غبت عن وطني المقيم فيه ، ولا أعرف أيا من الأوطان وطني، المقيم فيه أم المولود فيه وقالو "لا فضل لبلد عليك. فخير البلاد ما حملك"! وفي فترة غيابي عن الوطن المقيم فيه وهو هولندا قضيت عاما كاملا إنشغلت فيه بإستعادة أوراقي ووثائقي التي أضاعتها حروب لبنان الأهلية والخارجية. كما عملت على إنجاز فيلم سينمائي روائي يحمل عنوان "بغداد خارج بغداد"! الوطن الذي ولدت فيه "العراق" عدت منه بعد عام محملا بالأوجاع النفسية والجسدية بعد أن خرجت من الوطن المقيم فيه صحيحا معافى. وأنا أنتمي في وضعي الصحي والإنساني لطبيب العائلة حسب أنظمة الوطن المقيم فيه. وهو يعرفني مخرجا سينمائيا وكاتبا عراقيا مقيما في هولندا. هو الطبيب: Van der Brugen حين وصلت الوطن المقيم فيه آتيا من الوطن المولود فيه ذهبت فوراً لطبيب العائلة لكي أتأكد من طبيعة الأوجاع النفسية والجسدية التي أعاني منها. ففي وطني الذي ولدت فيه لا توجد مياه صافية نقية وكل الأطعمة مشكوك في تاريخ صلاحيتها، فالدجاج الفاسد تغير الشركات النهمة تاريخ صلاحيته والخضروات تزرع في أرض لوثها الدكتاتور بأسلحته الفاتكة والملوثة والسماء لم تعد زرقاء والنجوم غير مرئية في سمائها بسبب غبار التصحر. لا يعرف الإنسان من أي مكان يعبر الشارع وكثيرون يموتون بسب عبور الشوارع هذا ناهيك عن المتفجرات والمفخخات وأخيرا دولة الخلافة الإسلامية القائمة على نحر البشر وفي مقدمتهم المسلمين! وهذه الكارثة عمت الوطن العربي او ما يطلق عليه الشرق الأوسط! دخلت غرفة الطبيب لأتأكد من سلامتي الجسدية فوجدته غير ما تركته. تركته مرحا يرتاح من لقائه المريض فإبتسامته لا تفارق شفتيه. تغيرت ملامح وجهه وكان حزينا يتحدث بنبرة تشعر أن فيها حشرجة البكاء. عادة يسألني عندما أزوره، من ما ذا تعاني ماذا بوسعي أن أعمل من أجلك. لكنني في هذه المرة سألته أنا ماذا حل بك ومن ماذا تعاني وهل بإمكاني أن أعمل شيئا من أجلك!؟ قال أنا حزين. غير سعيد بالعالم الذي أعيش فيه. قلت له أنك تعيش في هولندا وهي أجمل البلدان وأكثرها إنسانية ونظاما، نحن سعداء بهولندا. قال كلا، فأنا لست سعيداً. فأنا لم يعد بإمكاني مشاهدة ولدين صغيرين لي. قلت له أن أبناءك كبروا وصاروا رجالا. قال أعرف ذلك فأنا أيضا لي ولدين صغيرين جميلين حيث كل عام إذهب لقضاء إجازة الصيف في سيناء بمصر وتعرفت على عائلة فقيرة تؤجر للسائحين حصانا، وصرت صديقا لهم. صرت أتناول طعامي في مسكنهم البسيط وعندهم طفلان جميلان صارا كما أبنائي. صرت أتجول معهم كل يوم امسك هذا بيد وأمسك الثاني باليد الأخرى ونخرج نلعب ونضحك. صرت أزورهم كل عام وأرفض أن أقضي إجازتي الصيفية في أي بلد. صرت أسافر سنويا لمصر، أمنحهم الملابس والهدايا والحلوى الهولندية وأعالجهم وأقوم بفحصهم وأزودهم بالدواء. الآن وبعد أن حل الخراب على العالم وسادته القوى التي تقتل البشر نحراً لم يعد بإمكاني الذهاب إلى سيناء. أخاف أن أذهب إلى هناك .. لم يعد بإمكاني عيادة أطفالي الجميلين في سيناء. سيدي الملك العربي .. هذا ما يصدره الغرب إلينا فيما نحن نستهلك الأرهاب ونصدر الفائض منه للغرب. اليست حكاية الطبيب وأبنائه في سيناء جديرة بالقراءة والمتابعة واليست الحكاية جديرة بتكريم الطبيب وإعلان هذا التكريم عبر كل وسائل الإعلام في العالم كي نشعر العالم أن الدنيا لا تزال بخير وإن الناس أخوة على الأرض ولا فرق بين عربي أو عجمي إلا بالتقوى. أو ليست حكاية الطبيب الحزين هي التقوى بذاتها وهي المقصودة بالحديث!؟ سيدي الملك العربي. دعونا نتخذ من هذه الحكاية البسيطة دعوة للخير وشجبا ضمنيا للخوف والخلل والإرهاب الذي أصاب الحياة على حين غرة وربما ليس على حين غرة!