يمثل الزميل الأستاذ الصديق بوعلام، نموذجًا فريدًا من بين زملائه في الأسرة الصحافية المغربية، فهو الصحافي الممارس للمهنة، الذي يواصل التأليف في الموضوعات التي تدخل ضمن اختصاصاته المهنية. وهو لا يكتب ويصنف ويؤلف ليحتفظ بإنتاجه في أدراج مكتبه أو على رفوف مكتبته، ولكنه يغامر فينشر كتبه بانتظام كتابًا في إثر كتاب، في طباعة أنيقة وإخراج قشيب، حتى تجاوزت حصيلة الكتب التي صدرت له خمسة عشر كتابًا، أعترف أنني لم أقرأها كلها، ولكنني قرأت بعضها، وتصفحت بعضًا منها، واطلعت على موضوعاتها، فاستفدت منها، وأعجبت بها، وقدرت لصاحبها الجهود التي بذلها في تأليفها، وأكبرت فيه روح الدأب والاستمرار والتحدي للمعوقات التي تعترض سبيل المؤلفين الذين ينشرون كتبهم بمبادرات شخصية منهم، وليس عن طريق الناشرين. الكتاب الجديد للأخ الصديق بوعلام، الذي يحمل عنوان (ذخيرة الخطب المنبرية للشيخ العلامة أحمد بن عبد النبي رحمه الله)، يتناول فيه هذه الشخصية المحببة إليه الأثيرة لديه، الفقيه العلامة النحرير أحمد بن عبد النبي، شيخ الجماعة في سلا، وأحد أركان الحركة العلمية في هذه المدينة ذات المجد التاريخي. فهو في كتابه هذا لا يترجم للفقيه بن عبد النبي، فقد نشر ترجمة وافية له من قبل أصدرها بعنوان (شيخ الجماعة لمدينة سلا العلامة أحمد بن عبد النبي : حياته وآثاره) ضمن سلسلة (علماء وصلحاء من سلا)، ولكنه جمع فيه خطب الجمعة التي ألقاها في الجامع الأعظم بسلا جمعًا متقنًا، وقدم لها تقديمًا مناسبًا، ونشرها لتعم الفائدة بها. وفي هذه الخطب الجمعية تتبدى لنا شخصية العلامة أحمد بن عبد النبي ذات الإشعاع الثقافي والفكري والطابع العلمي والفقهي المتميز. فلقد كان صاحب هذه الخطب المنبرية قطبًا علميًا لا يجارى، ومربيًا للأجيال، وواعظًا حكيمًا عميق المعرفة واسع الرؤية، وصاحب مدرسة في العلوم الشرعية وفي الوظائف الدينية، منها الخطابة على منابر المساجد. فهذا العمل الذي قام به الزميل الصديق بوعلام، ينطوي على الوفاء لمن يستحقون الوفاء، من جهة، وعلى المحبة لأهل الفضل والعلم، من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة ينطوي هذا العمل على الرغبة في تقديم الزاد العلمي للجيل الجديد من خطباء الجمعة الذين سيجدون في هذا الكتاب من المعرفة والفائدة والمتعة العقلية والبيانية، ما يزيدهم إصرارًا على مواصلة السير في الاتجاه الذي اختاروه لأنفسهم. إن هذا العمل الذي أقدم عليه الزميل الصحافي المؤلف، لا أعرف له مثيلا ً في المكتبة المغربية، عدا خطب الجمعة التي جمعها ونشرها الأستاذ إسماعيل الخطيب، وخطب الجمعة التي أصدرها الأستاذ محمد الطنجي، وخطب الجمعة التي ألقاها الدكتور عباس الجراري في مسجد للاسكينة بالرباط، والتي جمعتها إحدى طالباته ونشرتها في جزءين، مع دراسة تمهيدية مفصلة تليق بالمقام. هذا على المستوى الوطني، أما على المستوى العربي، فقد جمعت خطب الجمعة للدكتور يوسف القرضاوي ونشرت، وجمعت خطب الجمعة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ونشرت، وجمعت خطب الجمعة للشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ونشرت، وجمعت خطب الجمعة للشيخ محمد الغزالي ونشرت. ولا تحضرني أسماء لخطباء آخرين من العلماء المسلمين المعاصرين الذين نشروا خطبهم في كتب. إن التواصل بين الأجيال الذي يتم من خلال نشر خطب الجمعة التي ألقاها بعض العلماء الأفاضل، هو ضرورة من ضرورات الاستمرار للترابط والتماسك والتضامن المعنوي في المجتمع العلمي، لأنه يعبر عن الوفاء العقلي والوجداني والأخلاقي لأن الوفاء درجات الذي هو خاصية تَوَارَثَها العلماء جيلا ً بعد جيل وطبقة عن طبقة. هذا فضلا ً عن أن هذه الخطب المنبرية تعكس الظروف التي كانت سائدة في عهد صاحبها، والأجواء الاجتماعية والانشغالات والاهتمامات التي كانت مدار الحياة العامة في العصر الذي ألقيت فيه تلك الخطب. وبغض النظر عن قيمة الموضوعات المطروحة للمعالجة، فإن الأهم هو أنها تقدم لنا صورة عن حياة الناس، وتعبر عن مستوى الثقافة العامة التي كانت رائجة، كما تعبر عن المستوى العلمي والمعرفي للأئمة أصحاب تلك الخطب. يضم هذا الكتاب القيّم أربعين خطبة تدور حول موضوعات حيوية، تهم الفرد المسلم في حياته الخاصة، وتنفع المجتمع المسلم في حياته العامة. ويقول المؤلف إنه يعمل على إعداد أربعين خطبة منبرية أخرى للعلامة أحمد بن عبد النبي، لنشرها في كتاب. وبذلك تكون هذه الخطب المنبرية شهادة من عالم كبير، وفقيه ضليع من العلوم الشرعية، وكبير علماء سلا، على العصر الذي عاشه، والذي هو، باختصار شديد، من المراحل الصعبة التي مرت بالشعب المغربي. إن أهمية هذا الكتاب القيّم وقيمته العلمية والتوثيقية تكمنان في أنه شهادة صدق على عصر قلق، ومرآة صافية للمجتمع المحلي الذي هو جزء لا يتجزأ من المجتمع المغربي. وبذلك يكون هذا الكتاب، من بعض وجوهه، كتابًا في التاريخ الاجتماعي لبلادنا، فهو ليس مجرد سجل للخطب المنبرية، لأن هذه الخطب متميزة شكلا ً ومضمونًا، فصاحبها عالم فذ وشيخ الجماعة، يملك الأدوات العلمية والفقهية واللغوية لمخاطبة الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولكنه سجل للتحولات التي عاش المغرب في كنفها، وتعامل معها العلماء المصلحون بالحكمة التي هي الميزة التي يتميزون بها عن غيرهم. فهنيئًا للزميل الأستاذ الصديق بوعلام بهذا المشروع الثقافي الذي آل على نفسه أن ينهض به منفردًا، مخلصًا في خدمته للعمل، وصادقًا في التعبير عن عمق التواصل بين الجيل الذي ينتمي إليه، وبين الجيل الرائد الذي نشأنا جميعًا على حبه وتقديره واحترامه والوفاء له.