انتهت ظاهرة حزب الدولة ودولة الحزب في أوربا الشرقية بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، غير أن هذه الظاهرة ظلت تمانع رياح التغيير واستمرت ضدا على إرادة الشعوب في عدد من دول العالم الثالث بأشكال متفاوتة ومختلفة نسبيا في بعض مظاهرها وتفاصيلها عن الأحزاب التي كانت تحكم في دول أوربا الشرقية، بينما ظلت في مجموعها بمثابة رمز لتغييب الديمقراطية وهيمنة اتجاه أحادي يستبد بالسلطة ويحتكر الثروة. واستمرار بعض النماذج من حزب الدولة لا يعني أنها ذات جدوى أو أنها مقبولة من طرف الشعوب التي ابتليت بها وإنما هي مفروضة بالقوة وتستند في وجودها وهيمنتها على دعم الدولة ونفوذها، بل هي في معظم الحالات جزء من الدولة بشكل سافر أحيانا وبصورة مستترة أحيانا أخرى. واستناد بعض الأنظمة السياسية على حزب تصنعه هي نفسها أو تدعمه وتهيئ له شروط "الاكتساح" ليصبح حزبا "أغلبيا" خارج قواعد التنافس المتكافئ ينطوي على توجه ذي طبيعة استبدادية لأنه يقوم على تزييف الخريطة السياسية بالنفخ في كيان وهمي أو محدود الانتشار في مقابل محاولة استئصال أو تقليص قوى سياسية أخرى نابعة من المجتمع ولها حضورها وتمثيليتها داخله، وذلك بهدف فرض توجه سياسي معين وضمان استمراره بشكل تحكمي دونما اعتبار لإرادة الفئات العريضة من الشعب. وحينما تختلق الدولة أو تدعم حزبا أو أحزابا معينة لتكون سندا لها فيما تود فرضه من سياسات فهي حتى لو لم تقم بتزييف الانتخابات لصالح الحزب أو الأحزاب الموالية فإن مثل هذه الأحزاب عادة ما تكون بمثابة مركز جذب لذوي المصالح الخاصة والوصوليين والمتسلقين اللاهثين وراء الامتيازات، ويحلق حولها الانتفاعيون والفاسدون الذين يراكمون الثروات بوسائل ملتوية أو غير مشروعة ويرغبون في المزيد مع الحماية السياسية التي يفترضون أنه لا يمكن ضمانها إلا بالاحتماء في الحزب الموالي للسلطة أو القريب منها، وفي غياب نظام انتخابي يساعد على ترجيح البرامج بدل الأشخاص ويفسح المجال للنخب السياسية المؤطرة والمؤهلة بدل محترفي الانتخابات فإن حظوظ "الفوز" تبقى مفتوحة أكثر أمام العناصر التي تختار الاقتراب من السلطة للأسباب المشار إليها. وقد أثبتت التجارب أن الاعتماد على حزب الدولة أو على أحزاب موالية للسلطة يؤدي إلى كثير من العاهات والاختلالات في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يمكن الإشارة إلى أهمها وأبرزها فيما يلي: عرقلة أي توجه نحو الديمقراطية التي تقوم على التعددية الحزبية التلقائية والمعبرة عن التباينات داخل المجتمع والتنافس بين القوى السياسية على أسس متكافئة في ظل سيادة القانون وحياد الدولة. عرقلة التحديث السياسي للدولة بفرض نمط عفا عنه الزمن وتعطيل دينامية الاجتهاد التي لا تعطي ثمارها إلا في مناخ الديمقراطية التي تضمن تداول السلطة. تشويه المشهد الحزبي وتزييف موازين القوى داخل المجتمع السياسي وإفساد الحياة السياسية وما يتبع ذلك من مساس بمصداقية العمل الحزبي وعزوف عن المشاركة وتهميش للطاقات الخلاقة. تدبير الشأن العام بأسلوب تحكمي وسياسة إقصائية واحتكار السلطة من طرف فئة ضيقة وما ينتج عن ذلك من استغلال النفوذ والمس بالحريات وانتهاك حقوق الإنسان واحتكار الثروة وفساد مالي وتدهور اقتصادي واجتماعي. إحداث شرخ واسع بين الطبقة الحاكمة والفئات العريضة من الشعب وما يترتب عن ذلك من تغييب للقضايا الحيوية للطبقات الشعبية مما يؤدي للتذمر والاحتقان الاجتماعي. وقد أثبتت التجارب في شتى مناطق العالم أن حزب الدولة كان في شكل حزب وحيد أو في صورة حزب سلطوي مهيمن مع وجود تعددية مقيدة أو صورية فإن الاعتماد على الحزب السلطوي أو "الأغلبي" من أجل استمرار نفس التوجه في الحكم يكون مآله الفشل وقد ينتهي بثورات شعبية سلمية كما حصل في تونس ومصر، ويمكن أن ينتهي بالعنف وما ينتج عن ذلك من كوارث ومآسي. وقد عرف المغرب سنة 1963 الحزب الموالي للسلطة والمدعوم من طرفها ضدا على التعددية النابعة من المجتمع وسجل التاريخ ما عرفته البلاد جراء ذلك من تطورات سلبية ( أحداث دموية، إعلان حالة الاستثناء، تراجعات في دستور 1970، تراجعات في قانون الحريات العامة، محاولتين انقلابيتين، انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان...)، وتوالت عملية اختلاق أحزاب موالية عُرفت لدى الرأي العام الوطني بالأحزاب الإدارية، وتسبب وجودها في تمييع التعددية الحزبية وإفساد المشهد الحزبي والحياة السياسية بوجه عام. وكل محاولة للعودة إلى تجارب أساءت إلى الحياة السياسية بالمغرب ولو بصورة مختلفة لن تؤدي إلا لمزيد من تأزيم الوضع، في الوقت الذي يتطلع فيه المواطنون إلى مشهد حزبي لا لبس فيه، وإلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي، وإزالة عوامل النفور التي تحول دون المشاركة الواسعة للشباب والمواطنين عموما، والمضي قدما في الإصلاحات السياسية والدستورية لبناء ديمقراطية سليمة وتحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، وتشييد مجتمع الكرامة والاطمئنان ودعم الاستقرار.