بداية من عمود اليوم سوف نتتبع كيف عالجت عدد من دول العالم الإشكالية المرتبط بوضعية اللغة ، سواء تلك التي شرعت دستوريا للتعدد أو تلك التي حافظت على لغة رسمية ولغات رسمية في مناطق الحكم الذاتي، أو بإختصار تكريس لغة واحدة رسمية بشكل متطرف يقضي على التنوع الثقافي واللغوي الواضح في تلك الدول وهنا يبرز النموذج التركي في معالجته لقضية اللغة الكردية، حيث لم ينعكس التطور الديمقراطي الذي عرفته تركيا ، على نظرتها الشوفينية والعنصرية لمسألة الهوية وهو ما سوف نقف عليه في نصوص الدستور التركي مع آخر التعديلات التي عرفها والتي جرت سنة 2010 حيث نص في المادة 42 على أنه لا لغة عدا التركية يجب أن تدَّرس كلغة أم للشعب التركي، وفي المادة 66 نص على أن كل من يرتبط بدولة تركيا من خلال رابطة المواطنة فهو تركي..وكما سيلاحظ القارئ أن هذه المادة ومشتقاتها كانت هي السلاح الذي يقضي على واقع التعدد في تركيا، وهو ما إستمر في كل الدساتير التركية كما سنتابع. يشير جبار قادر في مقال مهم حول وضعية الأكراد في الوثيقة الدستورية التركية إلى أنه " رغم إشارة الدستور الأول للجمهورية التركية ( 1876 ) إلى حماية الحقوق الأساسية للمواطن كالحرية الشخصية و حرية التعبير والتجمع وغير ذلك من الحقوق، إلا أنه أهمل كليا حقوق المواطنين الكرد خاصة وانه سن بعد توقيع معاهدة لوزان، إذ توضحت معالم السياسة الشوفينية الكمالية إزاء الكرد. وجاءت مواد الدستور مناقضة تماما للبندين (38) و (39) من معاهدة لوزان. فقد نصت المادة (38) من المعاهدة على أن(الحكومة التركية تتعهد بتوفير الحماية الكاملة للسكان وحرياتهم بغض النظر عن الأصل والقومية واللغة والعرق والدين)،فيما أكدت المادة (39) على تعهد الحكومة التركية بعدم ( إصدار أية قوانين من شأنها التضييق على الاستخدام الحر من قبل مواطني تركيا لأية لغة سواء في شؤونهم الخاصة أو علاقاتهم التجارية، وفي حقل الدين أو الصحافة والمطبوعات، او أثناء الاجتماعات الشعبية)(7). في حين نرى بأن المادة الثانية من أول دستور في تاريخ الجمهورية التركية (1924) تعلن (اللغة التركية اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد). و أصبحت بذلك مناقضة تماما للبند (39) من المعاهدة المشار إليها أعلاه. ولكن المناقشات التي دارت حول مفهوم الأقلية أثناء مؤتمر لوزان توضح هذه المسألة، فيشير جبار قادر في مقاله الهام على أن هذا المفهوم أصبح محصورا في نهاية الأمر على الأقليات الدينية اليهودية و المسيحية حصرا، ولم تقر الحكومة التركية اعتبار الكرد أقلية قومية كونهم (أخوة) مسلمين أولا و (شركاء) للترك في الجمهورية الوليدة حسب مزاعمهم و تصريحاتهم خلال فترة المؤتمر حسب ما يؤكد قادر. وفي الوقت الذي سمح للأقليات اليهودية و المسيحية بفتح مدارس خاصة بهم، منع الكرد حتى من التحدث بلغتهم الأم . ويبرهن جبار قادر على ذلك بالمادة (88) من الدستور التي ناقضت كل التعهدات التي قدمها زعماء تركيا الجدد للكرد قبيل و أثناء مؤتمر لوزان . فالمعروف أحسب قادر جبار أن عصمت باشا أخذ معه عددا من النواب الكرد من أعضاء المجلس الوطني الكبير أمثال فوزي برينجي زادة و زولفي زادة ليؤكدا للمؤتمر أن (الكرد لا يرغبون في الانفصال عن أشقائهم الترك). أما عصمت باشا فقد أكد للمؤتمرين أن (تركيا ملك للأتراك والأكراد الذين يتساوون أمام القانون و يتمتعون بنفس الحقوق). ولكن المادة (88) جاءت لتميط اللثام عن التناقض بين القول والفعل حيث نصت على أن (جميع سكان تركيا بغض النظر عن الانتماء الديني و العرقي يعتبرون أتراكا)، والتركي حسب هذه المادة هو (كل من ولد في تركيا أو خارجها من أب تركي، وكذلك الأشخاص الذين ولدوا في تركيا من مهاجرين أجانب وأعلنوا عند بلوغهم سن الرشد عن رغبتهم في الحصول على المواطنة التركية ، فضلا عن الأشخاص الذين حصلوا على الجنسية التركية). وهكذا جرى إلغاء الكرد دستوريا .وجاءت المواد الأخرى كلها لتخص الأتراك وحدهم. فالمادة العاشرة أعطت (الحق لجميع الأتراك،رجالا ونساء من الذين بلغوا 22 عاما من العمر في أن ينتخبوا النواب إلى المجلس)، بينما منحت المادة (11) (جميع الأتراك من الذين بلغوا 30 عاما من العمر الحق في أن ينتخبوا إلى المجلس)، في حين أشارت المادة 68 إلى أن (كل تركي يولد و يعيش حرا ...) وضمنت المادة (69) (مساواة الأتراك جميعهم أمام القانون ...). وأكدت المادة (70) أن (حماية الحرية الشخصية وحرية الكلام والصحافة والتنقل والمعاملات التجارية والعمل والملكية والتجمع وإقامة الاتحادات والشركات وحماية الكرامة، حقوقا كاملة للأتراك لا يجوز المساس بها). أما المادة (92) فأعطت الحق (لكل تركي تسلم المناصب الحكومية وفق مؤهلاته وخدماته) (8). وهكذا فان كل من ينظر الى الدستور التركي يقتنع بان سكان تركيا هم من الأتراك فقط، بينما أهمل الدستور حقوق الكرد والغى وجودهم دستوريا و اعتبر كل دعوى لهم بالخصوصية القومية وإقامة الكيان القومي عملا مرفوضا و يجب قمعه بشدة. و هلل الطورانيون للدستور الجديد، فقد اعتبره الطوراني اليهودي الأصل تكين ألب (موئيز كوهين) خطوة كبيرة على طريق (تهيئة الأرضية المناسبة لاندماج الأقليات القومية الكامل في التوركيزم). ويؤكد جبار قادر على أن الدستور الجديد الذي سن عام 1961 بعد انقلاب عسكري ليكرس السياسات السابقة رغم بعض التغييرات الطفيفة. فقد أشار الدستور في مادته (12)، مثلا، الى أن الجميع (متساوون أمام القانون بغض النظر عن اختلاف اللغة أو العرق أو الجنس أو المعتقدات الدينية أو السياسية أو الفلسفية)، غير أن المادة (54) ألغت أي اعتراف بالوجود القومي لغير الأتراك، عندما اعتبرت (كل من ارتبط بالدولة التركية برباط المواطنة تركيا). كما أن هناك العديد من مواد الدستور الجديد صيغت أساسا ضد الكرد و تطلعاتهم القومية المشروعة. فقد أكدت المادة الثالثة، على سبيل المثال لا الحصر، على أن (الدولة التركية غير قابلة للتجزئة أرضا و شعبا). [email protected]