لم يعد الاحتفال باليوم العالمي للأغذية ينفع، على ما يبدو، إلا في التنبيه إلى أن أزمة الغذاء في العالم تزداد حدة بوتيرة سريعة جدا ومخيفة، وليس للتذكير بالأهداف التي سطرت أول مرة، حينما أقرت منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة هذا اليوم، والتي قيل آنذاك إنها ترتبط بحق جميع الأشخاص في الحصول على أغذية كافية. لذلك لم يعد يوم السادس عشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) من كل سنة، الذي اختير موعدا للاحتفال باليوم العالمي للأغذية يحظى بأي اهتمام من طرف الرأي العام الدولي، ولا حتى من الجهات التي أقرته أول مرة، وتحول إلى مجرد يوم تستغله بعض الأوساط لتلوك نفس الكلام الذي يتردد كل سنة بدون فائدة تذكر. اختير هذه السنة لهذا اليوم العالمي شعار مركزي لم يخرج مرة أخرى عن التمنيات والآمال (الحق في الأغذية من أجل حياة ومستقبل أفضل) دون أن يتجاوز الاهتمام هذا المستوى من التعميم وحتى إنه يقترب من التعتيم على الإشكاليات الحقيقية المرتبطة أساسا بتفعيل وتنزيل رزم من الكلام والأحاديث التي تراكمت لحد الآن، ودون أن يتوفر تبرير مقنع للأسباب الحقيقية التي حالت لحد اليوم دون أن تتحول الأهداف المعلنة إلى واقع ملموس، وتجد ترجمتها الحقيقية والكاملة في برامج واقعية، تستجيب للحاجيات المعبر عنها والمطلوبة لضمان مواجهة فعلية لأزمة الغذاء في كثير من مناطق العالم. يبدو مفيدا أن نستحضر تصريحات لمسؤول بارز في الأممالمتحدة، أدلى بها قبل شهور من موعد الاحتفال باليوم العالمي للأغذية، والتي أكد فيها أن "منظمة الأغذية والزراعة اضطرت إلى قطع الغذاء والمدفوعات النقدية والمساعدات على ملايين الأشخاص في العديد من البلدان بسبب أزمة تمويل معوقة، أدت إلى انخفاض تبرعاتها بنحو النصف مع ارتفاع معدلات الجوع الحاد إلى مستويات قياسية". وأكد المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي السيد كارل سكاو هذه المعطيات الخطيرة، حينما كشف في وقت سابق بأن "38 دولة على الأقل من بين 86 دولة يعمل فيها برنامج الأغذية العالمي، عرفت بالفعل تخفيضات أو تخطط لقطع المساعدات عنها قريبا"، وقال في هذا الصدد، "إن الاحتياجات التشغيلية لبرنامج الأغذية العالمي تقدر بعشرين مليار دولار لإيصال المساعدات إلى جميع المحتاجين، لكنها تلقت خلال السنوات الماضية ما بين 10 و14 مليار دولار، وفي منتصف السنة الفارطة حصلنا على حوالي خمسة مليار دولار فقط". وأشار في مقابل ذلك، إلى أن "الاحتياجات الإنسانية ارتفعت ارتفاعا كبيرا بسبب جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وتداعياتها العالمية، وهذه الاحتياجات تزيد في النمو، لكن التمويل آخذ في النضوب، لذلك نتوقع أن تكون سنة 2024 أكثر خطورة"، ولم يتردد في القول بأنه "لاتزال أكبر أزمة غذاء والتغذية في التاريخ مستمرة هذا العام ولا يزال 350 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما يتعرض مئات الملايين من الناس إلى خطر تفاقم الجوع". ومن جهة أخرى، ووفقا لأحدث تقرير عالمي عن الأزمات الغذائية، صدر قبل أقل من سنة، فإن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد ويحتاجون إلى مساعدات عاجلة على صعيد الأغذية وسبل العيش زادت أعدادهم للعام الرابع على التوالي، إذ يواجه أكثر من ربع مليار شخص الجوع الحاد، ويقع أشخاص في سبعة بلدان على شفا المجاعة". وجاء في تقرير صادر عن الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية، التي هي في شكل تحالف دولي بين منظمة الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي ووكالات حكومية وغير حكومية تعمل على معالجة الأزمات الغذائية، أن 258 مليون شخص في 58 بلدا وإقليما قد واجهوا انعداما حادا في أمنهم الغذائي، وهو الرقم الأعلى في تاريخ التقارير التي أصدرتها هذه الشبكة. ومن جانب آخر جاء في مقال نشره قبل أيام المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة لتسجيل حضوره في الاحتفال باليوم العالمي للأغذية هذه السنة "أن قرابة ثلث سكان العالم لا يحصلون في الوقت الراهن على المغذيات الأساسية والدقيقة اللازمة لحياة مزدهرة، بل وفي بعض الأحيان لبقائهم على قيد الحياة، وهذا يعني أن نصف سكان العالم تقريبا بحاجة ماسة اليوم إلى تحسين نوعية حياتهم". هذا الإجماع على رسم صورة قاتمة حول أوضاع الغذاء في العالم، من طرف مختلف الجهات المتخصصة، يطرح إشكالية مصداقية الخطابات التي أطلق لها العنان حول تحسين الوضع الغذائي في العالم، وركام القرارات التي تم اتخاذها في مناسبات متعددة، والتي تؤكد مؤشرات تدهور الأوضاع الغذائية في العالم أنها لا تواجه عجزا كبيرا في تنزيلها على أرض الواقع وتحويلها إلى حقيقة معاشة فقط، بل تؤكد غياب إرادة دولية حقيقية للتصدي لأزمة الغذاء العالمي، ووجود مناطق التباس كثيرة محاطة ومسيجة بكثير من الشكوك، حول ما إذا كان الأمر مقصودا، بحيث يتم الحرص على استدامة هذه الأزمة وتوظيفها في خدمة مصالح استراتيجية كبرى تستخدم فيها شعوب مستضعفة دروعا بشرية في الحرب الضروس حول مناطق النفوذ الاقتصادي والجيواستراتيجي في العالم؟ هكذا يمر اليوم العالمي للأغذية هذه السنة كما مر في السنوات السابقة، إذ بينما يعلن الاحتفال به عالميا، فإن شعوبا كثيرة زادت حدة معاناتها من استفحال نقص الغذاء وارتفاع معدلات الجوع في العالم.