القرار كيفما كان سياسيا أو اقتصاديا ذو أهمية بالغة في رسم مسارات الأمم والشعوب، لكن آليات تصريف تكون أكثر أهمية لأن هذه الآليات هي صمام الأمان لقيمة القرار من جهة، ومن جهة ثانية لأنها هي التي تمدد مصداقية هذا القرار أو ذاك من عدمه. وإشكالية تصريف القرارات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أصبحت إليهم من أهم الإشكاليات المطروحة على بلادنا، نظرا للتجاذبات التي تعرفها الحلقات المتصلة بكثير من القرارات التي تتحول إلى مجرد إعلان نوايا ولاتجد طريقها إلى التنفيذ لخلل ما في قناة تصريف، أو لرغبة في إقبار مصداقية هذا القرار أو ذاك، أو لإظهار نوع من القدرة على فرملة قرارات ولو استوفت كل الشروط والمداخل القانونية، ولعل المعارك الشكلية التي تصر جهات معينة على تبنيها أو التخطيط لها تؤكد أن بلادنا تواجه إشكالية حقيقية إسمها التضارب بين سلطة القرار، وآليات تصريف القرار، لذا نجد أن بلادنا مثلا تتوفر على ترسانة مهمة وقوية من القوانين الكفيلة بتحقيق الكثير من العدالة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، إلا أن قنوات تصريف هذه الترسانة تكون جدارا سميكا لضرب عمقها وقيمتها وصديقتها ومصداقيتها، فتكون النتيجة مجهودات جبارة، ونقاشات جوهرية، مقابل فرامل مصطنعة تحركها لوبيات متعددة الأوجه، وتصبح تلك الفرامل التي تشبه الحواجز الاسمنتية المنصوبة داخل طرقات مدارنا الحضري والخاضعة لكثير من المزاجية و»كلها وعباروا«، من عوامل تكريس واقع انعدام الثقة في قيمة المؤسسات والهياكل والاختصاصات الموكولة لها، فتصبح الكثير من القرارات الجوهرية في خبر كان، لأن أمر تصريفها عوض أن يكون مرتبطا بالقانون يصبح مرتبطا بطبيعة الشخص أو الأشخاص، والأخطر أن يرهن التطبيق أحيانا بمواقف ذاتية لا علاقة لها بالقوانين. الأمثلة كثيرة لهذه الصورة غير الإيجابية في مناحي متعددة من حياتنا السياسية التي يمكن أن نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر قانون الأحزاب، الذي كان هدف إقراره تخليق الحياة السياسية، فإذا به يصبح مجرد واجهة شكلية، بعدما انتشرت كل الظواهر المناقضة لروحه وفلسفته، وفي حياتنا الإقتصادية لازالت هفوات كبرى تواجه الاستثمارات، رغم قيمة المجهود لتطوير البنية القانونية، ويمكن أن نأخذ على سبيل المثال ما يعرفه قطاع السكن من مضاربات، واستمرار ارتفاع أثمنة العقار، والتلاعب في استثمارات الدولة لمواجهة السكن غير اللائق، ومدن الصفيح من طرف لوبيات تكاد تكون معروفة، رغم أن المجهود الذي بذلته الدولة كان مهما لتحقيق مشاريع سكنية لذوي الدخل المحدود، وما تبقى من الطبقة المتوسطة، التي تعمل بلادنا جاهدة إلى إعادة تكوينها باعتبارها حلقة أساسية في التوازن الاجتماعي. إن المسؤولية الجماعية التي أكد عليها جلالة الملك في خطاب العرش تجعلنا جميعا سياسيين واقتصاديين، ومجتمعيين وإعلاميين أمام مسؤولية كبرى في الحرص على أن يتم تصريف القرارات الاستراتيجية الكبرى وفق ما وضعته له، وتجعل من مهامنا الحرص على بناء قنوات سلمية لتصريف القرارات وفق ما تقتضيه المصلحة العامة، لا وفق ما يخدم مصالح فئوية أو لوبيات أو أفراد.