تعود تجربة الشاعر عبد الكريم الطبال إلى سنوات خلت من الحفر والتنقيب في أسرار القصيدة، ومن البحث الدائم في ما يجعل منها لحظة إبداعية تنضح بالسحر والجمال. فمنذ ديوانه البكر «الطريق إلى الإنسان» مرورا بدواوينه من قبيل: «البستان»، آخر المساء»، «ألواح مائية»، «موال أندلسي» «مرآة تبكي» ووصولا إلى جديده الشعري تحت عنوان: «أيها البراق»، ظل الشاعر وفيا لمساره الإبداعي، يداعب الحروف والكلمات ويرسم منها صورا ومعان خالدات. فماذا عن هذا الديوان؟ وما هي موضوعاته؟ وكيف رسم الشاعر، من خلاله، رؤاه الفكرية وأفضيته التخيلية؟.. يتألف الديوان من ست عشرة قصيدة، تباينت عناوينها بتباين الحجم والموضوع، من جهة، وتفاوت إيقاعها بتفاوت الدفقة الشعورية، من جهة ثانية. وقد جاءت هذه العناوين بالترتيب الآتي: (نوافذ، يا أيها الراعي، أيها الهواء، ملائكة، عواء، أحد يضحك، أمام البحر، البيت المسحور، خوف، صلاة إليك، أيها البراق، عزلة، قال طائر الليل، دمعة النهر، قال الأعمى، ذلك المكان). وهي عناوين متنوعة تعطي صورة أولية عن مجمل القضايا والموضوعات، التي ارتآها الشاعر وارتضاها فضاء متخيلا، يروم بصورة أو بأخرى، إلى محاورة الذات والعالم. ومن ثمة، إمكانية قراءة النصوص وتأويلها بحسب ما يقتضيه السياق الكلامي. «أيها البراق» عنوان اختاره الشاعر ليكون الناطق الرسمي باسم الديوان وأيضا ليختزل مضمون باقي النصوص داخله. إنه العتبة الأولى ونص مصغر للنص الأكبر، بالتأكيد، على رأي جيرار جنيت. ولأنه عنوان متضمن داخل العمل، يدعونا للتساؤل عن مسوغات هذا الاختيار؟ لعل الدخول في عوالم النصوص يقربنا من بعضها. يتركب العنوان من جمله تتضمن أسلوب نداء حذفت أداته (يا)، التي تحيل إلى بعد المسافة بين المنادي والمنادى عليه. وهو نداء خرج عن معناه الحقيقي، بما هو طلب الإقبال والإتيان أو التنبيه إلى معنى آخر يفهم من سياق الكلام، وهو هنا الطلب والإغراء حيث يلفت المتكلم (الشاعر) انتباه المنادى (البراق) إلى حاله وقصده. يقول: (ص74) يا أيها الحلم العميق أيها البراق اعرج بنا منك إليك. فالحالة ظاهرة والمقصد بين، وما على البراق/ الحلم سوى الاستجابة الرمزية لتحقيق مبتغى الشاعر وهو السفر الافتراضي تلمسا للحقيقة وكشف الأسرار. لقد تنوعت نصوص عبد الكريم الطبال، في هذه المجموعة، بين ما هو فردي خاص وما هو جماعي عام. تراه يتعقب الأنا الشاعرة في تحولاتها الكثيرة، بين السخط والرضا وبين الاستكانة والمواجهة. كما يتتبع مسار الآخر في علاقاته بالأنا تارة، وبالعالم والأشياء من حوله، تارة أخرى. وتبعا لذلك لم يكن غريبا أن يتوسل الشاعر بضمير المتكلم (أنا) منفصلا كان أم متصلا، للتعبير عن أوجاعه وآلامه وآماله وأحلامه. يقول الشاعر على لسان طائر الليل: (ص89) أنا هكذا سفر إلى الأكوان من بيتي إلى بيتي فلا تضفر ولا توقظ يا حاطب الليل. ويقول في سياق آخر، يعبق بريح الغربة والحاجة إلى الآخر، من خلال مناجاة عميقة للبحر: (62) سيدي البحر هات يديك وحدنا غرباء في الطريق الطويل نكلم أعضاءنا وحدها. وإذا كانت القصيدة تولد من رحم الغربة والمعاناة، ومن كل اضطراب تحسه الذات، خفيا كان أم جليا؛ فإنها لا تتوانى، ك»أنا شاعرة»، في ركوب صهوة الحرف حتى تدرك مبتغاها المرئي واللامرئي أيضا؛ بل وتصور علاقتها بالواقع واليومي والهامسي، تناضل ضد الصمت والإهمال والنسيان، وتشرع بالتالي نوافذ للإغاثة حيث السكينة والأمان. ففي أول نص بعنوان «نوافذ» نلحظ نفسا حماسيا واضحا ونبرة جلية فيها كثير من القوة والعزم، وذلك من خلال تكرار لفعلين على التوالي هما: (سأطل/ سأظل) حتى نهاية القصيدة. يقول عبد الكريم الطبال: (ص5-6) سأطل وإن كان هذا المساء طويلا وتلك المصابيح مطفأة والضباب كثيف ولا شجر ظاهر أو خفي ولا عابر في الطريق سأظل لأن المرايا عصاي وزوادتي في الطريق. ولأن الشاعر مهووس بالأسئلة العميقة، تطفح النصوص بأدوات الاستفهام المختلفة (من، متى، كيف، ماذا..) وبدلالاتها المتنوعة، في سعي حثيث من الشاعر لإيجاد أجوبة شافية وكافية تحد من توتر الذات وقلقها الوجودي. ولعل نصا مسعفا مثل «أحد يضحك» يوضح بجلاء ما تحمله تلك الصور والمعاني البعيدة من عمق الرؤية والرؤيا. يقول الشاعر: (ص41-42) غذروف يتأوه والطفل يفكر كيف سيبكي؟ صفصاف يتقصف والعصفور يفكر كيف سيرحل؟ لكن من يضحك أهي الريح المهووسة برفات الموتى أم هو الماء القابع تحت الأحجار؟ «أيها البراق» سفر شعري نحو الآتي والمستقبل، ورغبة جامحة لمعانقة المجهول والإبحار في ملكوت الروح، وما من زاد لدى الشاعر غير اللغة والخيال والرسم بالصور. لذلك ترى الشاعر يحتفل باللغة أيما احتفال، ينتقي ألفاظه وعباراته ويشذب جمله وتعابيره. لغة راقية صافية، تمتح من معين التراث حينا ومن سلطة الواقع حينا ومن الذاكرة والمخيلة، أحيانا أخر. أوليست اللغة روح القصيدة، كما يقال؟ ولأن اللغة لا تستقيم إلا بوجود المعنى، والمعنى لا يثبت إلا بما يحمله من موضوعات وصور؛ فإن الشاعر توسل بالطبيعة وبالحواس، في تداعياتهما المختلفة، من خلال معجم رحب حيث السماء والبحر والليل والعين والسمع والريح والماء والحجر والطير والحيوان.. وما إليها، كي يرسم لوحات فنية تعيد للقصيدة بريقها. وإذ تحضر الطبيعة، بشكل لافت في الديوان، فباعتبارها وسيلة لا غاية. فما رسمه الشاعر من معان كالخوف والحلم والموت والألم والغموض والسفر وغيرها، كان بلغة الطبيعة. وليس غريبا أن يصرح الشاعر نفسه ذات حوار بأن الطبيعة هي اللغة وهي القصيدة. يقول في نص «دمعة النهر»: (ص93) سحابة المساء تحط رحلها آخرة الطريق ليل وما مضى كان دما على الأشجار وكان غرقا في البحر. وفي سياق آخر، تحضر الأفكار كما تحضر الرموز والأبعاد الفلسفية، تدعونا للتأمل وإمعان النظر في خلفياتها ومرجعياتها. يقول في آخر مقطع من نص «قال الأعمى»: (106) قال لي: الأعمى من لا يشهد في القيثار صلاة العشب من لا يبصر في البحر مكتبة الطير من لا ينظر في الريح أجنحة الحلم. وبالحلم يهتدي الشاعر. وبالحلم يرتقي. وما استحضار «البراق» في هذا الديوان إلا رمز لسفر افتراضي بحثا عن عمق الأشياء وسر الوجود وجوهر الحقيقة. وإلى جانب كل هذا، لم يغفل الشاعر حرصه الشديد على نغمية نصوصه، بما وفر وهيأ لها من إمكانيات إيقاعية كثيرة، جسدت، بشكل وبآخر، ذلك التوازن المطلوب بين الفكر والوجدان والموسيقى. توظيفات إيقاعية، مختلفة ومتنوعة، انسجمت وإيقاع الحياة المعاصرة، وانصهرت وحركية الذات الشاعرة، في تفاعلها وانفعالها بالعالم الجديد. إن ديوان الشاعر عبد الكريم الطبال «أيها البراق» يستحق أكثر من قراءة، لما توافر فيه من جهد فكري ومن جهد إبداعي واضحين، حقق للنص شاعريته وجماليته. فيا ليت البراق يسعف الشاعر ثانية، كي يكتب قصيدته التي لم تنكتب بعد.. وتلك أمنية. إحالات: عبد الكريم الطبال. أيها البراق. سليكي إخوان طنجة. 2008