في سيرته الذاتية «مثلَ صيفٍ لن يتكرَّرَ» يتخذ الكاتب المغربي الكبير محمد بَرّادة مايُصْطَلَح عليه بتقنية الْمُزاوجة أوالْمُقابلة في عملية السّرد. ولعل ذلك مادفعه إلى تجنيس عمله ب)محكيات( لأنه لم يلتزم في كتابته خطا تصاعديا، يشكل في النهاية حياة بطله )حَمّاد(الذي هو نفسه. إذ يحكي، منذ البداية، عن الحوافز التي أغْرَتْهُ بالسفر إلى مصر أولا، ثم إلى فرنسا ثانيا، لكن حكاياته عن القاهرة تَحظى بحصة الأسد، ولاترِد باريسُ، وإن لعِبتْ دورا هاما في تَحديث ثقافة السارد، إلا عَرَضا. ويبدو من القراءة العامة للنص، أن الكاتب كان يريد كتابة سيرته في مصر بصفة خاصة، لكنه ما أن قطع مسافة ليست بالطويلة، حتى أخذ يُلَمْلِمُ ذكرياتِه، ويُفْرِغها في أشكال حكائية ومقالية، سواء كانت مرتبطة بِمَرحلة تلمذته الأولى، أوتلك الْمُرتبطة بمرحلة أستاذيته. فالْحَكي يتخذ له رافدين:رافد الْماضي، ورافد الْحاضر، حيث يتناوبان في سَرْدِ الْمَحكيات. كما أنه يتوقف بين الفينة والأخرى، وهو يَحْكي عن القاهرة، ليعود إلى فاس، فيُجْري مقارنةً بين طفولته هنا وفُتُوَّته هناك. أوبين المظاهر الاجتماعية في مصر، وأُخْتِها في المغرب، ليستنتج من خلال هذه المقارنات أسبقيةَ الأولى عن الثانية. وفي ذلك يقول، قبل أن ينطلق الْحكيُ:»..هناك بداية مطلقة وما سيكتبه يبدو مسرْبَلا بالخيالات متداخلا في الزمان والأمكنة يتشيد بالكلمات، لكن سرعان ماتَهُدُّهُ استذكارات أخرى تنبثق فجأة من أحد منعطفات اللاوعي. فكَّرَ قليلا، ثم أضاف، سأكتب مايتسابق إلى الذاكرة ثم أضيف ما أستدركه وتُوَشِّيهِ المخيِّلة...». والمزاوجة أوالمقابلة، تقنية تُبْدي مدى الوعي الذي يُوَظِّفه الراوي في رؤيته للأشياء، وتمييز بعضِها عن بعض، وسنأتِي بأمثلة لنستشهدَ بِها على ذلك. لكن، ما الذي جعلنا نُجَنِّس هذا العمل بالسيري؟..أليس في ذلك تعسُّفا، خصوصا وأن الكاتب حدّد بنفسه، منذ البداية، في الطبعة المغربية، وعلى الغلاف الأمامي، أن ما يَحْتضنه كتابه هو))مَحْكيات (( ليس إلاّ! غير أن الأحداث التاريخية، وأسْماء المدن والأحياء، والمواقف والأشخاص، والمقارنة بينها وبين ماورد في بعض السِّيَر الأخرى، ك((خطوات في الرمال)) يُظهر أنه مقتطفات، كادت تُشَكِّل عملا سيريا متكاملا. وهكذا نجد، مثلا، أن محمد برّادة، الشخصية المحورية، يصبح في النص الورقي )حَمّاد( و إبراهيم السّولامي)برهوم( وعلي أُمْليل)علاء(...وتلك هي اللمسة الفنية التي يُضْفيها على عمله. أما ماعدا هذه الشخصيات المغربية، فإنه يستحضرها في محكياته بأسْمائها الحقيقية، لأنها تاريخية تؤدي وظيفتها الثقافية أو السياسية أو الفنية، مثل عباس محمود العقاد ونجيب محفوظ وجمال عبد الناصر وصلاح جاهين وأمل دُنْقُل...وفي الطبعة الثانية الْمِصرية، يُؤَشِّر على الغلاف )رواية(! وهنا تَحضرنِي قولة ل(سيجموند فرويد) شبه فيها الأديب الْمبدع بالطفل اللعوب!..لأن هذا النص يحتمل أكثر من تجنيس، كأنه لعبة في يد لاعبها. وبنية السرد لاتلتزم بقواعد الكتابة، التي تعوَّدنا عليها، كالْمَدخل، والأزمة، والنهاية الْمُضيئة أو البديل، بل لاقواعدَ غيرَ تشظي النص إلى (محكيات) منها (الْمَعيش) ومنها (الْمُتَخَبَّل) أو(االآني) و( الْمُستحضر).. أي لعبة تبادل الحكي بين الواقع والاستذكار أوالاسترجاع!.. وحتى اللغة تُشَخِّص هذه اللعبة، فكثيرا ماتصادفك كلمات من قبيل: الطفو، القفز، لعبة، التّسابق...أو تُباغتُكَ أسْماء مُحَرَّفة، مثل حَمّاد (مُحَمَّد).. وبه كان يُوَقِّعُ أعْمِدَتَهُ النَّاريَّةَ بِجريدة ((الاتحاد الاشتراكي))! وإذا كان هذا العمل يحتمل أكثر من تجنيس، كما سلك الكاتب في الطبعتين، وإن لم ينهج تقنية الكتابة السيرية؛ فهو ينطلق من سن ((تقترب من السابعةَ عشرةَ)) عاما، ليرحل إلى القاهرة قصد الدراسة )) لأن التعليم بالعربية في المدارس الحرة التي أنشأتْها الحركة الوطنية(( لايتخطّى عتبة الباكالوريا. ثم يُبْدي أسباب توجُّهِه إلى القاهرة، بدل دمشق أو بغداد، فيذكر أن ذاكرته تختزن مشاهدَ كثيرة من الأشرطة والأغاني وأسْماء الأدباء. ولكنه ما أن يصلَها، حتى يُدرك أنّه )) يرتاد عالَما مَجهولا لاعلاقة له بِمّا شاهده في تلك الأفلام الرومانسية الأنيقة..(( وهي ملاحظة دقيقة، لأن من يزور مصر اليوم، يلحظ بأمِّ عينه أن فرقا شاسعا بين مايشاهد في الْمُسلسلات والمسرحيات والأشرطة والأغانِي المصورة...والواقع! ويُحِس القارئ أن الكاتب يقفز على مراحل من حياته، أو يختار منها مايناسبه، فيغض الطَّرْف عن الباقي، وإن كانت له قيمة تاريخية، لأن بعضه يجَسِّد مُعاناة الطّلبة المغاربيين في حرية التنقل، والسفر إلى الدول العربية لمتابعة دراستهم الجامعية. ومن أراد أن يطّلع على هذه المعاناة، فلْيَرجِع إلى ((تلك الأيام)) لمحمد التازي و ((خطوات في الرمال)) لإبراهيم السولامي، و((القاهرة تبوح بأسرارها)) لعبد الكريم غلاب...إذ لَمْ يكن من اليسير عليهم أن يحققوا طموحاتِهِم الدراسية، وآمالهم في التطور والازدهار، دون أن يتعرضوا للاعتقال والتعذيب، لأن الْمُستعمرَ الغاشم كان يَعمل عَبَثا على الْحَدِّ من أي تواصل ولو ثقافي أو لغوي بين المغرب والمشرق. وعلى سبيل المثال، نشير إلى أن كاتبنا، وإن لم يورِدْ في مَحْكياته شيئا عن رحلته إلى فرنسا في بعثة لوزارة الشبيبة والرياضة، فإننا نقدمها نَموذجا للطريقة التي سلكها العديد للسفر. فبعد أيام، قضاها هناك بين الوفود المغربية والفرنسية، وشارك فيها بأنشطته، غافل المسؤولين عن البعثة، وقصد مرسيليا، تاركا كل أغراضه وكتبه ووثائقه، كيلا يَشْعُروا بِهُروبه، فامتطى باخرة متوجهة إلى إيطاليا، ومن ثَمَّ إلى الإسكندرية. ويتخطى هذه الحكاية، فيشير في (عتبة) الرواية إلى بداية الرحلة، التي كانت ((من ركوب السفينة بالدار البيضاء يوم 13 يوليوز 1955 باتجاه مرسيليا، أو من محطة القطار بباريس في مطلع النهار وهو يتجه إلى روما))..ويزيد مُوَضِّحا: ((ولايعرف لماذا يتذكَّر كثيرا وجهَ ذلك الرجل الإيطالي الذي التقاه على ظهر الباخرة من نابولي إلى الإسكندرية)) صفحة 27. ثُمَّ ينتقل إلى سَرد مَحْكياته، أوخيوطٍ من حياته، سواء في القاهرة أوفي فاس أوفي باريس، فنجدها تُرَكِّز على أربع مَحَطاتٍ أساسية، أوكما يسميها (عتبات): علاقة حماد بأصدقائه المغاربة، فيبدو، أحيانا، متبرِّما من (الرباطيين) مطمئنا إلى (القنيطريين) وإن كانوا جميعا في الهم سواء. كما يبرز علاقته بأساتذته، والأدباء المصريين، وبالأخص عباس محمود العقاد. وبالْمُناسبة، لاتوجد سيرة أديب مغربي، لم تتناول شخصيةَ العقاد، أكثرَ من أي أديب آخر. ويُعَلِّل برادة هذا السِّرَّ ب((أن اسم العقاد دائما كان مرفوقا ب(الكاتب الكبير) ولأن لغته كانت دقيقة وموضوعاته متنوعة...وكانت قصص كثيرة تُروى عنه تجعل منه عِمْلاقا سليطَ اللسان، قوي الشخصية)) لكن، في رأيي، أن هناك سببا ثانيا، وهو أن العقاد كان يستقبل العُمومَ من الطلبة والْمُثقفين كل جمعة ويحاورهم. ومازال لحد الآن؛ فعندما زرنا (أسوان) قصدنا غرفته، ولبسنا ثيابه وقبعته، بل جلسنا على أريكته ونِمنا فوق فراشه، وتوكَّأنا على عكّازه وفحصنا مكتبته، كأنه حاضر معنا! وهكذا يبقى بيت العقاد مفتوحا في حياته ومَماتِه!..عكسَ الأدباء الآخرين، الذين وإنْ أنشأوا صالوناتٍ، فإنَّهم خََصُّوها للنخبة من الكتابِ والشعراءِ والصِّحافيين والفنانين! وفضلا عن العقاد، أفرَدَ برادة صفحاتٍ للروائي العالَمي نجيب محفوظ، ولروايته ((الشَّحاذ)) إلاّ أن حديثه عنه، ينْحو إلى القراءة النقدية لأعماله، ولم يتناولْه كشخصية عاشرها، مثلَ العقاد!..وعدا هذين الأديبين العملاقين، فإن لقاءاته الأخرى مع شعراء وفنانين، كأمل دُنْقل وصلاح جاهين، أتتْ شاحبة، لَمْ تُسْتَثْمَرْ في تشكيل النص. علاقته ب(الثورة الناصرية) التي جَسَّدتْ أحلامَ وآمالَ الجيل الجديد في تحدّي الغرب، فقد عُدَّ التَّأْميمُ (إنجازا عربيا كبيرا) أعاد الاعتبار للشخصية الْمِصرية. وأحسّ ( الفرسانُ الْمَغاربة الثلاثة) بالفخر، وهم يعايشون تلك ((الأيام الرائعة والحاسِمة، التي جعلتهم يشعرون بانتِماء عميق للمصير العربي..)) وأعلنوا مع طلبة المغرب العربي عن مساندتِهِم وتطوعِهِم لحماية قناة السويس. وبالفعل، تلقوا تداريب بإحدى مدارس (الدُّقي) لِمُقاومة الأحياء. وهنا يستحضر حماد تلك اللحظات، وهو ((يَحمِل على كتفه الهزيل البندقية الطويلة. كان جسمه، آنذاك، نَحيلا وملامِحُه لم تتخلص تَماما من طراوة الطفولة رغم أنه أطلق شاربه على الطريقة الْمِصرية)) والخلاصة أن هذا الْمَوْقف النضالي الْمُبَكِّر للطلبة الْمَغاربة يُبْدي تلاحُما متينا بين الشعوب العربية. علاقته بالْمَكان، وأقصد العاصمتين الثقافيتين (القاهرةوفاس) فلم يستطع أن ينسى مدينته، وهو يتجول في القاهرة، إذْ تَمْثُل بين عينيه كلَّ حين عندما ((يتيه بين طرق القاهرة الْمُتَضَوِّعَة بعَبَق التاريخ والأجساد والروائح والْمَلابس)) تتراءى له ((فاس القديمةُ وأسواقُها)) وحتى لَمّا يلتقي بإحداهُنَّ، يتذكر تلك الأفلام التي كان يشاهدها في سينما (بابْ بوجْلودْ) بفاس، وهذا الْمَشْهَد يتكرر في النص الروائي. علاقته ب(أم فتحية) التي كانت تُشْرف على شؤون البيت، لم تكن علاقة عادية، إذْ يبدو من حضورها القوي في جُل الْمَحْكيات، أنّها كانتْ، بالنسبة، إليه، أُمّا ثانية بِمِصرَ، بعد أن ترك أمّه الحقيقية بالْمَغرب. وأم فتحية، هي امرأة من النوبة، لونُها أسْمرُ داكن، تبلغ من العمر حوالي ستين عاما في نظر السولامي، أربعين سنة في نظر برادة. يقول عنها السولامي)) :كانت أم فتحية على رأس هؤلاء الناس. لقد كانت أُمّا من نوع آخر، رائعةً ومحبوبةً، وهذا ماجعل علاقتنا بِها قوية ومحترمة)). ولاننسى أن هؤلاء (برادة والسولامي وأُمْليل..) كانوا فتيةً، لايتجاوزون السابعةَ عشرةَ ربيعاً. فلا غَرْوَ أن نجد أمَّ فتحية، تَشْغَل حَيِّزا كبيرا من الرواية. حتى أنه كان، عندما أنْهى دراسته وعاد إلى الْمَغْرب، يزور القاهرة من حين لآخر، فيبحث عن أم فتحية ليصِل بِها الرَّحِمَ! ولعل القارئ سينتبه إلى حضور هذه الْمَرْأة في النص، وعلاقة الكاتب بِها، مِمّا يَنِمُّ عن حِِسٍّ إنسانِي نبيل، لانلمسه إلا في ارتباط الابن بأمه! ونستشهد بِهذا الْمَقطع، الذي يجسد تلك العلاقة الحميمية: (( في نِهاية زيارته تلك للقاهرة، أحس حماد أنه فقد شيئا ثَمينا: ما يشبه جزءا من ذاته الْمُدَّخرة التي يلجأ إليها لِمُواجهة التفاهة والكَدر والشعور بالزوال. وفي مرات تالية، حاول البحث عن أم فتحية بدون جدوى. ثم بدأ يتعلق بِهذه النهاية التي لم يكن يتوقّعها. يقول في نفسه: لعل ماحدث أفضل. تظل أم فتحية محتفظة، في ذاكرتي، بصورتِها الْمُتَدفِّقة حيوية يجَلِّلُها بَهاءٌ خاص، وكلماتُها مستقرة في الأعماق، وهي هي، الْمَرأة الآتية من تُرْبة عريقة ومن قاع القاهرة، حولَها هالة من الكلام والبسمات والضحكات تجعلها منغرسةً فيما حولَها ومنفصلة عنه في آن. لم تكن علاقة خِدْمة تلك التي جمعته هو وأصدقاؤه بأم فتحية)) ويتساءل في الأخير: ((ماذا نسمي العلاقة التي تتحول إلى لحظات مُمَغْنَطَة ما أن تلمع في الذاكرة حتى ترتج بالفرحة والغِبطة وبِما لاتَسَعُه الكلمات؟)). إذن، تتعدد (الْمَحْكِيات) أو (العَتَبات) التي تَضُمُّها دَفَّتا الكتاب، لكنَّ هَدَفَها واحد، وهو في كتابة مُسَرْبَلة بالخيال والحلم، والزمان والْمَكان الْمُتداخلين، والرحيل إلى الْمَناطق الْمَنْسية من اللاوعي..كل ذلك يُشَيِّد مايُمْكِنُنا أن نُطْلِقَ عليه: لُعْبَةَ الْحَكْيِ!..فهل كانت لعبةً هادفةً؟..هذا ما نأملُهُ!