قد لا نُعيرُ للملاحظة عيْناً، فنغْفلُ عن ما للنُّقطة من دور حتى في حياتنا اليومية الأحوج لِكْبح الجِماحِ، وليس فقط في الكتابة حين نخشى على الكلمات من آفة الثرثرة التي تُحوِّل اللسان إلى حبل طويل لا تَحُدُّ سطوره عقدة كالتي تُلوِّي أنشوطة المشنقة..! أجل، صار الكثيرون اليوم يتجولون بيننا دون أن يحملوا في حقيبة اسمها السلوك الإنساني، نقطةً تقينا شر الأخطاء حتى في اللغة، فبالأحرى شرور البشر التي تتجاوز بقرونها كل الأخلاق ولو كانت حائطاً، غير مبالية بنحو أو إعراب؛ نحن أحوج إلى النقطة في كل الأوراق التي تتناثر من شجرة أعمارنا أياماً في مَعِيشِنَا مع الآخر، لكنها لن تصبح ثقافة سارية الدم في العروق، دون إدراك ما للنقطة من دلالة سيميائية وبلاغية على المستوى الأدبي والجمالي أيضاً؛ فهي التي استحضرها الشريف الجرجاني في كتاب «التعريفات» حين قال: «واعلم أن الخط والسطح والنقطة أعراض غير مستقلة الوجود على مذهب الحكماء، لأنها نهايات وأطراف للمقادير عندهم، فإن النقطة عندهم نهاية الخط، وهو نهاية السطح وهو نهاية الجسم التعليمي»؛ النقطة إذاً ليست مجرد حَجَرة نُسُدُّ بحاجزها سيل الأفواه الذي يُصَدّعُ بهديره الرؤوس، بل قيمة أدبية وجمالية وثيقة الدلالة حتى بالقَدَر؛ لكن كما أسلفت، لا أحد يُرصِّعُ حَجَرتها الكريمة جوهرة في ذهنه كي يُجدد الأفكار وينعشها، بدَل أن يضجرنا بما يشبه لوك العشب بالإجترار ..! من قال إن النقطة ليست خالا يزيد الوجوه وَسَامَةً؟؛ من قال إنها تحبس الأنفاس في الصدور، فيُصَاب البعض ب «نقطة» وهي كارثة قد تؤدي إلى السكتة القلبية ؛ من قال إن النقطة لا تدَعُ مجالا ولساناً لحرية التعبير؟ ؛ ولكن أليس حتى السيارات كي لا تفقد رشدها في الطريق، أحوج إلى نقطة تشتعل بضوء أحمر؟؛ كذلك الإنسان رغم أنه ليس دابة حديدية، تعوزه نُقَطاً إشارية بكل الألوان، تنظم مرور الأفكار بحرية سَلْسة لا تُقيدها رخصة يحملها في الغالب أناس لا يجيدون سياقة حتى الجَمَل فبالأحرى قطيعاً من الجُمل الفعلية والإسمية وأشباه الجُمَل؛ لذلك لايعرفون نُقطة سوى الجدار..! وثمة من يوثرون على النقطة الفواصل، فتراهم يتقافزون على حواجزها في ما يشبه عَدْواً لا هو بالريفي ولا المدني، فنسمع لهم بَدَل مَعْنىً في كلمة بليغة، لهاثاً وفَحيحاً..! حقاً، إن للنقطة ضرورة قصوى في حياتنا، لذلك ربطتها بعض الشعوب كما يربط الفلاح الدجاج قبل الذهاب للأسواق، بالجهاز الأمني، فصار اسم مخفر الشرطة في مصر «النقطة» التي ينطقونها «النؤطة»، لكن مهما استبدلتُ رأسي بكل معاجم العالم، لا أفهم كيف انتقل المعنى بالنقطة في هذا البلد الشقيق، من مخفر الشرطة إلى خيمة الأفراح، فصارت «النؤطة» هي الهدية التي تُنقَّطُ بقيمتها المالية العروسة؛ ورغم أن الخَطَّ في عرف الرسام الألماني «بول كلي»، ماهو إلا نقطة تتنزه، فلن أوغل أبعد في تحليل فلسفي تدور رحاه فوق كل الشعوب المسحوقة، حول جَدَل المال والسلطة..! لكنني أعلم أن ثمة أحرفاً أشبه بالسقوف المثقوبة التي تتسرَّبُ من خَلَلِهَا الريح، وتعوزها نُقَطٌ ليس لسَتْرِ سوأتها التي رآها الجميع، إنما ليصدق عليها القول الأثير (نُقَطٌ على الحروف)، وبدون هذه النُّقط تبقى الكلمة خرساء لاتُصدر صوتاً أو معنى..! ليس كل نقطة رقابة على الذات تجعلنا نَلْتَبِسُ بأولئك الذين يبتلعون ألسنتهم طويلا، وحين نَتَوَجَّسُ من هذا التأمُّل حِكْمَةً، ينطقون بَدَلَهَا خلْفاً؛ لا نريد نقطة تعود بكلامنا إلى أول السطر فقط، إنما نريد نقطة تفيض بالكأس حتى يتَّضحَ القعرُ صافياً من كل شوائب المجتمع التي تملأه كذباً؛ نريد نقطة تفيض حتى بما في الرأس عساه بعد الفراغ يعود إلى عنفوان التفكير، ولا نموت وفي قلوبنا شيء من النقطة..! (افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 26 مارس 2015) ملحوظة: من السُّخرية التي تحول البكاء ضحكا، أن هذا المقال الذي يدافع عن النقطة كي تعود إلى سطرها، سقطت منه أثناء إخراج الصفحة في النسخة الورقية للملحق، فقرة كاملة أربك المعنى و المبنى أيضاً، و عزاؤنا أننا نعيد نشر المقال بفقرته الضائعة في الموقع الإلكتروني لجريدة العلم ، فعذرا للقارىء الكريم..!