كان البرد شديدا.فرك الطفل كفيه، بحركات سريعة، فأحس ببعض الدفء..لكن البرد لم يغادر المكان..يكاد يراه ، بل هاهو يزاحمه في ركنه المعهود.كان يلبس صفائح ثلجية،وينتعل أحذية ضخمة من جليد، ويضرب الأرض بقوة. ضم الطفل ركبتيه إلى صدره،ومسد ذيل فروة الخروف، وخطف نظرة سريعة من المائدة المشدودة بأرجلها الثلاث إلى الحصيرالذي توزعته فروة، أو فروتان، ووسائد مختلفة الألوان والأحجام. كان الدفتر،بغلافه البلاستيكي الأخضر،مفتوحا على الصفحة الأولى: القسم التاسع.بدت له العين أشبه بقط صغيراستشعربدوره البرد المستشري بالمكان دون أن يحرك ساكنا. فرك الطفل كفيه،من جديد،ثم كور اليمنى ، ونفخ فيها نفخات متوالية،وانتقل إلى اليسرى ،ونفخ نفختين سريعتين، وقرب قلم الحبر الجاف من الدفترالمفتوح على مصراعيه.تراجع إلى الوراء،وضم ركتبيه إلى صدره.كان المصراعان أشبه بجناحي طائر.أفرد الطفل ذراعيه، فطار بعيدا،غير عابئ بالبرد الذي ازدادت حدته في هذه اللحظة بالذات..ورأى، وهو يعبر رغوة السحب الباردة، منازل مقرمدة بمدافئ عالية ترسل دخانا دافئا، ورائحة فطائر تفوح بها نوافذ مفتوحة لايقترب منها البرد..ورأى كؤوس القهوة بالحليب والقرفة، وبجانبها كأسه الأثيرة التي تعلوها قشرة الحليب المتخترة، فلم يتردد في كشطها بإبهامه متذوقا طعمها اللذيذ... هكذا.. قرب الطفل إبهامه من فمه، دون أن يتوقف عن الطيران..ورأى أطفالا يغادرون منازلهم بمعاطف سميكة ترسل شرارات ساخنة من بعيد..وأطفالا بمعاطف أخرى واقية من المطر فوق معاطفهم الصوفية..ورأى، أيضا، أطفالا آخرين ينسابون من بوابة المنزل بأحذية ذات رقبة، بعجلات صغيرة، وهم يندفعون نحو حافلة صفراء كانت تصدح بأنغام ناعسة شبيهة بأنغام سيارة» لاكريم»،التي تعزف موسيقى الملائكة طوال رحلتها بالمدينة..وأحس ، في هذه اللحظة، بقطرات باردة متتابعة، تتراقص فوق ذراعه ، أو جناحه، الأيمن.. كان السقف الوطيء يرشح بقطرات متباعدة النزول.. أبعد الدفتر قليلا،ومد رجليه، ثم عاد إلى ثنيهما ، من جديد،وانحنى على المائدة الملتصقة بالحصير،وأمسك بالقلم ورسم دائرة، انبثقت منها أشعة عديدة، فاشتعلت شمسا نشرت الدفء بالمكان،ورفع الدفتر،عاليا،نحو السقف،وسلط عليه أشعة الشمس الوهاجة،فغابت القطرات دفعة واحدة...وقلب الصفحة، ورسم مدفأة،وعلى اليمين وضع كوبا ضخما من القهوة بالحليب.. لا يهم .. كان يخلو من قشرة اللبن الأثيرة، ولكنه كان دافئا، برائحة القرفة..ولم ينس الفطيرة السائلة بالمربى والزبدة ذات الرائحة أيضا.. المربى ، بدوره، كانت له رائحة..وقلب الصفحة الموالية، وبدأ يكتب،بأصابع محمرة.. تسقط الأمطار في فصل الشتاء...