لعل أبرز ميسم مميز للتجربة الإبداعية للشاعر محمد بشكار هو كونها أولا تجربة متشابكة الأبعاد تحلق عاليا فوق أسوار مفاهيم (الجيل) بتعاقدات كتابة شعرية بارعة في تشييد محافلها الخاصة. إنه ليس شاعرا موسميا، بل وردة الرياح ذات المنشأ الغامض، التي تلقح بذرة كل فصول الشعر من بداية الثمانينات إلى الآن. وثانيا، لكونه شاعرا يحب أن يكون لوحده وليس في الصف، يضع قدميه في نهر الشعر ليعمد خطره الشعري بأمومة الينابيع، تاركا شهقة ميلاد قصيدته تشرد في المصبات العميقة للهدير اللانهائي للبحر وأزرق أفق الشعر حيث تتوحد أرض الكينونة بسمائها. هكذا هو، كما في ديوانه "حلم أعلى الوسادة" المميز بتشكيل إيقاعي فريد، يجعل من بلاغة التكرار ك(أثر عائد) الأرغن الذي يعزف النشيد الكوني للقصيدة، وانتظام أنفاس الشعر في إيقاع (زمن دوري) يعيد المتشابه إلى ذاته كفقدان ينشد الاكتمال، حيث النص جملة واحدة، لكن الكينونة وجود متعدد الأقدار والمصائر، منزوع من مفارقاته التراجيدية، ومعاد إلى (رحم - أصل) ينجب من استعاراته المتشابهة الألوان الطيفية للمعنى المغاير، الذي ينسف الوعي الثبوتي لمقولة (ليس في الإمكان أبدع مما كان). يلجأ الشاعر في قصيدة "لا أطلب غفران الرسائل" إلى بلاغة التواتر من خلال لازمة استهلالية بخمس موجات:
-اليوم أطعم/ ناري كل الروايات.. -اليوم أنسى لتكبر/ ذاكرتي.. -اليوم أبعثني من/ رميم حروفي.. -اليوم أنسى لأبدأ/ من آخري.. -اليوم أغسل أجعل/ من قلمي عاملا للنظافة..
في الدرس البلاغي الحديث توصف بلاغة التواتر بالأنساق المتوازية وأيضا بمبدأ المساواة (...)، وهي في الأصل البلاغي القديم من ترصيعات البديع اللفظي وتندرج ضمن وصف (المقابلة) (...)، وفي قراءتها التي تنسج صنائعها من إستطيقا متخيل (الأثر العائد)، سنتعامل مع بلاغة التواتر باعتبارها (بناء إيقاعيا) لأزمنة الكينونة الشعرية. تلك الهندسات التي تبني مساكن الشعر في قلب العالم والوجود، وتحرر الذات من سطوة هيرقليطية الزمن-اللارجعة، مثلما تحرر اللغة من رسوخية الثابت والجاهز والنمطي لأنه لا معيار للكينونة إلا في جوهرها الحي الممتنع عن الإدراك والقياس وفي تحنيطات الوعي المفهومي للغة- الأداة، من خلال الذهاب إلى لغة ثانية، لغة أخرى تضع اللانهائي في تصادم مع النهائي، مولدة المعنى الشعري في تنسيباته الملقحة بدم الاختلاف. نقرأ من ذات القصيدة المشار إليها سابقا:
اليوم أُطْعِمُ ناريَ كل الروايات حتى تعود لمخطوطها في الرماد وأكتب ملحمتي. لن أعيش شخوصا وأزمنة غير شخصيتي وزماني. سأخلع عن جسدي ورقا سوّدته المطابع كي أرتدي ورقا من نسيج الطبيعة ينبت في شجر لا أعريه إلا ليسترني" (ص 24- 25).