ، فلم يستجب لهذا الشعار إلا بعد مضي ثمانية وعشرين شهراً على نفي الملك. وما كان النفي ليحدث لو أن الملك محمد الخامس قد وافق على السياسة الاستعمارية وقبل أن يضع ختمه على القرارات التي يتخذها المقيم العام، ورضي أن يكون مجرد تابع للسلطات الاستعمارية. ولكنه كان أبيّا، جسورا صلباً، حريصا على حمل الأمانة العظمى، وعلى أن يكون في مستوى عظمة العرش المغربي. فلو كان محمد الخامس ضعيفا، مطواعاً، مسايراً للسياسة الاستعمارية ما حدثت الثورة العظيمة لملك وشعبه في يوم 20 غشت سنة 1953. ولكن الملك كان بطلا، شجاعاً، مقداماً، يمثل إرادة شعبه، ويتمسك بمقتضيات الأمانة العظمى. وكانت تلك الخصال النضالية في محمد الخامس هي الوقود الذي فجر ثورة الملك والشعب . وكان المغرب على موعد مع التاريخ، وكان العرش المغربي في قلب العركة. ولذلك رأى الشعب المغربي في الملك الرمز الموحي بالدلالات العميقة، فكان هو الثائر الأول، والمقاوم الفذ، والبطل الرائد، أعطى بنضاله وصموده المثل الأعلى والقدوة الحسنة، فاستحق أن يكون الملك الثائر الذي قاد الثورة الملكية ضد الاستعمار. ينقل محمد العربي المساري في كتابه المرجعي المهم (محمد الخامس من سلطان إلى ملك)، عن الكاتب الشهير فرانسوا مورياك عن نفي الملك محمد الخامس، قوله: (إن محمد الخامس لم يحكم المغرب قط مثل ما يحكمه وهو في المنفى.، إنه يملك من السلطة، والنفود مالم يملكه أي سلطان آخر. هذه هي الحقيقة التاريخية). ومعنى هذا الكلام أن الملك الثائر المقاوم قائد ثورة الملك والشعب من منفاه، هو الرمز الذي يحمل معاني القوة والسلطة والنفوذ، وهو صاحب القول الفصل في حركة المقاومة وجيش التحرير التي ستعرف بعد الاستقلال بثورة الملك والشعب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعبير (ثورة الملك والشعب) ورد لأول مرة في الخطاب الذي وجهه الملك محمد الخامس إلى شعبه يوم 18 يونيو سنة 1956 الذي يخلد ذكرى المقاومة. وهو تعبير دقيق وعميق، ينطوي على دلالات ذات حمولة نضالية. أما خلال المعارك فقد كان الاصطلاح السائد هو المقاومة والفداء والتحرير. وهذه الجزئية بالغة الأهمية، تدل على أن الملك محمد الخامس هو الذي أطلق تعبير ثورة الملك والشعب فكان تعبيرا وافيا بالقصد. لقد دخل العرش في المغرب التاريخ من أبوابه الواسعة. وكان الملك محمد الخامس هو الملك الثائر الأول في تاريخ المغرب، بل في تاريخ العالم العربي الإسلامي بدون استثناء. وكانت ثورة الملك والشعب مثالا للثورات الوطنية التي تقوم على قواعد صحيحة وتهدف إلى تحقيق المصالح الوطنية والأهداف القومية. وهذا النوع من الثورات الوطنية على النقيض من الثورات العسكرية الإنقلابية التي تغتصب السلطة وتسرق الحكم وتخدع الشعوب بالشعارات الفارغة. وهو النموذج الذي عاشه العرب والمسلمون عموما طوال العقود الثمانية الماضية. ولايزال هذا النموذج السيء قائما في عدد من البلدان العربية فثورة الملك والشعب في المغرب ثورة حقيقية، وأصيلة، ثورة شعبية، وثورة ملكية، قائدها هو الملك ، سواء وهو في أرض الوطن أو في المنفى، أو بعد العودة من المنفى واستقلال المغرب. لأن ثورة الملك والشعب متواصلة الحلقات في سلسلة ذهبية من النضال الوطني الذي تعاقب من الملك محمد الخامس الى الملك محمد السادس عبر الملك الحسن الثاني. وهذا هو المعنى العميق الذي يجب أن نتأمله ونطيل الوقوف عنده في هذه المرحلة، حتى لانقطع الصلة بالماضي، لأن بناء المستقبل يبدأ منه الماضي، فمن لاماضي له لامستقبل أمامه، وتلك هي خبرة التاريخ وحكمة الدهر وطبيعة الأشياء. من هذه الزاوية ننظر اليوم إلى ثورة الملك والشعب، فلا نراها حدثا تاريخيا وقع في فترة من الزمن وانتهى، ولكننا نراها ملحمة وطنية ملهمة لنا في نضالنا الوطني بقيادة جلالة الملك، لبناء الدولة الديمقراطية على قاعدة الملكية الدستورية، ولصناعة المستقبل في ضوء دروس الماضي التي لانفاد لها. فليس هذا الحدث التاريخي من الأحداث العابرة، ولكنه من الأحداث العامرة بالمعاني والدلالات، يؤثر في حاضرنا، كما يؤثر في مستقبلنا. فالملك هو قائد مسيرات المغرب الديمقراطية والتنموية والسياسية والالجتماعية والثقافية والحضارية. وبذلك نكون في صلب ثورة الملك والشعب، ويكون حاضر المغرب مطبوعا بعظمة ما ضيه المجيد، فلا يقع انفصال بين الأجيال، ولاينقطع حبل النضال الوطني، ولا تتوقف ثورة الملك والشعب التي تتجدد، وتتوهج، وتؤتي أكلها في كل زمن. وحينما تكون الثورة الوطنية بقيادة الملك، تكون ثورة ملكية بقدرما هي ثورة شعبية. وفي ذلك من الدلالات ما يستوجب أن نتعمق فيه وأن ندركه ونعيه.وهذا مصدر افتخارنا واعتزازنا، بل هو مصدر أمننا واستقرارنا، لأن جلالة الملك هو القائد الملهم لثورتنا الوطنية في كل مرحلة من مراحل نضالنا الوطني أمس واليوم وغدا. وتلك هي الرؤية المعاصرة إلى ثورة الملك والشعب، في بعض من جوانبها.