المخرج السينمائي العراقي الكبير والقدير "قاسم حول" صاحب الإنجازات الكبيرة في السينما العربية والعراقية وآخرها فيلم "المغني" الذي قطف الجائزة الأولى في "ملتقى نابل الدولي للسينما العربية" مشاركة مع الفيلم المغربي "فيلم"، هو أيضا أي "قاسم حول" من المخرجين الذين يعشقون السينما التسجيلية، وفيلمه "الأهوار" 1976 يعتبر بحق واحد من الأفلام التسجيلية العربية الذي عرف عربيا وعالميا بل ربما أهمها، لما يتمتع به الفيلم من قوة البحث في واقع "الأهوار" العراقية والقيمة الجمالية والفنية التي حققها الفيلم ضمن بنية معاصرة وغير تقليدية. وقد أعتبر هذا الفيلم أول وأهم وثيقة سجلت واقع منطقة "الأهوار" العراقية التي يعود تاريخها إلى أكثر من سبعة آلاف سنة. و"الأهوار" هي منطقة مائية عاش السومريون فيها وعلى ضفافها وأنجزوا أهم وأعرق حضارة في التاريخ الإنساني. جدير بالذكر أن حاكم "العراق" الدكتاتور "صدام حسين" كان قد جفف هذه المنطقة المائية الواسعة لكي يحول حسب معتقده بعدم استغلالها من قبل "إيران" كي تكون مكانا لتسرب الجنود الإيرانيين إلى داخل "العراق" عبر الزوارق العسكرية لأن "الأهوار" متواصلة مائيا مع الحدود الإيرانية في منطقة "الأهواز". بقي هذا الفيلم شاهداً على أحداث هامة في تاريخ "العراق" والمنطقة. ومثل ما بحث المخرج "قاسم حول" في هذا الواقع الغريب والصعب وعاش فترة هناك في ظروف صعبة كي يصور تلك المنطقة المعقدة والخطيرة. فهو اليوم يبحث في موضوع آخر لا يقل أهمية عن فيلم "الأهوار" وهو فيلم "أبناء الماء" وهو عن الطائفة الدينية المعروفة ب"الصابئة" والذين يطلق عليهم "المندائيين". والصابئة المندائيون الذين يقدسون الماء هم ديانة توحيده وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم. "بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" البقرة/62 والصابئة هؤلاء هم من أتباع وتلامذة النبي "يحيى زكريا" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم "بسم الله الرحمن الرحيم. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ إسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. من هم هؤلاء الأقوام.. ولماذا هذا الفيلم؟ هذا سؤال وجهناه إلى صاحب فيلم "الأهوار" وصاحب هذا الفيلم "أبناء الماء" وهو المخرج العراقي "قاسم حول" الذي خص جريدتنا "العلم" بهذا الحوار الشيق. - هؤلاء الأقوام عاشوا في "العراق" القديم على ضفاف منطقة "الأهوار" المائية لأن طقوسهم قائمة أساساً على الماء، والماء الجاري فقط. وقد جاء في كتابهم "كنز ربا" أي الكنز العظيم "ومن الماء صرنا" وهو متطابق تماما مع ما جاء في القرآن الكريم "وجعلنا من الماء كل شيء حي". كتابهم المقدس الذي كتبه تلاميذ النبي "يحيى زكريا" وجد على صفائح من النحاس ويقال من الرصاص أيضاً، وأيضا تلاميذ "يحيى" الذين نقلوا تعاليمه.. كلها مكتوبة باللغة الآرمية. وهذه اللغة يتقنها شيوخ الصابئة المندائيين من رجال الدين. وكانوا يرفضون ترجمتها حتى تبقى مقتصرة على رجال الدين، ولكن في أعوام التسعينات تقرر في "العراق" ترجمة كتابهم المقدس "كنز ربا" وكذلك كتاب "تعاليم يحيى" المسمى بالآرامية "دراشة أد يهانا". هذه الأقوام تناقصت بفعل أن دينهم ليس ديناً تبشيرياً وهم لا يتزوجون ولا يزوجون لا من غير الصابئة ولا إلى غير الصابئة. كما أن بعض السلفيين الذين يعادون الأديان على خلاف ما جاء في القرآن الكريم "لكم دينكم ولي ديني" فقد قاموا باضطهادهم وبشكل أكثر بعد أن صعدت التيارات الإسلامية إلى الواقع السياسي وبشكل خاص في "العراق" حيث يتجمع أبناء الصابئة المندائيين. كان تعدادهم بضعة مئات الآلاف واليوم لم يبق منهم سوى حوالي مائة ألف صابئي مندائيي يعيش قرابة عشرة آلاف منهم فقط بين جنوب "العراق" ومنطقة "الأهواز" في "إيران". أما التسعون ألف الآخرون فقد هاجروا نحو "أوربا" و"أستراليا" و"كندا" و"أمريكا". ولكن المهم كأية أقلية تحاول النضال من أجل وجودها فإنها تعمل على الإحتفاظ بتقاليدها وطقوسها. ولذلك فإنها تمارس طقوسها في الأنهار الدولية الجارية.. وقد صورت جانبا من طقوسهم على نهر "الراين". وهل تعتقد أن إجراء الطقوس على نهر مثل نهر "الراين" يمكن أن يعوض جماليا ووثائقياً عن جمال منطقة "الأهوار" وبيوتها وتفاصيلها التاريخية الحميمة؟ - أكيد لا، لا يمكن تعويض "الأهوار" العراقية بنهر "الراين". ولقد صورت بعض طقوسهم ومنها عادات التعميد والزواج في منطقة "الأهوار" ومنطقة "ميسان" على تخوم "الأهوار" وهنا صورت التفاصيل حيث الأشخاص والماء الجاري وحتى أني صورت طقوسهم تحت الماء.. أحاول جهدي أن أوثق أولا هذه الطائفة التي تتناقص وتتضائل، ومطلوب من الأممالمتحدة العناية بهذه الطائفة والمحافظة عليها من الإنقراض والتلاشي، سيما وأن أبناءهم الذين يولدون في الغرب سوف لن يلتزموا كثيراً بالطقوس التقليدية لأنهم يعيشون واقعا جديدا سوف ينسجمون معه وينخرطون به. أنا هنا في هذا الفيلم "أبناء الماء" أعمل جهدي لتوثيق طقوسهم وواقعهم في فيلم يقدم المعلومة ويعرف بهم. لأن من يقرأ كتابهم المقدس صراحة سوف يعشقه كثيراً وأيضا تعاليم "يحيى زكريا" أو "يوحنا المعمدان" كما جاء في العهد القديم فإن أفكاره وتأملاته مثيرة وذات أبعاد فلسفية وإنسانية عميقة. متى يصبح الفيلم جاهزاً للمشاهدة والعروض؟ - في وقت ليس ببعيد، ربما خلال شهرين أو ثلاثة يكون الفيلم جاهزاً للمشاهدة. لقد صورت تقريبا كل مشاهد الفيلم سوى مشهد واحد، أنتظر حدوثه واقعيا لأصوره. لا أستطيع أن أتحدث عن هذا المشهد لأنه يفقد تأثره لو صرحت به. عندما أصور ذلك المشهد يكون الفيلم جاهزاً للمونتاج والمكساج وطباعة النسخ. من الذي دعمك مالياً لإنتاج مثل هكذا فيلم صعب ويحتاج إلى إنتاج وسفر وتصوير تحت الماء وفوق الماء والعمليات الفنية؟ هل ثمة مؤسسة أوربية داعمة؟ هل ثمة مؤسسة عربية داعمة؟ قناة تلفزيونية مثلا..؟ - كلا، لم أتلق أي دعم من أية مؤسسة وهو أمر مؤسف حقاً سيما لمثل هذا الموضوع. أنا مصر أن أواصل العمل بإمكانياتي المتواضعة. لو كان ثمة تمويل لذهبت بعيدا أكثر في التوغل في حياة هذه الطائفة الدينية التي تمثل بدايات الديانات التوحيدية ومع علاقتهم بالميثولوجيا واستلهامهم الكثير مما جاء فيها كعلاقة جدلية بين الميثولوجيا ورؤيتها للخليقة وبين الإيمان التوحيدي للدين وللديانة المندائية بالذات. - أظن كان من المهم جدا عمل مثل هذا الفيلم "أبناء الماء" لما يحمله من مضامين هامة في قراءة الوجود حيث على الناس معرفة هذه التفاصيل المثيرة. ما هو جديدك في السينما الروائية بعد نجاح فيلم "المغني" الذي فاز بأكثر من 14 جائزة كبرى من أهم المهرجانات العربية والأجنبية؟ - "كرامفون"! هل هذا هو إسم الفيلم؟ - نعم.. هذا هو إسم الفيلم.. "كرامفون". وما موضوعه؟ - الحديث عنه سابق لأوانه.. دعينا في "أبناء الماء".. ثم في لقاء آخر وبعد أن أكون قطعت شوطا في الإنتاج سوف نتحدث عن فيلم "كرامفون".