سيظل التحول الاستراتيجي الذي حدث في تركيا بالفوز الذي تحقق لرجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية، مسألة تثير قدرًا كبيرًا من الاهتمام، وتبدد كثيرًا من الأوهام، وتدعو إلى مزيد من التأمل والاعتبار، وتستدعي بذل الجهد في فهم حقيقة ما جرى، وفي تحليل طبيعة هذا التحول الذي لا نكاد نجد له نظيرًا في طول البلاد العربية وعرضها. لقد نجحت الديمقراطية في تركيا، بنجاح رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وعلا صرحها الشامخ، بصعود رئيس الوزراء السابق إلى سدة رئاسة الجمهورية. إن نجاح الديمقراطية في دولة شرق أوسطية تقع في قلب هذا الإقليم المضطرب الذي يمر بمرحلة جد قلقة محفوفة بالمخاطر من كل جانب، هو حدث لا ينبغي أن يمر سريعًا، ولا ينبغي أن نحصر الحديث عنه في مقال أو مقالين في جريدة سيارة، ولكن يجب أن لا نمل من الخوض في هذا الحدث، لاستخلاص الدروس منه. والضمير عائد هنا إلى العرب والمسلمين عمومًا، الذين يعانون كثيرًا من غياب الديمقراطية، أو من سوء الفهم للديمقراطية، أو من الخلل في تطبيق قواعد الديمقراطية والعمل بمقتضياتها. بل ينبغي أن نقول إن الأزمات والحروب الأهلية والاضطرابات والمشاكل العويصة التي تعيشها الشعوب العربية بخاصة، تعود في مجملها، إلى الحكم الديكتاتوري والسلطة الاستبدادية والهيمنة القمعية، وإن اختلفت العناوين والأقنعة، وتباينت الأسباب والدواعي من دولة إلى أخرى. الاحتفاء بنجاح الديمقراطية في توطيد قواعدها في بلد عاش سبعة عقود من الحكم الديكتاتوري تحت سلطة العسكر وضد إرادة الشعب، هو الذي يدعونا إلى متابعة التطورات التي تحدث في الجمهورية التركية التي خرجت من نفق الاستبداد الذي كرسته الانقلابات العسكرية، إلى فضاء الحرية وسيادة القانون واحترام الإرادة الشعبية التي تعبر عنها صناديق الاقتراع أقوى وأوضح ما يكون التعبير. فليس الموضوع الذي يثير الاهتمام، هو فوز رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، في الانتخابات الرئاسية. ولكن الموضوع هو أكبر من ذلك وأوسع مدى وأعمق مدلولا ً. فهذه أول دولة في الإقليم تنجح في تجاوز المسار الديمقراطي المتعثر والمهتز والمرتبك والمحفوف بالخطر، على نحو غير مسبوق، يقدم للمراقبين مثالا ً يستحق الاحترام للعملية السياسية الديمقراطية التي لا تشوبها شائبة. وتركيا اليوم دولة شديدة التميز على صعيد دول العالم الإسلامي كافة. بل هي دولة متميزة على المستوى العالمي دون أدنى شك، اقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وتكنولوجيًا وسياسيًا. ولذلك تثير الاهتمام وتبعث على الاحترام. من الأمور الغريبة والعجيبة التي أثارت انتباهي خلال زيارتي الأخيرة لتركيا، أن المرشح في الانتخابات الرئاسية، البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو، كان يتحرك في المشهد التركي وكأنه زعيم سياسي وقائد جماهيري وصاحب برنامج وطني، وهو لا صلة له بالسياسة من قريب أو بعيد على وجه الإطلاق. فضلا ً عن هذا، فقد صرح لإحدى الصحف أن أردوغان لم يرشحه للولاية الثانية أمينًا عامًا لمنظمة التعاون الإسلامي، وإنما رشحته دولة عربية. وهذا منتهى المغالطة؛ لأن الترشيح للمناصب الدولية يكون بقرار الدولة التي ينتمي إليها المرشح، وليس من دولة أخرى.وكذلك تجديد الترشيح لولاية ثانية وثالثة أو أكثر، يتم من خلال الدولة التي ينتسب إليها المرشح. ولكني بعد التأمل، انتهيت إلى فهم ما حرص البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو على إخفائه، وهو أن الدولة التي قال إنها رشحته لولاية ثانية على رأس منظمة التعاون الإسلامي، ربما كانت هي الدولة التي دفعت به وشجعته على الترشح للفوز بمنصب رئيس الجمهورية التركية، بتحالف غريب غير متجانس ولا متناغم مع حزبي المعارضة؛ حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، ومع قوى محلية وإقليمية أخرى ذات النفوذ الواسع، يجمع بينها السعي من أجل الحيلولة دون فوز أردوغان. وقد خاب هذا المسعى كما هو واضح. ولكن كيف خضع البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو لهذه اللعبة، وقبل أن ينزل الحلبة ليمارس دورًا لا يناسبه أو يلائمه، بل لم يخلق له، وهو الذي لم يمارس السياسة قط، ولم ينتم إلى حزب، ولم يعرف عنه أي ميول سياسية؟. هو رجل علم وفكر وثقافة وبحوث ودراسات. فجأة ظهر على سطح المشهد السياسي زعيمًا ينافس أقوى رجل في تركيا وأكثر السياسيين نجاحًا في تاريخ تركيا الحديثة. أليس هذا من الأمور العجيبة الغريبة التي تستحق المتابعة وتتطلب التحليل السياسي والثقافي لفهم هذه الحالة غير الاعتيادية؟. أعرف البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو شخصيًا. فقد استقبلني ذات يوم في مكتبه في استانبول، حينما كان مديرًا عامًا لمركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية –إرسيكا- التابع لمنظمة التعاون الإسلامي سنوات قبل انتخابه أمينًا عامًا لهذه المنظمة، فوجدت فيه مثالا ً يستحق الاحترام والتقدير، للمثقف الأكاديمي، وللباحث في الحضارة الإسلامية والمتخصص في تاريخ العلوم. فهو من مواليد القاهرة، هاجر أبوه إحسان أوغلو في الثلاثينيات من القرن الماضي من تركيا إلى مصر، فرارًا من القمع الأتاتوركي، فعمل مسؤولا ً عن الأرشيف العثماني بالقصر الملكي في عهد الملك فؤاد الأول، ثم التحق فيما بعد بدار الكتب مسؤولا ً عن قسم المخطوطات التركية. وهو القسم الذي عمل فيه بعد وفاته، ابنه الطالب أكمل الدين أثناء دراسته بكلية العلوم في جامعة عين شمس التي تخرج فيها. قبل ثلاث سنوات دعي أكمل الدين إحسان أوغلو للحديث في ندوة نظمتها دار الكتب القومية في القاهرة، فحكى قصته مع هذه الدار، وتحدث عن الفترة التي عمل خلالها في تلك المؤسسة الثقافية العريقة. استلم رجب طيب أردوغان أمس الخميس 28 أغسطس، مقاليد الأمور من سلفه ورفيق دربه الرئيس عبد الله غل، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته السياسية. وأول أمس الأربعاء 27 أغسطس، استلم البروفيسور أحمد داود أوغلو وزير الخارجية، منصبه الجديد رئيسًا للوزراء، ورئيسًا لحزب العدالة والتنمية. وأحمد داود أوغلو عضو في البرلمان التركي عن مدينة قونية التي تعد العاصمة الثقافية لتركيا، ومنهم من يعدها العاصمة الروحية لتركيا، بحكم أنها المدينة التي عاش فيها الشاعر الإنساني العظيم مولانا جلال الدين الرومي، ودفن فيها، فارتبطت به. هذه الخلفية تؤخذ بعين الاعتبار عند تحليل شخصية رئيس الوزراء التركي الجديد المفكر الفيلسوف السياسي الأكاديمي أستاذ العلاقات الدولية في إحدى أرقى الجامعات التركية. وكان قبل ذلك أستاذا ً للعلوم السياسية في الجامعة الإسلامية بماليزيا. وللرجل مؤلفات أكاديمية ذات قيمة علمية عالمية، أذكر منها على سبيل المثال كتابه (العمق الاستراتيجي) الذي ترجم إلى اللغة العربية وصدر قبل سنتين في بيروت في نحو ستمائة صفحة. وقد قرأت هذا الكتاب ونشرت مقالا ً عنه في هذه الجريدة. ولكن البروفيسور أحمد داود أوغلو لم يحترف السياسة قبل سنة 2004، وهو التاريخ الذي انضم فيه إلى حزب العدالة والتنمية. وقد اختاره رجب طيب أردوغان مستشارًا للشؤون الخارجية في رئاسة الوزراء. فقد جاء من الجامعة ولم يأت من المعترك السياسي، فلم يكن عضوًا في البرلمان، ولا في بلدية، ولا في أي حزب من الأحزاب. وهو بهذا الاعتبار يفتقد الجاذبية التي تشد الجمهور إليه. وهذا يعني أن حزب العدالة والتنمية الذي أصبح أحمد داود أوغلو رئيسًا له منذ أول أمس الأربعاء، بات يفتقد الزعيم الذي يحرك الجماهير. ولكن المراقبين يذهبون إلى القول إن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان هو الزعيم الذي تحتاجه تركيا اليوم. فهو من موقعه الحالي، سيمسك بمقاليد الأمور، ويدير دفة الحكم بصلاحيات كاملة، بعد أن يتم تعديل الدستور الحالي، ومن هنا سيكون مؤهلا ً وقادرًا على تحريك الجماهير وتعبئة الشعب لقبول الإصلاحات الجذرية التي سيدخلها على نظام الحكم في البلاد. أعود إلى المثقف الكبير البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو (أوغلو هذه معناه ابن، أي أكمل الدين ابن إحسان)، فأقول إنه شخصية مثقفة على قدر عال من دماثة الخلق ولطافة المعشر. له مؤلفات حول جوانب من الحضارة الإسلامية، وكتب مقدمات لكتب عديدة لباحثين عرب وأتراك. وسيكون الرجل في وضع مريح جدًا، لو تفرغ للعمل الأكاديمي، واعتكف في بيته الجميل في استانبول على القراءة والكتابة، واكتفى بالمشاركة في الحياة الثقافية والأكاديمية من موقعه ذاك. وسيخسر كثيرًا، لو عاند التيار العام السائد وآثر أن يبقى في الساحة السياسية بصفة مرشح سابق لرئاسة الجمهورية. ولست أدري كيف سيتعامل رئيس الجمهورية التركية الجديد مع ما يسميه (الكيان الموازي)، ويقصد بذلك حركة (خدمة) التي يرأسها ويقودها المفكر والفيلسوف والمثقف الكبير الأستاذ محمد فتح الله كولن. وبحسب الرأي الذي عبر عنه عدد من المثقفين الأتراك خلال لقاءاتي بهم أخيرًا (لا مؤخرًا) في استانبول، فإن رئيس الجمهورية سيكسب كثيرًا لو طوى الصفحة وتجاوز الأزمة وكف عن ملاحقة (الكيان الموازي) بعد أن ينزل إلى الواقع ويجدد ربط العلاقات معه للوصول مع الجماعة إلى تفاهمات يتطلبها الوضع الجديد. في الجملة، فإن تركياالجديدة تدفن الماضي، بينما بعض العرب يحيون الماضي الأسود الذي فسدت فيه الحياة السياسية، وفسد عقل الإنسان العربي ووجدانه، وضاعت فيه فرص البناء والنماء. إنهم في تركيا يدفنون الماضي وينطلقون نحو المستقبل بفكر جديد، وإرادة قوية، ورؤية ثاقبة، وبعض العرب يركنون إلى الماضي ويتشبثون به، ويجددونه، ويحيونه ويعيشون في كهوفه.