ربما لم يكن الرأي العام العالمي في حاجة إلى تقرير جديد يعكس حالة أوضاع حقوق الإنسان في أرجاء المعمور، لأن ما يعيشه العالم حاليا من انتكاسات حقيقية وخطيرة لحقوق الإنسان مما تتناقله مختلف وسائل الإعلام العالمية يغني عن تقرير جديد لا يضيف معطيات وحقائق جديدة، مهما كانت خطورتها ومهما اتصفت تداعياته بمخاوف وتهديدات مباشرة على مستقبل البشرية. ولكن مع ذلك، فإن الأصوات القليلة التي ما تزال تمتلك منسوبا ضئيلا من الجرأة دفعها للبوح بجزء من الحقيقة كما هي سائدة في الواقع دون مساحيق، يمثل دليلا جديدا على أن أوضاع حقوق الإنسان في العالم تتعرض إلى انتهاكات تصل خطورتها إلى مستويات غير مسبوقة. وهكذا حينما يكشف المفوض السامي لحقوق الإنسان السيد فولكر تورك، في تقريره السنوي الذي استعرضه قبل أيام قليلة من اليوم في أشغال الدورة 56 لمجلس حقوق الإنسان بجنيف عن معطيات صادمة، فإنه من جهة يعمق المخاوف من مصير حقوق الإنسان في مختلف أرجاء العالم، ويفضح بطريقة مباشرة تورط حكومات دول، لم يفتر حماسها في يوم من الأيام في الدفاع عن حقوق الإنسان في أقطار معينة بالعالم. المفوض السامي لحقوق الإنسان رسم صورة في تقريره الجديد قاتمة جدا عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم، بسبب ما سماها (النزاعات المسلحة واتساع الفوارق التنموية في العالم)، وقال في هذا الصدد إن "البيانات المتعلقة بعام 2023 تفيد بأن عدد الوفيات بين المدنيين في النزاعات المسلحة ارتفع بنسبة 72 بالمائة" والمثير للرعب حسب المسؤول الحقوقي العالمي أن نسبة النساء القتيلات في سنة 2023 تضاعفت، كما تضاعفت نسبة الأطفال الذين طالهم القتل ثلاث مرات مقارنة بالعام الماضي. كما أبرز من جهة أخرى أن "عدم المساواة عرف أكبر زيادة منذ ثلاثة عقود، حيث تلقت البلدان الفقيرة ضربة اقتصادية أعنف من جائحة كوفيد 19 مقارنة بالدول الأكثر ثراء، بل أصبح 4,8 مليار شخص أكثر فقرا مما كانوا عليه سنة 2019 ". ونبه المسؤول الحقوقي العالمي إلى أنه "بالإضافة إلى التسبب في معاناة إنسانية لا تطاق، فإن للحرب ثمنا باهظا يتمثل في أثرها بعيد المدى على البيئة من حرق الأراضي والتلوث الكيميائي للهواء والماء والتربة وتدمير البنية التحتية المدنية، وحتى وقوع كارثة نووية". وخلص إلى التأكيد على أن "المجتمع الدولي بعيد كل البعد عن وعد أجندة 2030، حيث يعيش ما يقارب نصف البشرية (3,3 مليار شخص) في بلدان تنفق حكوماتها على خدمة ديونها أكثر مما تنفقه على الاستثمار في أنظمة الصحة والتعليم لفائدة شعوبها". وبغض النظر عن التفاصيل المملة والمقلقة التي تضمنها التقرير الجديد، فإن المرء لا يحتاج إلى كبير جهد لاستخلاص ما يمكن ويجب استخلاصه من مضمون هذه الوثيقة المديدة ومن مضامين مراجع أخرى ذات مصداقية. ذلك، أنه يبدو واضحا أن الانتهاكات الخطيرة التي تطال حقوق الإنسان في العالم، وأن عشرات الآلاف من القتلى من المدنيين، من نساء وأطفال و شيوخ، ومن تدمير لأبسط معالم الحياة، سببها القوى العظمى بدرجة رئيسية، إن كان ذلك بصفة مباشرة من خلال النزاعات المسلحة التي وصلت حدود الحروب المباشرة، مما يمثل لحظات صدام حقيقية بين هذه القوى، على خلفية حسابات مصالح اقتصادية واستراتيجية، بل تعدت ذلك في حالات معينة إلى اقتراف جرائم إبادة حقيقية وجرائم ضد الإنسانية بتوفير جميع أشكال ومظاهر الدعم المباشر، المالي والعسكري والتقني والديبلوماسي والإعلامي من هذه القوى وبتمويل مباشر منها، أو على المستوى الاقتصادي حيث تنتهز الأوساط الاقتصادية المملوكة لهذه القوى أو التابعة لها استغلال المآسي والكوارث والصعوبات الاقتصادية لمراكمة الأرباح المالية الطائلة. ومع كل ذلك، وما يخلفه من تداعيات سلبية على الحياة فوق سطح الكرة الأرضية، تتجرأ بعض الأوساط الغربية لانتقاد خروقات بسيطة لحقوق الإنسان في أقطار بعينها، لكنها تبتلع لسانها حينما يتعلق الأمر بانتهاكات خطيرة تطال حقوق الإنسان في المواقع التي تصطدم فيها مصالح القوى الكبرى، أو حينما يتعلق الأمر بتصريف سياسات خارجية لحكومات الدول القوية، خصوصا الغربية منها. والأكيد، أنه بالقدر الذي يسود فيه القلق الحقيقي على واقع ومستقبل حقوق الإنسان في العالم من جراء النزاعات المسلحة وتغول المصالح الاقتصادية للقوى العظمى، بالقدر نفسه الذي يتأكد فيه زيف شعارات الغرب الذي يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، حيث جردتها التطورات الخطيرة الحاصلة في مواقع معينة من لبوسات المصداقية والنزاهة وقدمتها مجرد أدوات تنفيذ لسياسات خارجية معينة.