كتاب د. عباس أرحيلة «مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع» الذي صدرت طبعته الأولى في مراكش سنة 2003 محاولة جادّة لرصد منحنيات مسار الإبداع في الثقافة العربية الإسلامية، من البدايات إلى مرحلة الركود حيث ضعفت قريحة الاجتهاد، وذوت زهرة الاختراع، وهذا الكتاب سياحة ممتعة في أروقة المكتبة العربية الإسلامية الزّاخرة بكنوز المعارف، وذخائر الطّرائف، بمنهج توخّى صاحبُه التركيز والتكثيف، واستخلاص زبدة كل قرنٍ من قرون التأليف، والتمثيل بالنماذج مع التّوصيف، بغاية الوقوف على تطوّر هاجس الإبداع في الثقافة الإسلامية الواسعة الغنية، واستجلاء معانيه ومبانيه بطريقة شائقة علمية، تكشف مميّزات كل مرحلة، وترغّب المُطالع في اقتناء جواهر هذه المكتبة، بقدر ما تبين عن اهتمامات طبقات المجتمع وتطلعاتها من الطبقة الحاكمة إلى عموم الشعب حيث ازدهرت الثقافة العالمة والثقافة الشعبية معاً. ولئن كان المؤلف قد اهتمّ ببيان مقاصد التأليف عند كثير من المصنّفين ، فإنه لم يعتنِ الاعتناء الواجب بالأسباب المباشرة لتلك التآليف، والتي هي مناسبات خاصة أو عامة كانت السبب المباشر في إقدام المؤلف على التأليف، وهي لا تخلو أحيانا من غرابة، ولذلك يبقى موضوع أسباب التأليف أو دواعيه في الثقافة الإسلامية في حاجة الى دراسات وافية. وقد أشار إليه د. عباس أرحيلة مجرد إشارة ، تستدعي الدّرس المفصَّل. لأنه موضوع جدير بالبحث. وهذه الدواعي أو الأسباب مذكورة غالباً في ثنايا مقدمات الكتب، وتتصل بحياة المؤلفين الخاصّة كما تتعلق بالظروف العامة وفي مقدّمتها الوضع العلمي. ******************* المقدمات مداخل الى المنهجية العلمية موضوع هذا البحث دراسة ل «مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي»، من بداية التأليف في تاريخ الإسلام إلى بداية النهضة العربية الحديثة، ومحاولة تحديد مفهومها وإبراز مكوّناتها، مع التركيز على جزئية واحدة من هذه المكوّنات؛ وهي التي تتعلق بحديث المؤلف عن موضوعه؛ أهو جديد لم يُسبق إليه، أم هو مما تعارف النّاس عليه؟ وهو ما يراه د. عباس أرحيلة جوهريا في كل مقدّمة علمية؛ سواء كان ذلك في القديم أو في الحديث. ومنطلقه، في كل ما ذهب إليه، هو ما حملته مقدمات التأليف من حقائق، وما حفِلت به من موضوعات؛ وذلك من خلال قراءته لكثير من مقدمات تراثنا؛ تاركاً المؤلفين يعربُون عن مقاصدهم، ويوزعون خطاباتهم بين ذواتهم وموضوعاتهم ومخاطَبيهم، ويكشفون عن تصوراتهم ومناهجهم ومشاعرهم وهواجسهم. غاية هذا البحث الكشف عما يتميز به خطاب المقدمات في كتب التراث الإسلامي العربي، وما يطرحه ذلك الخطاب من قضايا، وما تُعرب عنه تلك المقدمات من تصورات منهجية تخصّ التأليف في حضارة الإسلام، وتبيّن منحنيات الإبداع فيه. وهو بحث يفتح نافذة على منهجية البحث العلمي في تراثنا الإسلامي العربي، ويفتح أنظارنا، من خلال مقدمة الكتاب في حضارة الإسلام، على طرائق البحث عند المؤلفين عامة، وعلى رؤيتهم المنهجية من خلال ما طرحوه من مشكلات، وما أثاروه من قضايا. وقد حدّد المؤلف أهدافاً لدراسته تتمثل في تأكيد وجود تصوّر واضح للتأليف في مقدّمات الكتب في حضارة الإسلام، وأنّ ذلك التصوّر أصبح واضحا من القرن الثالث للهجرة ومعالجة بعض مشكلات البحث العلمي في التراث الإسلامي، من خلال أشكال الخطاب في مقدمة التأليف؛ وذلك بالوقوف عند دعاوى المؤلفين في تراث الإسلام حين يقولون إنهم أتوا بما لم يُسبقوا إليه، وإنهم اجتهدوا وتجاوزوا السابقين، فتحقق في آثارهم الإبداع. إن هذه الدعاوى في نظر المؤلف هي الهواجس التي ينبغي أن ترافق الأبحاث العلمية التي يُعتدّ بها في تاريخ تطوّر المعرفة. والقول بالسبق في مجالات المعرفة مما يعين على تحديد نوع الإضافات وحجمها في معترك تراكم المعارف البشرية؛ ومن ثم يُساعد على رسم منحنيات التطوّر في مجالات البحث العلمي في حضارة الإسلام. كما أن أمل د. أرحيلة كان هو أن تكشف قراءة هذا البحث أنّ مقدمات الدّراسات في العصور الحديثة لا تضيف جديداً إلى أهم مكوّنات المقدّمة في كتب التّراث، إلاّ ما ابتعد فيه بعض المؤلفين المحدثين عن ديباجة الكتاب في ذلك التراث؛ كما هو ملاحظ في ديباجة الكتب عند كثير من المعاصرين، إن لم نقل عند أغلبهم. ويرى المؤلف أنّ وجهته في هذا البحث مغايرة لاهتمامات سابقيه حوله، فهو يقرأ مع متلقّيه مقدمة الكتاب في تراث الإسلام، مع التركيز على إحساس المؤلف بنوع التأليف الذي أتى به، من حيث جدّته وما حقّق فيه من سبق في مجاله المعرفي الخاص. وقد قسم المؤلف هذا البحث إلى ثلاثة فصول: تناول في الأوّل منها: المقدّمة في حركة التأليف في الإسلام أوضح فيه أهمية التأليف عامّة وفي حضارة الإسلام خاصة. ونبّه فيه إلى أنّ استفتاح الكتب توجيه إسلامي، وإلى العناية بالاستهلالات والمطالع والمقدمات في تراث الإسلام عامة، مع التركيز على مطالع القصيدة العربية خاصة، وعالج فيه مفهوم المقدمة لغة واصطلاحاً مع ما ينوب عنها من مصطلحات، وبيّن أهمية المقدمة ووظيفتها. وقارن بين مقدمة الكتاب ومقدمة العلم. وفحص في الفصل الثاني مكوّنات مقدّمة الكتاب، ونظر في ثوابتها ومتغيّراتها، وقسمها إلى سبعة أنواع من الخطاب: 1) خطاب تطبعه ديباجة الكتاب الإسلامي، 2) خطاب موضوعي عناصره ثابتة في أغلب الأحيان 3) خطاب موضوعي عناصره متغيّرة، 4) خطاب يختلط فيه الموضوعي بالذاتي، 5) خطاب ذاتي تكشف فيه الذات عن هواجسها وتطلعاتها، 6) خطاب يسعى أن يُشرك القارئ في المسؤولية المعرفية ، 7) خطاب عام تندرج فيه كثير من الحقائق والإفادات. أما الفصل الثالث فقد خصّصه لأنواع التأليف ومقاصده من القرن الثاني للهجرة إلى بداية النهضة العربية الحديثة، مع التركيز على هاجس الإبداع، والوقوف عند أولئك الذين حددوا أنواع التأليف ومقاصده، وعند مقدّمة ابن خلدون خاصة. وعرض المؤلف لنماذج من المقدمات خلال العهود المتعاقبة، كما فعل أثناء النظر في مكوّنات المقدمة. لقد حاول د. عباس أرحيلة أن يخوض في معترك تاريخ العلوم ليتتبع ما حصل من تطورات في مجالات المعرفة، من خلال إعراب المؤلفين عن جهودهم وما أضافوه إلى حصيلة المعرفة السابقة عليهم . حاول أن يرسم خطوطا لهذه المسألة، وأن يقدم لمحة عن الجانب المنهجي من تاريخنا العقلي، من خلال ما أمكنه الوقوف عليه من مقدمات. وبالفعل يتبيّن، من خلال هذا البحث ، أنَّ القدماء أدركوا أهمية مقدمة الكتاب، وتنبهوا إلى ضرورة وجودها، واعتبروها لحظة إبداع تبوح فيها الذات بمعاناتها، وتكشف عن تصوراتها للموضوع، ومدى إحاطتها به ، وتحققت المقدمة في التأليف العربي بالصّورة العلمية التي هي عليها الآن في مجالات البحث العلمي عامة، منذ القرن الهجري الثالث. ولما كان الإحساس بالسبق هو هاجس المؤلف في مقدمة كتابه، كان رصد هذا الإحساس مما يكشف عن مظاهر التجديد في تاريخ التأليف العربي، ومما يساعد على معرفة التحوّلات الفكرية والتصوّرات الحاصلة في مجالات الإبداع. ففي المقدمات تلتمس لحظات العطاء والتقدم، وفترات التراجع والشرح والجمع والاجترار. وبالرغم مما يمكن أن يُقال عن حضور الإبداع في تأليف التراث العربي، فإن المؤلف وجد هاجس الإبداع ظل يرافق المبدعين عامة، وحتى عند من أراد أن يقدم شرحاً بعد عشرات الشروح، وحتى عند من أراد أن يضع حاشية على حاشية أخرى، فغاية العلم ظلت طيلة تاريخ الإسلام هي الرغبة في الابتكار. فالمقدمات في كتب تراثنا العربي ترسم منحنيات الإبداع في ذلمك التراث، إذ يبوح فيها المؤلفون - عادة - بالإضافات التي أحسوا أنهم أسهموا بها في إثراء التجربة الإنسانية العربية. وكان لهاجس الإبداع تجليات في مقدمة التأليف في التراث الإسلامي، منها: 1 - لحظة الديباجة في تمجيد صاحب الفضل، واهب موهبة التأليف، الكريم الوهّاب سبحانه وتعالى. 2 - الحديث عن أهمية الموضوع، وقيمته في الفكر الإنساني، وعن مكانة ذلك العلم بين العلوم. 3 - نقد الأعمال السابقة في الموضوع: استيعاب لما سبق وتطلع إلى الجديد. 4 - الإحساس بضرورة التجاوز والسبق، وتحقيق الإبداع. 5 - حتى التواضع نفسه، والإحساس بالقصور، والدعوة إلى تجاوز الأخطاء، كلها أشياء يتخللها الإحساس بالعطاء والإبداع. 6 - الدعاء لحظة نشوة بالعطاء، لحظة ابتهال إلى الله تعالى على ما أعطى، ووفق وسدد . خلاصات عامة: ومن الخلاصات العامة لهذا البحث أن دراسة مقدمة الكتاب تكشف عن حضور مسألة المنهج، منذ المراحل الأولى للتأليف في الثقافة الإسلامية. ولا أهمية للقول بأن ذلك تم بتأثير من الحضارة الغربية الحديثة. فالمصطلحات المستعملة في مقدمات الكتب تدل على رسوخ مناهج التأليف في تراث الإسلام. وأهم سمات المنهج العلمي الذي تُعرب عنه مقدمات الكتب في التراث العربي: أولا: المؤلف في حضارة الإسلام يريد بعمله وجه الله تعالى، ويتطلع إلى أن يقدم ما تدعو الحاجة إليه، وإلى ما ينفع الناس، أي أنه ينشد وجه الحق، فهو يُقبل على بحثه بحياد ونزاهة، وصدق وإخلاص. ثانيا - ينطلق من تجربته الحياتية والعلمية، ويقيم القضية التي يعالجها على أساس من ملاحظة ما تم إنجازه في مجالها من أعمال سابقة. وهنا يقوم بعملية استقراء في ضوء تلك الأعمال، فيضيف ويوازن ويقارن ويحلل. ثالثا: يضع تصميماً لبحثه يستجيب لمنهجيته بتحقيق نتيجة راهنَ المؤلف عليها في مقدمة بحثه: حينما حدد موضوعه وكشف عن أهميته وعن الغاية التي تقصدها منه، وفي كل هذا يختبر ادعاؤه أَأَتى بما لم يُسبق إليه، أم أَتى بمعادٍ مكرور؟ إذا كان تاريخ الإبداع يلتمس في حصيلة الجهود الفكرية التي أنجزت في تاريخ الإسلام، فإن من المؤشرات على ذلك ما يُلتمس أيضا في مقدمات التأليف، كما قال الباحث. ولاشك أن تتبع مقاصد التأليف يضع أمامنا الخط البياني للإبداع في الفكر العربي. وهو خط لم يكن بالصورة المتصاعدة والمرجوة في ذلك التاريخ. ويتساءل المؤلف عن حصيلة الإبداع في مسيرة حضارتنا العربية المعاصرة. ما هي الكتب التي تُعد محطات في هذه المسيرة؟ هل أسهمت آثارنا في نهضتنا العربية الحديثة في صياغة مجتمعاتنا المعاصرة؟ أم أننا ما نزال نشكل كما يُراد بنا، ونسترشد بما يفد علينا من أفكار، ونتباهى بما نقلد دون تبصر أو نظر؟ هل كتب علينا أن نكون في خانة المقلدين الذين لا يملون الاجترار؟ فما دورنا في معركة الوجود حتى عندما نتخلى عن كل شيء، و«نتشيأ» و«نتطبع» و«نتعولم»، ونذوب فنتلاشى؟ يؤكد المؤلف أن المنتسبين للدين الإسلامي قد دخلوا في دورة حضارية آلت بهم إلى الجمود والتراجع منذ القرن السابع للهجرة، ومع مضي الأيام أضحوا مستعمرات، وأثناء تطلعاتهم جرفتهم الحداثات، ومع الأيام ازدادوا تبعية لمرادات الغرب، فكيف يستقيم لهم وجود في الخنوع والتذلل والاستسلام لغيرهم؟! ومع كل ما لحق بديار الإسلام من ويلات وحروب على امتداد التاريخ القديم والحديث والمعاصر، وما عاناه الإسلام من عداء منذ انطلاقته إلى الحروب الصليبية فالحروب الاستعمارية بألوانها إلى يوم الناس هذا، وما أضحى يعاني من ذويه بشكل خاص في العهود الأخيرة، مع كل هذا وذاك، يمكن أن نقول مع المؤلف إن الثقافة الإسلامية العربية استعادت شيئا من حيويتها في القرن العشرين، وإن عرفت تلك الحيوية بعض التراجع في نهاية ذلك القرن، فمازلنا نتخبط في مخلفات الماضي، ونرتطم بمشاكل الحاضر، ونواجه بتحديات المستقبل. والسر في ارتهاننا لغيرنا، أننا أسلمنا لهم قيادة أنفسنا، فانهارت عزة الإسلام فينا، ويوم افتقدنا العزة، صار التقليد من شيمنا. وبظهور ما استحدث من الإغراءات استعبدتنا أهواؤنا وقادتنا غرائزنا إلى حيث افتقدنا ملامح الكرامة فينا. ومرت قرون ونحن ننتظر عودة الاجتهاد إلى ربوعنا، عودة الإبداع، «الحق» إلى مواهبنا، فمتى تعود العزة إلى ديارنا؟ بهذه الأسئلة المتحرقة الجريحة يختتم المؤلف سياحته بين رفوف المكتبة الاسلامية العربية، ويفتح، في نفس الوقت، الطريق لإعادة قراءة تراثنا بعيون إبداعية، تمسك بخيوط الإبداع حيث توقفت، وتَصلها بنسيج البحث العلمي اليوم. ابن خلدون نموذجا: اقتضت ضرورة البحث العلمي من العلامة عبد الرحمان بن خلدون رحمه الله نقد الأعمال السابقة في مجال الكتابات التاريخية، ووضعها في إطارها العلمي الصحيح، لتقديم البديل الذي يقوم على النظر والتعليل والتحقيق، والعلم بالكيفيات والأسباب التي يتحقق بها العمران البشري. وهنا قدّم ابن خلدون لمحة عن تطور الكتابة التاريخية في التراث العربي، وعن جهود المؤرخين السابقين. ولاحظ أن «فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها». ووجد أن المتطفلين على مجال التاريخ قد خلطوا حقائق التاريخ بدسائس وروايات ملفقة موضوعة، واقتفى آثار هذه الروايات من جاء بعدهم من المؤرخين دون تحليل ومناقشة؛ بحيث إنهم تناقلوها وأدّوها كما سمعوها. ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا تُرّهات الأحاديث ولا دفعوها [283/1]. وهكذا وجد التوثيق العلمي قليلا في الدراسات السابقة، مما شاع معه الغلط والوهم، ووجد التقليد عريقا والتطفل عريضا طويلا، وسيادة الجهل قد أعمت البصائر، وجعلت المؤرخين ينقلون ويتناقلون دون إعمال الحاسة النقدية. كما لاحظ أن هناك فئة قليلة من المؤرخين هي التي حظيت بالأمانة. ومع هذا لم تخل آثار هؤلاء من العيوب والمطاعن. وهكذا انصرف ابن خلدون إلى نقد أعمال السابقين، منبّها إلى ما جاء فيها من نقص أو خلل أو ضعف في المنهج، على طول المراحل السابقة. تلك كانت وضعية الكتابة التاريخية قبل ابن خلدون، يسودها التقليد والتعميم، وتقف بين الإسهاب الممل والاختصار المخل، تقدم الحقائق التاريخية «صوراً قد تجردت عن مواردها»، على حد تعبيره، أي تجردت من سياقاتها التاريخية وشروطها الموضوعية، ولأن أولئك المؤرخين أغفلوا أن «للعمران طبائع في أحواله ترجع إليه الأخبار، وتحمل عليه الروايات والآثار». فماذا فعل ابن خلدون أمام هذا الوضع؟ وماذا كان عليه أن يفعل ليغير مناهج المؤرخين السابقين؟ لقد أراد أن يضع للعمران البشري عللا وأسبابا، كما قال د. عباس أرحيلة، وبناه على أخبار العرب والبربر ليرفع به عن أحوال معاصريه حجابا. يقول ابن خلدون إن صاحب فن التاريخ بحاجة «إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنِّحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان، وإلا زيّفه واستغنى عنه» [320/1]. هنا وضع ابن خلدون خلاصة التصور النظري لمشروعه لكتابة ما سماه «فن التاريخ»، فقد وضع المنهج، وأصّل الأصول المستوعبة لحقائق العمران البشري، فكل حادث عارض يُعرض على تلك الأصول. يُحلل عباس أرحيلة ويصف مكونات التقديم الذي قدّم به ابن خلدون مشروعه حول العمران البشري وفن التاريخ، ويفعل نفس الشيء - إلى حد ما - مع مقدمات أمهات كتب التراث الإسلامي العربي، لينقل إلينا صورة صادقة عن تبلور هاجس الإبداع فيها، وكيفيات الإعراب عنه، وما صاحبه من تقييم وتقويم ونقد وقصد وسؤال واعتبار.