ترجمت (رسائل النور) لبديع الزمان سعيد النورسي، إلى أكثر من خمسين لغة عالمية، من الإنجليزية إلى الكورية، ومن الروسية إلى الصينية، ومن الألمانية إلى الإسبانية، ومن الفرنسية إلى الفارسية؛ إلى غير هذه اللغات. وطبعت من هذه الرسائل مئات الآلاف من النسخ، سواء في مجموعة كاملة تحت عنوان (كليات رسائل النور)، أو في مجموعة مختارة من الرسائل، أو في رسالة واحدة. ورسائل النور هي مجموعة من المقالات (بالمعنى التراثي القديم للمقالة، وليس بالمعنى الصحافي الحديث) تعالج موضوعات مختلفة من منظور إسلامي، فيها الشرح والتفسير، وفيها التحليل والمعالجة، وفيها اقتحام لمسائل عويصة تتصل بالعقيدة، وبالإيمان، وبالبعث، وبالحساب، وبالآخرة، وبالجنة والنار، كتبت بأسلوب في غاية الإشراق والشفافية والعذوبة والإبهار، يتراوح بين اليسر والبساطة، وبين العمق والتألق في سماء المعاني الدقيقة، مع جمال العرض، وحرارة التناول. وهي جميعها تعبق بأريج الإيمان والشوق إلى الله، وتتضوع بطيب الصدق والإخلاص، يقرأها المرء فإذا به يرتقي روحيًا إلى الأعالي ويسمو بقلبه ووجدانه إلى حيث الجمال والجلال والبهاء والنقاء. وتعالج رسائل النور قضايا دقيقة بأسلوب أقرب إلى فهم القارئ المتوسط، وتبحث المسائل المعقدة بروح شفافة، وبعقل مستنير، وبلغة صافية وضاءة. وقد أحسن الأستاذ إحسان قاسم الصالحي صنعًا بترجمته لكليات رسائل النور إلى اللغة الغربية. وصدرت الترجمة في تسعة مجلدات كبيرة مع المجلد العاشر الخاص بالفهارس التي أنجزها باحث عراقي متمكن. وكان سعيد النورسي يكتب باللغة التركية، ولكنه كتب بعض الرسائل باللغة العربية، بل كتب تفسيرًا لأجزاء من القرآن الكريم باللغة العربية، هو آية في الدقة والعمق والغوص إلى المعاني الدفينة في آي التنزيل. وتقوم مؤسسة استانبول للثقافة والعلوم بترجمة رسائل النور إلى اللغات العالمية، وتطبع منها نسخًا كثيرة في عديد من العواصم. أما الترجمة العربية فقد طبعت في القاهرة. وصدرت حتى الآن طبعتان من كليات رسائل النور باللغة العربية. زرت مؤسسة استانبول للثقافة والعلوم، والتقيت بالدكتور فارس قايا رئيس لجنتها التنفيذية، حيث رافقني في جولة عبر أقسام المؤسسة، ومنها القسم الخاص بتراث بديع الزمان النورسي، وقاعة المطالعة الملحقة به، والمكتبة التي تضم المؤلفات التي نشرت عن صاحب رسائل النور، والكتب التي تحتوي على البحوث والدراسات التي قدمت إلى المؤتمرات العالمية حول فكر النورسي التي تنظمها المؤسسة مرة كل ثلاث سنوات، إلى جانب الكتب التي تضم البحوث والدراسات التي ألقيت في الندوات التي تقيمها المؤسسة في مختلف أنحاء العالم حول دراسة قضايا فكرية تتصل بهذه الرسائل، ومنها ندوات كثيرة استضافتها بعض الجامعات المغربية خلال العقدين الأخيرين. لقد كتب سعيد النورسي رسائله في ظروف بالغة الشدة والقسوة، وتحت حصار كثيف ضربته السلطات حوله، في زمن مصطفى كمال أتاتورك الذي أشهر الحربَ ضد الإسلام، وعمل على تطبيق سياسة (تجفيف منابع الإيمان) في تركيا. فكان هذا الطاغية هو (الرائد) في هذا المجال قبل الرهط اللئيم الذي جاء بعده في عدد من البلدان العربية، ورفعوا شعارهم الأسود (تجفيف منابع الإيمان)، حتى جفف الله حياتهم. ولذلك كان الهمّ الأول الذي شغل النورسي هو حماية الإيمان في قلوب مواطنيه الأتراك، وتقوية ركائزه، وقطع دابر الكفر والفسوق والعصيان ضد شريعة الله، وإنقاذ الإنسان التركي المسلم من السقوط في مهاوي الضلال والتيه والضياع وفقدان الهوية الروحية والثقافية والحضارية. لقد نذر النورسي حياته كلها لأجل سعادة الإنسانية، فظل يقرأ مباشرة من كتاب الكائنات (القرآن الكريم)، لاستخراج العلاج الناجع لخلاص الإنسانية والانتقال بالناس من الإيمان التلقيني إلى الإيمان التحقيقي. في تلك الفترة الأولى من النضال الفكري الذي كان سعيد النورسي يخوضه بثبات ورباطة جأش، كان العالم العربي غارقًا في بحر من الأزمات المتراكمة؛ منها الأزمة الوطنية نتيجة للاستعمار والاحتلال وهيمنة الأجنبي، والأزمة الروحية التي أفرزتها رحلة البحث عن اليقين والثقة بالنفس وحماية الذات، والأزمة السياسية التي تمثلت في الخضوع للمخططات الاستعمارية التي فرضت على العرب والمسلمين، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء الأحوال وضعف ذات اليد والفقر والحاجة والأمراض والأمية. فهي موجات متلاطمة من الأزمات التي كان العرب والمسلمون عمومًا، في تلك الفترة، غارقينَ فيها إلى الأذقان، ذاهلينَ عن أنفسهم، تاركينَ الساحة للمنصرين (لا أقول المبشرين) من كل المذاهب المسيحية، وللملاحدة من أبناء جلدتهم الذين باعوا أنفسهم للغرب الصليبي المتآمر على الأمة العربية الإسلامية، وللخونة والمرتزقة والمنافقين الذين باعوا الوطن، وداسوا على مقدساته، ورضوا أن يعيشوا عبيدًا للاستعمار. وكانت الحرب الضروس المشهرة ضد الإسلام في تركيا، خلال الفترة التي تبدأ من أواخر العشرينيات إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، تجري في منأى عن العالم العربي الإسلامي، وتحت تعتيم كامل، وبمباركة من الغرب الذي رأى في السياسة الاستبدادية القمعية التي كان ينهجها مصطفى كمال أتاتورك، ما يحقق أهدافه، ويمهد له الطريق نحو فرض الهيمنة الكاملة على الشعوب العربية الإسلامية والإجهاز على روحها وإطفاء جذوة الإيمان فيها. في تلك الأجواء الملبدة بسحب الكفر، وفي تلك المرحلة الحرجة من تاريخ تركيا التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة وإعلان الارتماء في أحضان الغرب (بل بين أرجل الغرب)، كتب سعيد النورسي رسائله التي كان يتم تسريبها إلى مختلف المناطق في تركيا، بطرق في غاية التعقيد يسرها الله له، فانتشرت وتداولتها الأيدي في المدن والقرى، وأقبل على قراءتها والتمعن فيها والاهتداء بها الناس من مختلف طوائف الشعب، وكأنها كانت مشكاة أنارت العقول والقلوب. لقد كان الأثر الذي أحدثته رسائل النور في المجتمع التركي بعيد الغور قويَّ النفاذ واسع الانتشار. ويمكن القول إن هذا الأثر العميق في تحويل تيارات الإلحاد إلى تيار الإيمان والعودة إلى الجذور، لا تضاهيه الآثار التي أحدثتها الأفكار الدينية والإصلاحية في أي بلد عربي وإسلامي آخر في تلك المرحلة. ولذلك كانت السلطات تدرك جيّدًا مدى التأثير الذي كان للرجل الأعزل الضعيف البنية الذي ينأى بنفسه عن الاختلاط بالناس والمحاصر في المنافى أو المعتقل في السجون المتنقل من سجن إلى آخر. ولكن سعيد النورسي كان الله معه حيثما انتقل، وكانت رسائله نعمة من الله، بددت ظلمات الكفر، وحاربت الإلحاد حتى صرعته، وتصدّت للغزو الفكري والثقافي الذي يستهدف روح الشعب التركي وهويته وخصوصياته الثقافية والحضارية. ورسائل النور عبارة عن 130 رسالة مكتوبة باللغتين التركية والعربية كتبها بديع الزمان سعيد النورسي، ويضم المجلد الأول : (الكلمات) ثلاثًا وثلاثين رسالة، توجز الرسائل التسع الأولى منها معاني العبادة والعقيدة ونظر المؤمن إلى الدنيا، ووظيفة الإنسان في الوجود. ويضم المجلد الثاني : (المكتوبات) ثلاثًا وثلاثين رسالة تستهل بأجوبة عن اسئلة حول حياة الخضر عليه السلام، وحكمة الموت ومخلوقيته وموقع جهنم، ثم سرد لمشاهد من حياة المؤلف وتأملاته الإيمانية في الكون. ويشتمل المجلد الثالث : (اللمعات) على ثلاثين رسالة تستهل بالدروس المستخلصة لحياتنا اليومية من مناجاة سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام، ثم بيان أن السنة النبوية مرقاة ومنهاج، ورسالة في حكمة الاستعاذة من الشيطان. ويضم المجلد الرابع : (الشعاعات) خمس عشرة رسالة تتناول جمال الكون ومزايا الإنسان وكيف أن هذا الجمال لا يظهر إلا بالتوحيد، ورسالة المناجاة ضمن جولة في أرجاء الكون، ثم اللواذ إلى كنف الرحمن في مراتب : (حسبنا الله ونعم الوكيل). ويفرد المجلد الخامس لكتابه : (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) الذي ألفه بالعربية، وهو تفسير قيم لفاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة، يبين بعبارات موجزة الإعجازَ النظميَّ للقرآن الكريم، أي جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها. ويشتمل المجلد السادس : (المثنوي العربي النوري) على اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية، وهذه الرسائل بمجموعها ترشد إلى دروب النفس الأمارة بالسوء، وتكشف من دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، وتضع العلاج لأمراضها المتنوعة. والمجلد السابع : (الملاحق في فقه دعوة النور) هو عبارة عن مجموعة رسائل جرت بين النورسي وطلابه الأوائل، وطابعها العام توجيهي إرشادي يبين أهمية رسائل النور، ومنهجها في الدعوة إلى الله سبحانه في هذا العصر. وأما المجلد الثامن : (صيقل الإسلام) فيضم مجموعة من الرسائل في علم المنطق، بالإضافة لرسالتين باللغة التركية تسلطان الضوء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. والمجلد التاسع هو : (سيرة ذاتية) مستخلصة من جميع مؤلفاته ومرتبة حسب التسلسل التاريخي، كتبها الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وهي عمل توثيقي تاريخي بالغ الأهمية. والمجلد العاشر يتضمن فهارس متنوعة لرسائل النور. وقد استندت في تلخيص محتويات كليات رسائل النور، إلى دراسة قيمة لعليّ أسكيف اطلعت عليها على موقعه في الأنترنيت. ويغلب على الظن أنه كاتب تركي. ولكنني تساءلت مع نفسي أثناء زيارتي لمؤسسة استانبول للثقافة والعلوم المتخصصة في دراسة فكر النورسي ونشر رسائله، لماذا هذا الاهتمام العديم النظير بآثار بديع الزمان سعيد النورسي؟. ومن أين يأتي هذا الإقبال العزيز المثال على رسائل النور من مختلف الطبقات وفي شتى الأقطار؟. وهل قراءة رسائل النور والتأمل فيها والاقتداء بها والتجاوب معها والاعتماد عليها في الاهتداء إلى حقائق الإسلام، هل ذلك كله يغني عن الاطلاع على غيرها؟. فوجدتني أخلص إلى النتيجة التالية : إن هذه الرسائل النورانية المكتوبة بالإخلاص، والمضمخة بالصدق، والصادرة عن هذا القلب العاشق للذات الإلهية والمحترق في عشقه والمعذب بالتفكير في أحوال المسلمين بعامة وأوضاع الإسلام والمسلمين في تركيا بخاصة، هي سفينة النجاة التي تقود إلى بر الإيمان والأمان. ولذلك كان أثرها عظيمًا، ليس في تركيا فحسب، وإنما في جل الأقطار التي وصلت إليها رسائل بديع الزمن سعيد النورسي. ولست أبالغ إذا قلت إن هذا الرجل الذي لم يكن يقبل أن يناديه أحد بأي لقب، والمعروف عند تلامذته بلقب (الأستاذ)، هو حالة فريدة من نوعها بين الرجال المخلصين الذين نذروا أنفسهم لنشر الإسلام الحق بتقوية الإيمان، ومحاربة الإلحاد، والوقوف في وجه تيارات التغريب والحداثة التي تلغي الدين من حياة الفرد والمجتمع، وتقاطع قطيعة مطلقة المقدسات والثوابت والتراث وتمحو الهويات. ولذلك فإن العودة إلى رسائل النور والغوص في أعماقها، ينعش الروح ويشرح الصدر ويقوي في الإنسان إرادة الخير والاعتزاز بالإسلام عقيدة ً وهوية ً ومنهجًا في الحياة. فهذه الرسائل تقود إلى رحاب القرآن الكريم ليعيش الإنسان المؤمن في ظلاله. في الخطاب الذي بعث به السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي إلى المؤتمر العالمي العاشر لمؤسسة استانبول للثقافة والعلوم، الذي عقد في سنة 2010، قال : ((إن بديع الزمان سعيد النورسي ليس مرشدًا دينيًا قويًا وصامدًا أو عالم دين فحسب، بل تجاوز كل ذلك ليلج القلوب ويفتحها من بابها الواسع كزعيم رائد. لقد عاش في هذا الوطن في أصعب وأقسى سنواته، وكرس حياته للدفاع عن القرآن الكريم، وأمضى حياته كاتبًا مؤلفاته على ضوء القرآن الكريم ومدافعًا عن الحقائق الإيمانية معطيًا بذلك الدرسَ الإيماني الذي يقوي معنويات أبناء هذا الوطن)). وفي الرسالة التي وجهها الأستاذ محمد فتح الله كولن إلى هذا المؤتمر، قال : ((إن كل ما يصبو إليه مثل هذا الرجل الرباني هو نقل كل روح إلى حياة أبدية، وإسداء إكسير الخلود إلى كل أحد، فهو في أغلب الأحيان يخطط لسعادة الآخرين، ولا سيما أمته، إذ يتلوى مما تعانيه من بؤس وشقاء، فهو دومًا يؤثر الآخر على نفسه، عفيف منكر لذاته، ذو وجدان ينبض بروح النبوة)). هذه الروح الشفافة وجدتها تغمر مؤسسة استانبول للثقافة والعلوم عند زيارتي القصيرة لها ذات يوم ممطر، ووجدت كل ما شاهدته ينطق بالشعار الذي رفع في المؤتمر العالمي التاسع للمؤسسة (العلم والإيمان والأخلاق لأجل مستقبل أفضل للإنسانية). وهو الشعار الذي يلخص الأفكار الإيمانية الرائدة البناءة التي طرحها النورسي في مؤلفاته، وعاش حياته مبشرًا بها وداعيًا قومه، بل المسلمين كافة والإنسانية جمعاء، إلى تبنيها والعمل بها. إنَّ هذا الرجل الرباني القدوة يخاطبنا اليوم في هذه المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم العربي الإسلامي، بالحكمة البالغة ومن خلال رسائله، حيث يقول : (كلما شاب الزمان شبَّ القرآن وتوضحت رموزه).